بحثا لحكومته عن ألفة، بنكيران يطير بها إلى إفران !
إنه لمن قبيل الادعاء الباطل، الاستمرار في الاعتقاد بأن رئيس الحكومة السيد: عبد الإله بنكيران، يعاني من نقص حاد في التفكير، يجعله يسير على غير هدى، وأنه تعوزه القدرة على الخلق والابتكار، بينما يمتلك من مقومات “النجاح” ما لا يتوفر لغيره، لولا أن سوء الطالع يلازمه كظله، بدليل توليه المنصب في الزمن الخطأ، واصطدامه المباغت بكائنات من دون ملامح أطلق عليها بعفويته المعهودة: “التماسيح والعفاريت”، لحرصها الشديد على معاكسته وإفشال مخططاته، حماية لمصالحها…
فالرجل لم يعرف التوقف للتأمل ومراجعة الذات، منذ تحمله المسؤولية إلى أن ضاقت به السبل، ولقي نفسه محاصرا بفيض من المشاكل المعقدة، وفاقدا القدرة على التمييز السليم وترتيب الأولويات، سيما أن الدخول السياسي والاجتماعي لهذه السنة ما قبل الأخيرة من ولايته، يستدعي التداول في مجموعة من القضايا الحساسة والمتعلقة أساسا ب: تفعيل مقتضيات الدستور لتحصين قيم النزاهة والشفافية والحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة، إصلاح صندوق المقاصة وأنظمة التقاعد المدنية، التحضير لمشروع قانون المالية 2015 وللاستحقاقات الانتخابية القادمة…
وفي غمرة الاحتقان الشعبي المتصاعد، وما تسعى إليه النقابات الأكثر تمثيلية من تصعيد، عبر نيتها خوض سلسلة من الإضرابات القطاعية والوطنية، قد تصل إلى حد مقاطعة المأجورين للانتخابات وتعليق الأشغال بجميع المجالس واللجن. وبالنظر إلى ما استشعره من تهديد للسلم الاجتماعي، من شأنه نسف أركان حزبه والعصف بمستقبله السياسي، بعدما أضاع الكثير من فرص الإصلاح بفعل عناده، إغلاق قنوات الحوار الاجتماعي، استفراده بالقرارات اللاشعبية وسوء تدبيره للشأن العام. وفي ظل ما تعيشه حكومته من اغتراب، ارتأى البحث لها عن ألفة ظلت تفتقدها، والتمهيد لمناقشة مثمرة وبدون تشنج، في أجواء من التعاضد والتواصل والانسجام، بعيدا عن مصادر القلق والتشويش والتلوث، لعل الله يأتي بالفرج ويفك ما تشابك من خيوط، فلم يجد مكانا آمنا يليق ب”خلوته اللاشرعية” عدا فندقا ممتازا بمنتجع ميشلفن في مدينة إفران، لما ينعم به هذا الإقليم من مناخ صحي، وجمال طبيعته وطيبوبة أهله… وكأني به مستشار جماعي من ذوي المال والنفوذ، يسعى لضمان منصب رئاسة جماعة ما بشراء ذمم باقي المستشارين، فيهربهم ولا يعود بهم إلا يوم التصويت بعد أدائهم اليمين على الوفاء بتعهدهم، أو كأنه ناخب وطني يسعى إلى التخلص من ضغط الجماهير، في محاولة يائسة لتعميق التركيز لدى لاعبيه، وخلق نوع من التناغم بينهم استعدادا لمواجهة حاسمة، كثيرا ما تأتي نتائجها مخيبة للآمال…
السيد بنكيران يعلم أنه أثار الكثير من اللغط حوله، وأن المغاربة ظلوا يتلهفون بشوق شديد، إلى ترجمة وعوده إلى ما يستجيب لانتظاراتهم، حتى يتسنى لهم الخروج من مستنقعات البؤس والشقاء، ومعانقة فصل جديد من حياتهم، ينعمون فيه بالنماء والرخاء، يستنشقون نسائم الحرية، ويرفلون في ثوب الكرامة والعدالة الاجتماعية… بيد أنه خاب ظنهم وأصيبوا بالإحباط التام، فما زال صدى أصوات الغاضبين يتردد أمام البرلمان، يطالبون بالحق في الشغل وحماية المال العام من النهب والتهريب، وينددون بما يتعرضون إليه من قمع وعنف مفرط، وبتراجع الحكومة عن محاربة اقتصاد الريع ونظام الامتيازات، والتصدي لكافة مظاهر الفساد والجرائم الاقتصادية…
