“محاميد الغزلان”.. واحة تقاوم عزلتها في قلب الرمال المغربية
الساعة تشير إلى السابعة والنصف مساءً، وصلنا مشارف واحة “محاميد الغزلان”، في رحلة استمرت أكثر من 20 ساعة من العاصمة الرباط، باتجاه أبعد نقطة في المملكة المغربية، حوالي 40 كيلومترا عن الحدود الجزائرية.
هنا نهاية الطريق الوطنية رقم 9، وهنا بوابة الصحراء المترامية على مد البصر بواحاتها ووديانها وخيامها وساكنتها من البدو الرحل.
في الطريق إلى محاميد الغزلان تصادف كل تضاريس المغرب تقريبا، سهول وجبال وكثبان رملية، وعلى مشارف البلدة تستقبلك أشجار النخيل من الجانبين، قبل أن ينفرج مجال الرؤية عن صحراء تتوسطها أبنية مترامية هنا وهناك على ضفتي وادي درعة، تشكل فيما بينها منطقتي “محاميد البالي” و”محاميد الجديد”.
“محاميد البالي” ـ أي القديم ـ على الجانب الجنوبي للوادي، يضم أغلب مساكن أهل محاميد الغزلان، ويتميز بأبنيته الطينية القديمة، وبينها بنايات ذات طبعة تاريخية.
و”محاميد الجديد” يقع على شمال الوادي حيث أغلب الفنادق والمقاهي ومحال المنتجات التقليدية، وسوق الإثنين الأسبوعي.
ويرجع أصل تسمية المنطقة بمحاميد الغزلان، إلى اسم أكبر دوار في المنطقة الذي بدوره استمد هذه التسمية حسب بعض الروايات الشفاهية من كون مجموعة من الغزلان كانت تشرب من وادي درعة وتحديدا بمنطقة المحاميد.
وتعتبر المنطقة حلقة وصل بين سكان أفريقيا الغربية، حيث كانت أهم ممر للقوافل التجارية التي كانت تحمل الذهب في اتجاه شمال أفريقيا من الجنوب، كما أنها منطقة استراتيجية لقبائل الرحل، شكلت مجالا للاستقرار البشري منذ عهود قديمة، الشئ الذي يتأكد من خلال أدوات قديمة وقطع حجرية، ونقوش صخرية تجدها بالمنطقة.
سكان المنطقة يقطنون منازل تتنوع بين المبنية بالإسمنت والمبنية بالطين على الطريقة المحلية، على شكل تجمعات سكنية، وتتوفر فيها بعض المرافق الحيوية كمركز صحي ومقرالبريد، وثلاثة مدارس للتعليم الأساسي، والإعدادي، والتأهيلي (الثانوي).
مناخها جاف وحرارتها ترتفع إلى 47 درجة، وتنخفض إلى 4 درجات في الشهور الباردة، وبطبيعتها الصحراوية، تشهد في أوقات من السنة رياحا قوية وزوابع رملية.
توجد في محاميد الغزلان بنيات سياحية متعددة، من فنادق ونُزُلِ ضيافة، مرورا بالرياضات والمخيمات الصحراوية، ما يعكس استغلالا مهما لمؤهلاتها السياحية، ولطبيعتها العذراء، المشبعة بتاريخ يتحدث عنه ساكنة محاميد الغزلان بكثير من الحنين الممزوج بالافتخار.
في هذه المنطقة تمتزج الثقافات منذ قديم الزمن، فإلى جانب القبائل الحسانية المتنوعة، توجد ساكنة تشكل امتدادا تاريخيا لقبائل أمازيغية عريقة.
ويقول “بوجمعة” أحد أبناء محاميد الغزلان: “يوجد هنا تنوع كبير من القبائل، قبائل أصلها القديم من اليمن، تجمعها نفس الثقافة مع الصحراء المغربية نواحي الساقية الحمراء ووادي الذهب، لكنها قبائل مختلفة، أيضا نحن متأثرون بثقافة الطوارق شمال مالي، ستلاحظ أننا لا نختلف عنهم كثيرا في لباسنا وتقاليدنا وطريقة عيشنا في الصحراء”.
وفعلا تلاحظ هنا عمامات ملونة ضخمة تذكرك بأزياء الطوارق، مزيج ثقافي يجمع غرب الصحراء بشرقها، وتفسير ذلك في التاريخ الطويل من التجوال في الصحراء، ففي قديم الزمن كان الترحال نمط عيش بالنسبة لساكنة محاميد الغزلان، وهنا كانت قبائل الرحل تبني خيامها وتجد الكلئ لماشيتها، حول واحة لمحاميد.
