الهدر المؤسس في المغرب الراهن

0 433

يعد المغرب شاهدا حيا عن الدول التي لم تستفد من منعطفات تاريخها سواء تلك التي كان لها وقعا ايجابيا أو التي جاءت بتطورات سلبية، وإن كان هذا مجرد تقدير لنا، فإن المبتغي من إثارته هو خلق زوبعة قلق ذهنية حول مستقبل المغرب، والظاهر  أن المسار أصبح فيه من الالتباس أكثر مما فيه من الوضوح وحتى من يمانع هذا الرأي لا يمكن أن يصمد أمام هذا المعطى الأخير كحجة تنهل في مشروعيتها من الواقع.

وفي اعتقادنا، يعتبر الاحتكاك المغربي الأوربي خلال القرن التاسع عشر بمثابة منعطف حاسم في تاريخ المغرب المعاصر ،سار مفعول تناقضاته حتى الراهن، بل وحامل في طياته لفرصة تاريخية تستدعي إعادة النظر في كثير من المسلمات في تقاليد الحكم والسلطة، كما في الرواسب المتجدرة في الذهنية المغربية ، لكنه لم يستثمر على نحو أفضل لأن المساءلة ظلت شأنا مخزنيا، مما أدى إلى احتكار سلطة القول والفعل في تدبير تداعيات المرحلة سياسيا واقتصاديا… ولو انخرط المجتمع ككل في هذه الدينامكية العامة لكان المغرب نموذج عملي يحتدا به، سباقا لبعض الشعارات التي اجتهد الساسة ورجال الحقل السياسي في ابتداعها فأصبحت موضة قاموس العصر كالتشاركية والمشاركة وغيرها من مفاهيم الخطاب السياسي المعاصر .

وحتى تلك المبادرات التي عبر عنها في أدبيات المؤرخين بعملية الإصلاح كمفهوم إجرائي فإن أخد مسافة أكثر بعد قد يجعلها واهية وفارغة من مضمونها. وبالتالي ليست إلا خطوات سياسية تهدف إلى تسكين الألم بدل استئصال الداء، في دائرة تحايل لنسق حكم على نفسه وعلى محيطه “راعيته وشعبه” .ولنفترض جدلا بأن الأمر كذلك فالإصلاح بمراعاة التفسيرات التي خاضت فيه يبرهن بالنوايا الحسنة كما يترجم ذلك في الخطاب من خلال اكتساب الجرأة في الإقرار بوضع فاسد أولا والتحلي بروح الواقعية تأنيا في حالة ما إذا كان الوضع قد يصلح ليس بمجرد إدخال تعديلات فحسب بقدر ما هو بالتخلي عن  الخلايا العميقة في الدولة.

ولنستحضر هذا المثال رغم مكانيكيته، بأخذ طاولة كسرت إحدى أرجلها ،فسؤال الإصلاح هنا قد يطرح أحد الحلين، إما أن نرممها حتى تعود كما كانت وهذا يطرح عليها سؤال مدى صمودها مستقبلا أو ندخل عليها تعديلات تراعي حاجتنا إليها مستقبلا بخلق توليفة بين ما تبقى من أرجلها، وبين هذا وذاك قد يفرض علينا الواقع خيار التخلي عنها نهائيا واستبدالها بأخرى رغم كلفة ذلك وسنكون مطمئنين على العمل بها في المستقبل.  

وفي السياق ذاته، ينسف أي إصلاح بإبقائه داخل دائرة المصالح كما عبر عن ذلك بصيغ أخرى بعض المهتمين كالأستاذ عبد السلام الحيمر في كتابه حول النخبة وإشكالية التحديث بالمغرب، القائل بأن الإصلاح يكون ممكنا لو كان هناك أحد الشرطين بنيات اقتصادية واجتماعية تتضمن عناصر تحول رأسمالي من قوى منتجة ومتقدمة وبرجوازية محلية أو نخبة قادرة على إدخال تغييرات وازنة بشرط أن تكون خارج حدود المخزن، وإعطاء هذا المثال ليس تماهي مع طرحه الموضوعاتي وإنما اعتبارا لقوة تحليله، اللهم إن حدث هدا الاتفاق في الخلاصة  المتعلقة بمسألة غياب هامش لأي محاولة إصلاح داخل الحدود الضيقة للمخزن.

