رموز افريقية خالدة2/2

0 439

[box type=”shadow” align=”alignright” width=”95%” ]

سعيد بوخليط

[/box]
**توماس سانكارا:
إنه تشي غيفارا إفريقيا،كما يحلو للبعض وصفه.سانكارا،لا ينتمي جيليا إلى الرعيل الأول من رموزالتحرير الإفريقي،غير أنه يصعب التأريخ لهؤلاء دون ذكره،لأن مشروعه السياسي ينهل من المبادئ الكبرى التي وضعوها،فكان هذا سببا كافيا للحكم بقتله من قبل المخابرات الأمريكية والفرنسية،بدعم لوجيستيكي من إفريقيين،خاصة نائبه وحليفه ورفيق دربه “بيليز كامباوري” الذي انقلب عليه يوم 15أكتوبر1987 .
ولد سانكارا سنة 1949،خلال حقبة لازالت بوركينافاسو ترزح تحت الاستعمار الفرنسي.اقتفى خطى والده فالتحق بالجيش الذي سيلعب دورا مفصليا في تفاصيل الحياة السياسية بعد الاستقلال سنة 1960 .رقي سنة 1980،إلى رتبة رائد في وقت دخل فيه البلد دوامة الانقلابات العسكرية،فكانت إحداها سببا لوصوله إلى كرسي الحكم سنة 1983،لكنه سيتخلص من بذلة العسكري الديكتاتور، ممتطيا صهوة الفارس الثوري.
سانكارا الذي ابتدأ حياته العسكرية في سن التاسعة عشر،غدا رمزا للمقاومة وخطيبا متفوها وقائدا إفريقيا هيمن على مخيلة الشباب المتعطش إلى مناهضة الاستعمار الغربي. كانت أولى خطواته،تغيير اسم بلده “فولتا العليا”،التوصيف الاستعماري القديم،إلى اسم جديد يحمل كل معاني النبل،إنه “بوركينافاسو” أو بلد المستقيمين أو المغاوير.
قيل، بأن الكلمة التي أسرعت بالاستخبارات الغربية،إلى إصدار قرار تصفيته،عندما خاطب يوما محفل الأمم المتحدة :((لقد جئتكم من بلد27400 كلم2 ،حيث سبعة ملايين من الأطفال والنساء والرجال يرفضون من اليوم الموت جهلا وجوعا وعطشا)). بالفعل،فقد شرع سانكارا منذ وصوله السلطة،في وضع خطوات برنامج طموح يهدف إلى تأميم المصادر الاقتصادية لبلده وتوظيفها لرفاهية الشعب،ضاربا بعرض الحائط تعاليم خبراء البنك الدولي.
أولى عناية خاصة للتعليم،والزراعة وحارب الرشوة والإنتهازية.عرف عنه تواضعه الجم، متخليا عن كل مظاهر الأبهة، بل يعتبر أول قائد إفريقي،يتخذ موقفا اجتماعيا من ظاهرة ختان الفتيات، فكان محبوبا من طرف الشعب.أما سياسته الخارجية،فقد اتجهت إلى دعم الوحدة الإفريقية،والتصدي للقوى الاستعمارية في مقدمتها فرنسا،التي استنفرتها باستمرار شعارات سانكارا المناهضة للإمبريالية.
النقيب سانكارا،بالكاد انطلق مشروعه حينما اغتاله صديقه “كمباوري”يوم 15أكتوبر1987،مدعوما من قبل فرنسا.هكذا، استمر حكمه فقط أربع سنوات،لكنه دخل التاريخ الإفريقي من أوسع أبوابه،مجاورا قائمة كبار صانعيه.
** ليوبولد سيدار سنغور:
سئل الرئيس السنغالي السابق،ليوبولد سيدار سنغور الملقب بحكيم إفريقيا،عن الاختيار الذي سينحاز إليه، بأن يكون رئيسا أو أستاذا جامعيا أو شاعرا،فأجاب :((أختار قصائدي)).هكذا ،يصنف سنغور حاليا ضمن أهم الشعراء العالميين الذين أنجبتهم القارة السمراء،يتحدث عنه باستمرار وفق هذا السياق،بينما لا يلتفت كثيرا إلى فعله السياسي، الذي استمر مدة عشرين (1960-1980) ،باعتباره أول رئيس للسنغال،لكنه بالأخص أول سياسي إفريقي تنازل طواعية عن الحكم،لصالح عبده ضيوف أحد تلامذته وأتباعه المقربين ورئيس الوزراء،الذي يحكي عن سنغور قائلا :((أحب،أن اقول بأنه كان يولي عناية خاصة للتعليم والتربية وتنشئة جيل سنغالي جديد،وكانت ثقافته الواسعة الإفريقية والأوروبية،هي التي تدفعه في هذا الاتجاه،وقد أعطت جهوده ثمارها.فالسنغال الآن هي إحدى الدول الديمقراطية القليلة في القارة الإفريقية، وأصبح التناوب على السلطة يتم بدون صراعات دموية)). سنغور بمعنى من المعاني،هو شاعر السياسة في إفريقيا.فقياسا لباقي رموز القارة،عاش حياة طبيعية وهادئة،لم يختبر قط المعتقلات والسجون أو المنافي،ولم تخترق جسده رصاصة واحدة،رفض العنف الثوري والانقلابات الدموية،مؤمنا حتى آخر يوم في حياته بشاعرية التطور التدريجي.