وفي هذا الإطار، فإنه لا يغيب عن ذهنه أن إنفاق ما يناهز مائة مليون سنتيم من ميزانية الدولة، خلال نهاية عطلة أسبوعية بأفخم الفنادق السياحية، يعد تبذيرا سافرا للمال العام، ويدخل في قائمة الجرائم المالية التي تستوجب المساءلة. ويعتبر التبذير أحد العوامل المساعدة على اختلال توازنات المجتمع، وحرمان شرائح اجتماعية عريضة من استغلال خيرات البلاد بشكل عادل، مما يساعد على اتساع دائرة الفقر والهشاشة، ارتفاع نسبة الأمية، تضاعف أعداد العاطلين حتى في صفوف ذوي الشهادات العليا وانخفاض مستوى الدخل لدى الأسر… ويحفظ عن ظهر قلب قوله تعالى: ” ولا تبذر تبذيرا، إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين، وكان الشيطان لربه كفورا”. كما يعلم أن خلوته لن تأتي بما ينفع المواطنين، في وقت كان من الأجدى عقد اللقاء بأحد المرافق العمومية بدون كلفة. غير أن الحكومة عودتنا على إحداث الفرقعات الإعلامية العابرة، لإثارة الانتباه إلى وجودها مادام المواطن لم يلمس لها أثرا على حياته اليومية…
المغاربة شعب متفهم، صبور ومتسامح، قادر على افتداء الوطن بالروح والدم، وتحمل الشدائد إلى أبعد حدود الألم. وفي المقابل لا يرضى بديلا عن عزة النفس واحترام حقوقه الإنسانية، ولا يقبل التلاعب بعواطفه، أو تهديد أمنه واستقراره…بيد أنه اليوم ضاق ذرعا بمغالطات رئيس الحكومة، واكتشف زيفه في التعاطي مع انشغالاته الآنية والمستقبلية، وتبين له أن ما يدعو إليه وزراءه من تقشف في إعداد الميزانيات الفرعية للقطاعات الحكومية، وتجميد التوظيف… مجرد تبريرات واهية لما أقدم عليه من زيادات لئيمة، ضربت القدرة الشرائية في العمق، عوض أن تبادر حكومته إلى بلورة سياسة عمومية، تؤدي إلى تحقيق عدالة اجتماعية والحد من الفوارق الطبقية…
إذ كيف لمن يسوغ لنفسه، صرف مبلغ 100 مليون سنتيم من المال العام في ظرف ليلتين وبدون طائل، الحديث عن التقشف سلاحا لمواجهة الأزمة الاقتصادية الخانقة، والادعاء بأن كل ما يقدم عليه من قرارات قاسية ومؤلمة، إنما بدافع تجنيب البلاد الوقوع في الهاوية السحيقة؟ ولن يزايد أحد على الرجل إذا ما تم التذكير ببعض تدابيره العشوائية، التي تظهر بجلاء مدى استهانته بالمسؤولية الملقاة على عاتقه. ذلك أنه سبق له في إطار ترميم حكومته بعد انسحاب كبير حلفائه حزب الاستقلال، أن رفع عدد أعضاء النسخة الثانية لحكومته إلى 39 وزيرا، أي بزيادة سبعة وزراء. بالله عليكم ما الفائدة من هذا الكم الهائل من الوزراء، في دولة متخلفة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، غارقة إلى “الأذنين” بالديون الداخلية والخارجية، وتعاني من معضلات عديدة ومتنوعة: الفقر، الأمية والبطالة…؟ ثم أية إضافة نوعية لتعيين 16 وزيرا منتدبا؟ وكم يا ترى سيكلف ميزانية الدولة إحداث مرافق جديدة وتجهيزاتها الحديثة، علاوة على أجور هؤلاء الموظفين السامين والملحقين بدواوينهم، دون إغفال مصاريف مجلس المستشارين المنتهية صلاحيته، والتقاعد مدى الحياة للبرلمانيين والوزراء؟
هل كان ضروريا إرهاق الخزينة العامة برحلة إفران، والحكومة اقترضت خلال سنتين ونصف، ما لم تقترضه سابقاتها على مدار عشرات السنين؟ فمن يضحك على من؟ أليس من المخجل والعار، أن يثقل كاهل المواطن بالارتفاع الصاروخي المتواصل للأسعار، بينما تتم الزيادة في تعويضات البرلمانيين لإغرائهم بالحضور، ودعم أسطول سيارات الدولة بأكثر من 19000 سيارة خلال عام 2013 وحده؟
بالفعل، لرئيس الحكومة كل مقومات النجاح في تبذير المال العام، ومضاعفة آلام وأحزان المواطنين، خاصة أولئك الذين هجر النوم أجفانهم، منذ أن بلغ إلى علمهم اعتزامه إنهاء ولايته، على وقع تمديد سن التقاعد إلى 65 سنة، وتقليص منحة المعاش. وبذلك يكون قد أفقد المغاربة الثقة في خطابه، وفي مصداقية الدولة وقدرتها على رعاية مصالحهم… وليتحمل مسؤولياته كاملة.