فهل جاء مغرب القرن العشرين بما يخفف من قتامة الصورة المرسومة وتجاوز هذه الحدود المقدسة في زمن عالم معولم؟

من وجهة نظر التحليل المنطقي وانسجاما ومقدمات القرن المنصرم فإن القرن العشرين يمكن أن ننظر إليه من زاوية الفرصة السانحة بحرق المراحل والاستدراك بما يتيحه لنا من إمكانيات مادية ورمزية وإن كان قد دشن بحدث يبدو معاكس في الظاهر للمأمول، وهو دخول فرنسا الحماية بموجب مجموعة من التراكمات الدرامية على شاكلة اتفاقيات بدءا، باتفاقيات ما بعد هزيمتي اسلي وتطوان السالف ذكرهما، ومرورا بمؤتمر الجزيرة الخضراء في 1906 في خضم بلوغ الصراع ذروته بين فرنسا و ألمانيا حول المغرب ، وانتهاء بمعاهدة 1912 كنتاج موضوعي لمقرراته والتنازلات التي تمت بين أطرافه ، ليصبح المغرب دولة ناقصة السيادة.

وقد تصدق فرضيتنا لو تم فعلا إغلاق قوس الحماية بتقييم موضوعي ، يضع في اعتباراته ثلاث مستويات زمنية وحدثية بتداخل جدلي أولها اعتبار الحماية استعمار في مداها القصير، وليس حماية وإلا فحماية ممن طالما أن هناك توافق وتنازلات بموجب مؤتمري برلين1885 وقبله مدريد 1880،وتأنيا تأهيل في المدى المتوسط، وثالثا حدثا مؤسسا في مداها البعيد مع تباين في مستويات التغييرات البنيوية الطارئة ، لكن للأسف تم الأخذ بالأول لتبرير الفشل الدريع في الثاني وتأسيس العودة لمنطق حقبة ما ماقبل، لتفضي لنسف الثالث، فلم نستفد من حدث الحماية شيئا غير ما يشهد عليه البنيان المادي ونحن لسنا هنا أمام قراءة تمجيدية للفترة الكولونيالية، ولكن دعوة لجلسة على كرسي الاعتراف بأننا لم نكن أفضل حال قبلها.

 والحقيقة تفرض نفسها بثوريتها. بأن المغرب يدين لفرنسا بالشيء الكثير بما أخذته من ثروات تمويل المتربول كما هو مدين لمشروع المقاولة الفرنسية بفضل إدخال مكنزمات اقتصادياتها وتحديثها الاجتماعي، وطبعا ليس هنا متسع في هذه المقالة للتخصيص والتعليل والأنمذجة، على أن هده الانطلاقة اللامعقولة كانت كافية لاستشراف القادم، فتاه الكل في الجواب حول لمن يعود الفضل في هذا الوضع الجديد المتقدم المعبر عنه بالاستقلال مع كثير من التحفظات من هنا وهناك حول المحاذير التي اتخذت في تفسير الحدث “الظاهرة” تفاديا ومخافة من أي إسقاط مفهومي .

 و الشيء الذي خلق صراعا كان من المفروض أن يكون تنافسا حول طبيعة القيادة الجديدة، والتنافس ليس كما الصراع في وقعه ومن الأطراف المتصارعة من يستند إلى الموروث بهالته الدينية والجينيالوجية ومنهم من يعتقد بان الوضع الجديد يحتاج إلى قيادة جديدة بمشروع مجتمعي فكري وبرنامج عملي صريح، لأن الوضع القديم هو نتاج موضوعي لممارسات الموروث الثيوقراطي والعسكري ولان البعض ممن اعتبروا أنفسهم أطر ونخبة مغربية أنداك أدركوا جوهر الصراع فعملوا على إذكائه بمزيد من التخصيص والتقزيم فتناثرت أوراق أخرى وظهرت محاولات للاقتيات على تداعيات الوضع وغالبا ما كانت تتأرجح في مواقفها تبعا لمخاض الصراع أو بمعنى أخر تحاكي الصراع من موقف الربح أو الربح.