ولد سنغور من أسرة ثرية يوم9 أكتوبر1906،ناضل في صفوف الحزب الاشتراكي السنغالي الذي قاد البلاد نحو الاستقلال،ثم تولى الرئاسة،وهو بالمناسبة مؤلف النشيد الوطني.كان من مؤيدي فيدرالية الدول الإفريقية المستقلة حديثا،منظومة شبيهة بدول الكومنولت لكنها فرنسية،غير أن فكرته لم تجد ترحيبا،فترأس في المقابل جمعية اتحادية مع “موديبوكيتا” رئيس مالي،تجربة انتهت إلى الفشل.
سياسيا،أعرب سنغور عن تأييده لإنشاء لجنة فرنكفونية وقد انتخب سنة1982،نائبا لرئيس المجلس الأعلى للناطقين باللغة الفرنسية،كما أسس إلى جانب آخرين،رابطة فرنسا والبلدان النامية،التي تهدف إلى لفت الانتباه حيال مشاكل البلدان النامية.
عندما سافر إلى باريس للدراسة،تعرف على الشاعر المنحدر من جزيرة “المارتنيك” “إيميه سيزار”،صاحب فكرة الزنوجة فنشأت بينهما صداقة عميقة،تتأرجح بين الثقافة والنضال ضد العنصرية ثم إقامة منافذ للعالم الأسود،تخلق له فرص الانعتاق من العبودية والرق :((كنت وسنغور نركزعلى التقاء الحضارات…،كنت أتطلع إلى التعرف على السنغال وإفريقيا…،أعرف أنهم إخوة.لكن، أحدا لم يقل لي ذلك،الكتب على وجه خاص… .تحدثنا عن ماضي إفريقيا،وأنا تحدثت عن ماضي المارتنيك والكريول والهجرة وعالم الاستعمار،وفرنسا وعنا نحن …،ورأيت أننا كنا نتلاقى حول نقاط كثيرة… ،هكذا نشأت الزنوجة)).إذا كان الأخير،صاحب الفكرة،فقد اعتبر سنغور فيلسوف الزنوجة :((الأبيض لايستطيع البتة أن يكون أسود،لأن السواد هو الحكمة والجمال)).سنغور،الذي ترجمت دواوينه الشعرية إلى مختلف لغات العالم،راهن على الفكر والثقافة من أجل خدمة قضايا السود،أولئك المهمشين والمحتقرين والمضطهدين بسبب لونهم.
دعا سنغور إلى التخلص من التمثل الفكري،الذي خنق الشخصية الزنجية،عبر إعادة التباهي بإفريقيا،عن طريق شرح العادات والمؤسسات القبلية وتمجيد الأبطال الإفريقيين.لقد أراد الوصول إلى ما يتعدى الاعتراف بالشعب الأسود،في ظل قانون مجموعة سياسية اجتماعية إفريقية واحدة.الإنسان الزنجي،عاطفي بالدرجة الأولى،لذلك ينصح سنغور مواطنيه بضرورة،الانفتاح على المناهج الغربية المشبعة علما وعقلا،لكي يحدثوا توازنا بخصوص انفعاليتهم العاطفية.ينبغي على الإنسان الإفريقي،التعلق بفترات أجداده لكن في الوقت ذاته،عليه الانفصال عن جذوره بغية استلهام أسس الحضارة الغربية.
أمضى سنغور السنوات الأخيرة من حياته برفقة زوجته،في منطقة نورماندي الفرنسية،حتى وفاته يوم20 ديسمبر2001 .
