المسيح: أريد رحمة لا ذبيحة !!
مع كل مناسبات الاحتفال بأعياد ميلاد المسيح، يحضر كل شيء وأي شيء، إلا النسق المتأتي من شخص وحياة وفكر وعقيدة ودعوة ومسلك المسيح،وما مغزى مجيئه إلى هذا العالم؟ثم طبيعة القيم التي أراد للبشرية تمثلها، وجعلها مطروحة في الطريق،فيضعون كل صباح على المائدة، إلى جانب قطع الخبز ذات المبعث البيولوجي،بل قبل الخبز وبعده،لأنه بحسب المسيح : ((ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلمة تخرج من الله)).
تنبت سلاسل جبلية من الشوكولاتة والحلوى، وتتدفق وديان من مختلف أقداح الشراب،المسكر وغير المسكر،تسبح عبر الأثير آلاف بطاقات التهاني قصد تبادل المشاعر،هي نمطية عموما،مدعية بأنها تجسد معاني الفرح.تحضر الموسيقى والرقص والصخب والضحك بصوت عال.تسود التجمعات وتسيطر البهرجة،فيتباهى الناس حد العربدة والبلادة،بالتماهي مع الاستهلاك ،واستجابتهم السلوكية المنقاذة وفق نظرية إيفان بافلوف،لسياقات منظومة كونية،لاتزداد إلا بعدا عن ما أراده حقا المسيح، رحمة بنا وبحاضرنا ومستقبلنا.
ذاك الرجل العظيم،الذي وازن في جسده وروحه بين اللاهوت والناسوت،فانتقل بالتاريخ نحو وضع يستشرف أفقا أكثر تحسسا للبشري الذي ينزع بقوة نحو الإلهي وليس العكس.يقول المسيح :((كلوا من خبز الشعير واشربوا الماء القراح، واخرجوا من الدنيا سالمين آمنين)).
تتداول مختلف أنواع البطائق والدعاوي والوصلات الإشهارية،إلا دعوات وترانيم السيد المسيح الحقيقية، كي نقدم له قرابين الرحمة ،بدل الذبائح.
ألا يتم ذبح البشرية حاليا، كل ثانية، فوق مقصلة خنازير السياسة وشياطين الاقتصاد وذئاب القيم تحت يافطة القيم نفسها،فيمتهنون الزيف والمكر والخديعة والتضليل. بالتالي،من لايقتل باسم الموت، ربما يمارس القتل باسم الحياة.كيف نسمي المنافقين والكذابين والمخادعين والمرائين والغشاشين والمدعين والأفاقين…؟ألا يعتبر اللصوص قتلة ،وبدم بارد، مع سبق الإصرار والترصد؟هم، يجففون باستمرار، منابع نسغ الحياة، ويدخرون الموت. يقول المسيح :((سيأتي وقت كل من يقتلكم، يظن أنه يقدم خدمة لله)).
نعم منطق العالم المعاصر مختل،باسم الطريق إلى الله : الإرهاب باسم الله،الجشع باسم مدينة الله الفاضلة،السياسة باسم الله،التضليل بالدين باسم الله،الاستغلال باسم الله، إلخ. يقول المسيح :((فمتى صليت، فادخل إلى مخدعك، وأغلق بابك)).
إذا كان طقس الاحتفال أراده الناس جمعيا،قائما على البهرجة الموغلة في تذويب الفرد وسط الحشد، بناء على مقتضيات غدت أكثر ميركانتلية مكرسة منطق الرأسمالية المتوحشة،فإن درس المسيح، يتوخى منا أساسا الواحدية والعزلة والصمت والتأمل والمحاسبة والاستبطان والإنصات لأعماق النفس وفهم الجسد،بالتطلع إلى زمان غير الزمان وغير الواقع والنفس والأنا والآخر،كي تنتهي إلى ذاتك، لأنها خلاصك. يقول المسيح :((ماذا ينفع الإنسان، لو ربح العالم وخسر نفسه؟)).
مولد المسيح،تعني انبثاقات لا تتوقف للتسامح والتضحية والبذل والعطاء والعدل والبساطة والحق والخير والرحمة.التسامح،بمعنى : ((من ضربك على الخد الأيمن،أدر له الأيسر،ومن أخذ عباءتك فأعطه رداءك))،موقف يقودني إلى أن أطرح سؤالا غبيا :من يمتلك القدرة على المكابدة كي يتسامح فقط مع ذاته ،قبل أن ينتقل إلى دائرة الواقع و الآخر؟لو كان احتفالنا الطقوسي نقيا خالصا،مستلهما لفكر المسيح، لما رأينا ليلتها شرطيا واحدا يجوب الشارع،ولأن الأمر ليس كذلك، فالعكس هو مايحدث.
التضحية والبذل،بتحديد المسيح : ((جئت لأخدم، لا لأُخدم)).
الحق، حسب المسيح :((لماذا تدعونني صالحا، ليس صالحا سوى الله وحده)).
العدالة، حينما يخاطبنا المسيح :((لاتكنزوا لكم كنوزا على الأرض، حيث يفسد السوس والصدأ،وحيث ينقب السارقون ويسرقون)).
الخير،عندما حسم المسيح،بوضوح السبيل القويم،قائلا :((لا يقدر أحد أن يخدم سيدين،لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر،أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر،لا يمكنكم أن تخدموا الله والمال)).
البساطة،فسيخاطبنا المسيح بشأنها :((كما تريدون أن يفعل الناس بكم،افعلوا كذلك أنتم بهم )).
أما الرحمة،فالمسيح يريد من الجميع رحمة،وليس قرابين ولا أوثان ولا طقوس،ف((طوبى للرحماء)).