وعموما كانت ميازين القوى في المغرب المستقل واضحة المعالم وكانت الأطراف التي تطفو على السطح لا تكاد تخرج عن تيار مع القصر وأخر مناوئ له مند 1956 حتى 1961 في مناخ اتسم بالتوتر أفضى إلى فتح حلقة جديدة من الصراع خاصة مع انشقاق حزب الاستقلال في 1959 والإطاحة بعد ذلك بحكومة عبد الله إبراهيم الطموحة .ومن الصراع إلى الانتقام فوتت هذه القوى -كل من موقعه ومسؤولياته -على المغرب فرصة الإقلاع الاقتصادي والتحديث الاجتماعي وإعادة تقييم حلقتين مهمتين مت تاريخه في النصف الثاني من القرن 19 والنصف الأول من القرن العشرين . وما كاد التوافق يلوح في الأفق حتى اتسعت الفوارق ليس بين القوى المتصارعة ولكن هذه المرة بين الشعب ومن يحكمه فلم تعد هناك ثقة حتى بعد الدخول في التجربة التوافقية للتناوب أو ما يمكن أن نعبر عنه بميلاد الديمقراطية المحبوكة .

لأن الديموقراطية تبنى في مسلسل انتقال عبر الزمن يكون الشعب الفاعل فيه لا هامشا ولا تقرر في مقرات بيروقراطيات لتنفد كأوامر فوجب التطبيق، ونعود إلى زمن الراعية والراعي كل على حد فهمه من هذا التعبير العلائقي.

وللأسف من القواعد العامة أن أخطاء الساسة يتحمل مسؤوليتها وتبعاتها شعب بأكمله فإن هذا التاريخ يمكن أن نعتبره تاريخ للهدر بامتياز وإن كان لا يشاع في الهدر إلا ما هو مرتبط بظاهرة ملازمة للمدرسة المغربية أي في قطاع التربية والتكوين.و حتى في هذا الإطار تكون الكلمة حكرا على الفئة التي لم تتمم تعليمها المدرسي لأسباب متعددة، في تجاهل تام لكون أكبر محطة هدر هو اتخاذ أجيال المغرب الراهن كفئران شواهد في مختبرات تجارب لمخططات مستلهمة من دول أخرى( كما هو حال مخططات الستينيات والسبعينيات حتى ثمانينيات التقويم الهيكلي وما ميز الفترة من ارتجالية في التنظير والتطبيق في جو مشحون بالمزايدات والاضطرابات في المناخ السياسي ( مع بحت عن آليات لشرعنة عملية التبيئة، لذلك كان من البديهي أن يطل علينا رئيس الحكومة ويقول بإعادة تكوين خريجي الجامعة المغربية في تناقض تام مع ذاته السياسية، فإذا كانت السياسة التعليمية فاشلة  فإن المبدئ يقتضي بلا جدوى الاستمرار فيها .

لماذا لا يسود هناك انسجام في المقاربة الحكومية للمسألة التعليمية، إذ بينما يدافع وزير عن سياسته في تدبير قطاع التعليم تجد رئيسه في الحكومة يعبر عن عكس ذلك ،ويدعو إلى إجراءات موازية لتخفيف حدة الأزمة وربما تصريفها على أساس أن هذه قضية تشكل إرث ويجب أن تبقى في متحف حيث تسلم لمن سيدير دواليب اللعبة مستقبلا .

وقبل أيام وفي حالات شاذة للإعلام البصري المغربي، يناقش مسألة الصحراء في أفقها وسبل وآليات التعاطي مع ما تفرزه التطورات الإقليمية والدولية، وباستدعاء فاعلين في ميادين عدة ومحللين في مجالات شتى، لكننا لمسنا عندهم قصور في التحليل وحتى في المستند أي في الدلائل القاضية بقوة وصواب وجهة النظر وكلما استطاعوا أن يقولونه هو أنهم يتفقون مع الخطب الملكية وأمور أخرى  عادية يمكن أن يقولها أي شخص متتبع للنزر القليل مما يجود به الإعلام الدولي حول القضية خاصة، أن المغرب بترسانته الدبلوماسية وأبواقه الإعلامية الرسمية دائما ما يتموقع موقع المتفاعل مع، إن لم نقل رد فعل ضد .ولا يمر هذا بقراءة الفعل ما إدا كان تكتيك سياسي أو تحرك استراتجي فتسود الاندفاعية و تجييش العواطف مع أن المسالة المؤكدة هي أن الشعوب التي يعتبر هدا الصراع قاسمها المشترك كلاها لم تنعم بحياة وعيش كريم اللهم في المزايدات التي يتم توظيف معيار التنمية ومستوى تحصيلها في هذه البلدان لدى الوفود الدبلوماسية لتلميع صورتها في المحافل العالمية.