** أحمد بن بلة :
يستحيل على أي مؤرخ لأهم أحداث سنوات الستينات،حيث المد التحرري العالمي في أوجه،غض الطرف عن ثورة المليون شهيد الجزائرية،ولا عن شخصية دولية من عيار أحمد بن بلة،أحد الوجوه التاريخية ليس فقط لجبهة التحرير الوطنية،بل ولبناء سياسي لإفريقيا،كان سيأخذ منحى مغايرا تماما،لإفريقيا العملاء والديكتاتوريات والانقلابات اليومية والفساد والمجاعات والحروب والفقر والجهل… .
أحمد بن بلة،من مواليد25دجنبر 1916،وتوفي يوم 11 أبريل2012 نشأ وترعرع وسط أسرة فلاحية متواضعة تنتمي إلى بلدة “مغنية”.شارك في الحرب العالمية الثانية ضمن القوات الفرنسية ضد ألمانيا النازية،فأبان عن شجاعة استثنائية،حتى إن الجنرال ديغول قام بمكافأته عربونا على تقديره. اتصف بن بلة بالثورية والتواضع والهدوء والوطنية الصادقة وصفات أخرى مميزة،أهلته كي يكون زعيما فوق العادة.عروبي، ناصري، اشتراكي،مبتسم وبشوش،لايلتفت كثيرا إلى البروتوكولات الشكلية.
عندما وصل بن بلة إلى رئاسة الجزائر،تبنى إستراتجية على الصعيد الداخلي تمثلت في : 1-البحث عن موارد للدولة الجزائرية، الخارجة للتو من آثار حرب عصابات طويلة مع الاستعمار الفرنسي-2 سعيه إلى إقامة بنية تحتية-3 إعطاء الأولوية لتعريب المؤسسات،الإدارية والتعليمية من خلال استيراد مدرسين عرب لاسيما من مصر-4 الخوض في تجربة التسيير الذاتي،زراعيا وصناعيا،مستلهما التجارب الصينية والكوبية واليوغوسلافية.
أما خارجيا،فقد مدت الجزائر في عهده يد العون لكل الثورات التحررية في العالم،إلى حد وصف الجزائر بأنها “قبلة للثوار”،ثم دعمه لحركة عدم الانحياز،بحيث أيام قليلة قبل تنظيم أكبر محفل دولي وقتها،أي المؤتمر الأفرو-آسيوي،وقع الانقلاب العسكري بقيادة العقيد هواري بومدين،بدعوى أن بن بلة خرج عن خط الثورة وصار ديكتاتورا يستأثر بالسلطة. لذلك،لابد من تصحيح “المسار” كما جاء في بيان بومدين ،ثم ألقي بالرجل في غياهب سجن انفرادي،لمدة خمس عشرة سنة،وبالضبط حتى يوم 30أكتوبر1980 .
انقلاب،لم تتضح ربما كواليسه إلى اليوم،فهناك من يشير إلى وجود أطراف خارجية،بغية عرقلة مشروع المؤتمر،بالتالي فأيادي الأمريكان والغربيين حاضرة.البعض الآخر،يفسره بصراع داخلي على السلطة بين رفيقي الدرب بن بلة وبومدين،وإن قيل بأن عهد الثاني هو في الحقيقة،مجرد امتداد للأول.بومدين،دعم بن بلة وهيأ له أسباب الوصول إلى السلطة،لكنه وقف ضده عندما استشعر أنه بدأ يضرب نفوذه ومركزه.
استغل بن بلة،سنوات سجنه الطويلة كي ينكب على الدرس والتحصيل،والإطلاع على الفكر الإسلامي.رغم تدخل العديد من الشخصيات المرموقة دوليا كعبد الناصر وديغول وكاسترو وسيكوتوري ونيريري،التماسا من بومدين،كي يطلق سراح أول من تلا بيان اندلاع الثورة الجزائرية عبر أثير إذاعة القاهرة،غير أنه صمم على رفضه.
فترة السجن تزوج بن بلة بالناشطة السياسية زهرة سلامي،الصحفية الجزائرية في مجلة الثورية الإفريقية، الماوية المعارضة سابقا لنظامه والمناصرة لخصمه أحمد بوضياف، وقد تقاسمت معه يومياته داخل المعتقل لفترة سبع سنوات.بعد إطلاق سراحه،غادر متجها إلى باريس،فعاود ممارسة نشاطه النضالي،مؤسسا حزبا سياسيا معارضا سنة 1984 ،هو “الحركة من أجل الديمقراطية”،مطالبا بحياة ديمقراطية تنهض على احترام حقوق الإنسان.يشرح بن بلة بشكل سريع ماعاشه، بين طيات مقالته الشهيرة “هكذا عرفت تشي ” :((ترك تشي غيفارا الجزائر، وهو ما تزامن مع الانقلاب العسكري الذي وقع يوم 19 يونيو 1965، ووضعي تحت الحراسة. رحيله عن الجزائر وقتله في بوليفيا ثم اختفائي لمدة خمسة عشرة سنة، ينبغي تأمله في إطار سياق تاريخي للارتداد، بعد فترة انتصارات النضالات التحررية. تقهقر، دق ناقوس الحزن بعد القضاء على لومومبا وأنظمة العالم الثالث التقدمية، كما الحال مع نيكروما، كايتا، سوكارنو وناصر إلخ)).
