مصر ونداء صوت العقل؟
بداية،يطرح في رأيي المشهد المصري،الذي يروم بخطاباته الحالية نحو أزمات سيزيفية، ستكرر نفسها لامحالة بكيفية بلهاء،تأويلات حاضرة بقوة،من أجل تعقيد الوضع والانتقال به نحو حافة المجهول،أوضحها السيناريو الجزائري الدموي لسنوات التسعينات،عندما دخل الجنرالات والإسلاميين في متاهة حرب طاحنة،أتت على الأخضر واليابس،حيث ربح الجنرالات مزيدا من النياشين القماشية المزركشة وحفن أخرى من الدولارات،وخسرت الجزائر في المقابل، نصيبا كبيرا من التاريخ المعاصر،لما تموضعت طبقات جيولوجية متراصة من الحقد الاجتماعي،بين أبناء البلد الواحد :
أولا-أشارت بعض المقاربات السياسية،منذ فوز محمد مرسي،أن الولايات المتحدة الأمريكية،عبدت الطريق أمام الإخوان للظفر بالسلطة،سعيا لجعلهم يصطدمون فعليا،بالمشاكل العويصة التي يعانيها الشعب المصري،وبالتالي تفريغ مضمون نظريتهم. مخطط، أثمر نتائجه على الفور،ففي غضون أشهر معدودة أضاع الإخوان رصيدا راكموه لعقود طويلة.
ثانيا-سمعنا وسنسمع،أصواتا شعبية بل”نخبوية”للأسف،تتغنى حنينا إلى فترة مبارك،وتتباكى بكاء التماسيح على ما وفرته قبضته الحديدية من ضبط للزمان والمكان.شعور،لوث دائما أحاسيس الجماهير العربية،التي أصابها استفحال الاستبداد، بمازوشية مرضية تعكس سيكولوجيا المقهورين.إن ما يتبدى حاليا،على السطح المصري،من مساوئ على جميع المستويات،وقابلة للتطور أكثر،إذا لم يتحل الجميع بالحكمة سواء كان مؤمنا أم ملحدا،تعتبر نتاجا مباشرا وإفرازا منطقيا،لمدارات الفساد التي نسج خيوطها لولبيا مبارك وبطانته،على امتداد ثلاثين سنة.هذا الرئيس،الذي ذبح ببرودة مستقبل أجيال من الشباب المصري،ومع ذلك لم يعرف نهاية تساوسيسكو مثلا،لازال يسخر من شعبه ويحتقره،بارتداء قناع في شكل نظارة سوداء.فهل يمكن لمصر،أن تنعم بالاستقرار وتلج مرحلة بناءة؟إذا لم يحسم قضاؤها بكل شجاعة معنوية وأدبية،في طي نهائي عادل للملف، ومعه مرحلة تاريخية بأكملها من التآكل والانحطاط الحضاري.
ثالثا- إن إسرائيل،التي انتهت من العراق إلى الأبد،وتحسب الآن ربما الأنفاس الأخيرة لشيء اسمه الكيان السوري،تأتت لها أيضا هدية من السماء،كي تنفخ بما استطاعت في رماد الشرارة المصرية،حتى يصير حريقا مهولا،عبر حرب أهلية تنتهي بتفكيك الدولة القائمة،وتشجيع إثنيات ميكرو- وجودية.
رابعا- يجدر بحكومات دول الخليج،الارتقاء نسبيا صوب آليات التفكير الاستراتجي،البعيد المدى،والتخلص من شرنقة سلوكات البدو، الملتصقة بصغائر الأحقاد الشخصية والذوات المريضة،فالعالم العربي لا يتحمل مزيدا من الأخطاء القاتلة.بالتالي،إذا حظاها القدر بأكوام من النقود،فحري بها استثمارها بهدف إقامة بنية علمية رصينة داخل بلدانها،عوض توظيفها في “مساعدات” تقطر سما ومكرا،تتلاعب بمصائر الشعوب العربية،أكانوا مصريين أم تونسيين.بهذا الصدد،سنتابع صراعات ظاهرة وخفية،تتراوح بين الدين والفقهاء والفتاوي والمال والإعلام و”خبراء” الفضائيات-حيث يصبح الشخص بعد مداخلتين خبيرا في مجاله-بين السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت من جهة،ثم قطر في الجهة المقابلة.وصاية فوقية باسم حشو الأمعاء،ستبقي المصريين في الدوامة البلهاء للشيخ وغير الشيخ،التقي والمدنس،إلخ.