أحد شيوخ قبائل محاميد الغزلان، ويدعى لحسن حنانا يقول: “ما نتذكره من عهد الاستعمار في الخمسينات، أننا كنا نرحل من هنا صوب الساقية الحمراء جنوبا،أو صوب مالي شمالا، وكانت الصحراء مفتوحة أمامنا، كان الرحل يتاجرون أيضا، يأخذون أواني الألمنيوم من مراكش صوب مالي، ويأتون من هناك بالألبسة والملح”.
يضيف الشيخ أن الرحل كانوا يتحركون مرتين في السنة، زمن الخريف والربيع، محملين بِقِرَبِ الماء المصنوعة من جلد الماعز، تجنبا للعطش، أما زمن الصيف فكانوا يتجنبون السفر.
نمط الحياة هذا آخذ في الزوال، بعد أن فرضت الظروف على هذه القبائل أن تستقر ببوادي ومدن المنطقة، انغلاق الحدود أمامها لم يترك أمام قبائل الرحل مجالا لممارسة حياتها القديمة، فبعد أن تعودوا على قطع أزيد من ألفي كيلومتر صوب الشمال المالي، لم تعد أمامهم بفعل الحدود إلا حوالي عشرون كيلومتر في عمق الصحراء.
حسب الإحصائيات الرسمية، فساكنة “محاميد الغزلان” ينخفض تعدادها سنة بعد سنة، هذه المنطقة التي عرفت بإنتاج التمور والحبوب تعاني اليوم من القحط، الرمال تتمدد على الأراضي الزراعية، وقطعان الإبل والماعز تتناقص.
ويقول حنانا أحد شيوخ قبيلة عريب في محاميد الغزلان: “كان قديما بالمنطقة مخازن للحبوب تكفي لخمس أو ست سنوات، وكان الرجل منا يكسب 400 أو600 ناقة، حتى الشاب في بداية حياته كان قد يكسب ثلاثون إلى أربعون ناقة، ناهيك عن المئات من رؤوس الأغنام والماعز، هكذا كانت تعيش قبائلنا”.
واستدرك: “اليوم ضاقت علينا الأرض ونعاني من الجفاف، اليوم تربية الجمال ونمط الترحال ينقرض تدريجيا، تجد لدى الرجل منا أربعون ناقة، نفقت منها عشرون بسبب الجفاف، وهناك من لديه نوق لم تنجب منذ سنوات، تموت بعضها وتتناقص، والدولة لا تقدم هنا إعانات للأعلاف (أكل الإبل والأغنام) ومواجهة الجفاف”.
ورغم هذه الظروف، لا زالت محاميد الغزلان تعتمد على منتوجها من التمور والشعير والقمح، معتمدة على المياه القادمة من سد المنصور الذهبي عبر وادي درعة.
تعتمد الساكنة في الحصول على مياه الشرب من بئر “بومراد” الذي يبعد عن مركز المحاميد بـ 18 كلم حيث يعتبر النقطة الوحيدة التي تتزود منها الساكنة بالماء الصالح للشرب، أما المياه الجوفية فهي مالحة ولا تصلح للزراعة، وتوجد على عمق 14 م في المتوسط.
الطريق الوطنية رقم 9 هي الممر الوحيد إلى محاميد الغزلان، كما تربطها بجهات أخرى طرق غير معبدة، أمر يكرس عزلتها على أبواب الصحراء.
لكن السياحة تكسر هذه العزلة سنة بعد سنة، فإضافة إلى انخراطهم في سلك الجندية، يتوجه عدد من شباب المنطقة إلى العمل في السياحة، حيث توجد أربعة فنادق مصنفة و21 فندقا غير مصنفا، إضافة الى العديد من المخيمات الثابتة والمتنقلة.
وجه آخر من أوجه مقاومة العزلة يتجلى في الأنشطة الثقافية ذات الطابع الدولي، فمحاميد الغزلان تتميز اليوم بمهرجان دولي للبدو الرحل، هو بمثابة فرصة سنوية تستقبل فيه زوارها من السياح والفنانين ورجال الإعلام، كما تعرف مهرجانا فنيا ثانيا باسم “تاراكالت” يحتفي بموسيقى البدو عبر العالم.
تاريخيا، لمحاميد الغزلان دور كبير في ربط الشمال بالجنوب، لكنها اليوم تقاوم عزلة فرضتها عليها الجغرافيا والطبيعة وشيئ من السياسة، لكن زائرها سيلاحظ في أوجه ساكنتها طيبوبة البدو الرحل، وحفاوة الاستقبال وحسن الضيافة، هذه هي أفضل مقومات نهوضها، وهي ورقتها الأخيرة لكسر عزلتها، والأخذ بزمام المبادرة.