**أحمد سيكوتوري :
شخصية سياسية مرموقة،ليس فقط على الصعيد الإفريقي، لكن كذلك العربي والإسلامي،نسج علاقات ود وأخوة مع كل الزعماء العرب لاسيما جمال عبد الناصر،الذي سميت باسمه أكبر جامعة في غينيا وبالضبط العاصمة كوناكري،أقصد “جامعة جمال عبد الناصر”.
سيكوتوري القائد الفذ،الذي ناضل من أجل تحرير القارة الإفريقية،هو أيضا صاحب مؤلفات عديدة،أبرز عناوينها : “إفريقيا والثورة”،”إفريقيا في مسيرة النهضة”،”الثورة والدين”،”التجربة الفنية والوحدة الإفريقية”،”الجماعات العرفية والحزب والمسألة القومية” ،إلخ،كما خلف تراثا من المحاضرات والندوات،بحيث ركز مثل سنغور على ضرورة رد الاعتبار لقيم الثقافة الوطنية وإثرائها،فجسد بين هذا وذاك، نموذجا واقعيا لفعل سياسي متحضر،تمرد على الوضع الذي أرادته القوى الاستعمارية لإفريقيا،أي مجرد منجم صحراوي شاسع يزود التجمعات الاقتصادية الأوروبية والأمريكية،بالمواد الأولية.
ولد سيكوتوري، المنحدر من أسرة فقيرة مسلمة،يوم 9 يناير 1922،بقرية “فرانا” وهو حفيد الزعيم الإفريقي “ساموري توري”، الذي قاد حملة وطنية لمقاومة الاستعمار الفرنسي خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر.لم يبق طويلا داخل حجرات الدراسة،فقد طرده المستعمر نتيجة إضراباته،بالتالي، سيسلك مسلك العصاميين.اشتغل في البريد،فأبان عن حس نضالي كبير،جعل منه رئيسا لاتحاد العمال بغينيا،ثم انتخب ممثلا لبلده في الجمعية الوطنية الفرنسية سنة1951،وعمدة لكوناكري عام 1956،وأول رئيس لغينيا المستقلة عام 1958 .
انسحبت فرنسا،مخلفة وراءها بنية مدمرة قوامها الفقر والبؤس،بحيث تعمد المستوطنون قبل رحيلهم،إلى تخريب المؤسسات الغينية،فضلا عن وقف باريس لمساعداتها.لماذا؟سيكوتوري،رفض تماما المشروع الذي روج له دوغول،المتعلق بتوحيد المستعمرات الفرنسية تحت اسم “الرابطة الأفرو-فرنسية”،مواصلا نضاله مع حزبه “الحزب الديمقراطي الغيني”صارخا في وجه العقاب الفرنسي :((إننا نفضل الفقر في ظل الحرية على الثروة مع العبودية)).
اتجه نحو العمق الإفريقي،بهدف بناء علاقات مميزة،مركزا على الشخصية والروح الإفريقيتين،وبذل جهودا لافتة في سبيل تثبيت قواعد السلام،نستحضر مثلا عربيا،وساطته التي لم تنجح للأسف،من أجل وقف نزيف الحرب المدمرة خلال سنوات الثمانينات بين العراق وإيران،في إطار جهود منظمة المؤتمر الإسلامي،التي كان من مؤسسيها سنة 1964 .
حصل سيكوتوري، على العديد من الجوائز اعترافا بدوره المتميز،منها “لينين للسلام” شهر ماي 1961،وقلادة النيل من يد عبد الناصر خلال زيارته إلى مصر،ثم دكتوراه فخرية في التاريخ الإسلامي من جامعة الأزهر،تقديرا لدوره في مقاومة الاستعمار. .. .
إجمالا،مهما قلنا على هكذا عينة من البشر،فاللغة تظل يتيمة يتمنا برحيل هؤلاء،هم لم يموتوا،ولن يموتوا،بل أحياء يحرسون على ما استطعنا سبيلا، إلى شفافيتنا الحالمة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.