 ونستغرب أشد استغراب عندما ينظر للأمور بمنظار تجنيد الوطني لخدمة مشروع محلي جهوي، بل يمكن أن نقول بصراحة أن المعادلة الحقيقية هي استنزاف وطني لحسم موقف سياسي محلي بهواجس أمنية محضة، ذلك أن قرع الطبول لما يعرف بجهوية متقدمة بتقسيمات مجحفة لا تستند إلى قوالب معيارية في التقسيمات المتعارف عليها علميا ودوليا فهل يمكن ان نجد بحوثا جادة حول مدى تضافر الشروط التاريخية مثلا بإقرار نموذج جهوي معين، والتي تكون بمنأى عن ما يحاك في كواليس السياسة.

 يمكن طبعا دعم نموذج تنموي في جهة لكن ذلك قد يكون بمراعاة إمكانيات تلك الجهة وخلق تكامل مع أخرى، أما أن يرهن مستقبل بلد ويزج به في مقامرات غير محسوبة لحل مسالة ما  فهدا أمر أخر. والجدير بالعمل انه إذا كان الحل سياسيا فهو عمليا لن يخرج عن الرقعة المعنية به فقط  يجب إعادة النظر في أمور أخرى بجرعات زائدة من الجرأة في سياقها الملائم لا الاجترار والعودة إلى الوراء أو الهروب إلى الأمام إننا بصدد أحداث من شأنها أن تؤسس لحلقات أخرى من مسلسل الهذر في المغرب الراهن.

 فعلا غير مفهوم ما يحدث بالمغرب، بالأمس فضيحة رياضية على أعلى مستوى وتم امتصاص غضب بشكل دبلوماسي يبرهن على أن القائمين على أمرنا يمارسون العمل الدبلوماسي لكن داخل جحورهم وعلى أبناء شعبهم، وإلا كيف يعقل بأن تذهب أكثر من شؤون مليارا سدا، بل جرت على المغرب خراب مالي في ظل أزمة اقتصادية لا زالت تهدد حتى الدول المستقرة نسبيا، مع أن أغلب المغاربة لم يقتنعوا بالأسباب الكامنة وراء طلب المغرب تأجيل الكان الذي يعادل في أجندة الكاف الامتناع عن الالتزام بدورة صرفت على برمجتها أموال كثيرة .

 ومن وجهة نظرنا فالأسباب الحقيقية قد لا تخرج عن ثلاثة عوامل أول قد يتعلق بضغط خارجي ارتباطا بمشكل هجرة الأفارقة نحو أوربا وثاني بخوف المغرب من أن يتورط مع خطابه القاضي بتسوية أوضاع الأفارقة بالبلد وهذا سيجر عليه خلية نحل والثالث قراءة كمية وحسابية حول حصيلة حلول جحافل بشرية بإمكانيات مادية بسيطة، هل سينعش هذا الاقتصاد الاستهلاكي أم سينعكس إلى تفشي ظواهر اجتماعية كالتسول والباعة المتجولون وما خفي قد يكون أعظم.

إذن فقرار الغرامة تحصيل حاصل بالنسبة لنا  وحتى هنا يبدوا الأمر واضح لكن الغريب هو أن نقوم بإرسال السفراء والوفود من أجل الدفاع عن موقف هش في الأصل، وبدل من ذلك لنحاسب من تسبب في هذه الكارثة وأيضا نوفر علينا أموال ومصاريف الوفد التي قد تناهز مبلغ الغرامة .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.