خامسا-ينبغي على سياسي من نوع عمرو موسى، الاختفاء والتوقف عن تقديم نموذج المنقذ، أو مثال الرئيس المنتظر،القادر على إخراج بلده من عنق الزجاجة.موسى،الذي اشتغل ضمن فريق مبارك لسنوات طويلة كوزير للخارجية،وبقي راضيا مبتهجا بما زخرت ميكيافليته.بعد ذلك،انتقل إلى رئاسة الجامعة العربية،ثم ظل أيضا مفوضا أمينا لتفعيل منظومة الإخفاق الرسمي العربي.أقول،من آيات المصداقية،أن يغادر في صمت الساحة السياسية المصرية،لأن دفاعه الحالي عن الدولة المدنية والليبرالية والدستورانية ،وتقديمه شباب ساحة التحرير حزمة النصائح العشر،تفنده ببساطة معطيات سيرته، غير الموحية بتاتا.فأدبيات الزعماء الفعليين،تؤكد بأن القائد هو الموقف،والموقف معناه حدس للسياق في صيرورته اللحظية.
هكذا تقدم مصر في الظرف الحالي،معادلات رياضية معقدة،بغية العثور على حل عام ونهائي لما بعد الإطاحة بمبارك،وتجربة الاحتكام إلى أرضية صندوق الاقتراع التوافقية، من أجل انتخاب رئيس جديد. ولاشك ،بأن مخاضها العسير،هو حقيقة الاختبار الأوحد والمشترك لباقي المجموعات العربية،سواء التي غيرت على الأقل رؤوس الحكم في انتظار بنيات النظم،أو الأخرى التي تترنح.
إذن، كيف سيتمكن المصريون،من الإفصاح عن مخزونهم من التحضر والتمدن،والتمسك بالعروة الوثقى المتمثلة في العقل والتبصر؟بهدف الخروج من التجاذب القطبي الأرعن ،الدوغماطيقي و المؤدلج، القائم على نزوعات تضليلية ديماغوجية،نحو رحابة الحلم ببناء دولة عصرية تستند على شرعية المؤسسات وليس الأشخاص،الفكر الإنساني الحر وليس الخطب الغوغائية،التطلعات التأسيسية نحو تحديث العقول، وليس الانفعالات الفارغة لمنظومة القطيع.
مشروع بناء الدولة المصرية،بعد سنين طويلة من فراغات شخصنتها،يقتضي بداية الإيمان المبادر لمختلف مكونات الشعب، بضرورة المساهمة الذاتية،دون عقائد قبلية اختزالية،للدفع نحو الأمام،بثقافة سياسية مغايرة تماما لما ساد سابقا. إنه السعي الموضوعي،المتجه نحو خلق مجال مجتمعي دينامي،ينطلق من التعدد وينتهي عند الاختلاف الإيجابي.اللحمة بين الذاتي والموضوعي،يكفلها الفضاء المؤسساتي، باعتباره الإطار المهيكل للمتغاير اللانهائي.
طبعا،توزع الرغبات بين صفوف المصريين،يعد أمرا في غاية الاعتياد.لكنه بعد حين،سيغدو سرطانا خبيثا، عندما يتحول إلى حقد أعمى بين الأطراف،وطقس كهنوتي يرجح ميزان تكتل على حساب آخر.فالحرب الدعائية المستعرة،بين أنصار رابعة العدوية وميدان التحرير،تشكل ضمنيا حربا رمزية بين رؤيتين مجتمعيتين متعارضتين مطلقا،يستحيل التوفيق بينهما، على الأقل في ضوء الثوابت الميتافيزيقية المتداولة،المغيبة للعقل.
الأشخاص عابرون،بينما الدول سرمدية.الانفعالات مضللة ، في حين العقل موجه أمين.