“ولاد الدوار”

0 446

قلما يبتسمون، يحلمون،يشاغبون، لا ينتظرون أعياد الميلاد كي يستقبلو هدايا من كل صوب وحدب. في ذاكرتهم لا وجود لشيء اسمه عيد الميلاد ، فقط عيدا الفطر والأضحى ظلا راسخين في ذاكرتهم المنسية، عيد الفطر لأنه المناسبة الوحيدة التي يحضون فيها بفرصة ارتداء ملابس جديدة اشتراها أبوهم من سوق الدوار، بما تبقى له من “فلوس التقضية ” بعدما حل باكرا بالسوق الأسبوعي “الاثنين”مباشرة بعد نزوله للتو من حافلة أتت من المدينة الاقتصادية.
عيد الأضحى لأنه يفتح شهيتهم أمام اللحوم الحمراء، لحم كبش قاسمهم المرة والحلوة،في حظيرة تشاركه فيها نعجة نحيلة،ظلت منذ مدة آلة تنجب كل سنة مولودين. واحدا للعيد وآخرا للعقيقة. العقيقة، لأن الأزواج في الدوار يتسابقون على الولادة،تسابق الأنظمة المتعادية نحو التسلح.سلوك يوجد ما يفسره. كل مولود جديد يعتبر بمثابة مشروع تستثمر فيه العائلة. عندما يبلغ أولئك الأطفال سن الرشد، يزكي الأب ذاته ويمنح لنفسه التقاعد الكلي في سن مبكر. لا قانون يعلى على قانونه.
يذهبون كل صباح إلى المدرسة. بالصدفة،نصبت أعمدتها بجوار مقبرة الدوار. صورة واقعية ومعبرة. الموت يصاحبهم حتى المدرسة. وما الذي يدرسونه هناك؟! تراهم يحملون على ظهورهم محافظ ممتلئة بالكتب عن آخرها،موشوم عليها صورتين للاميس و مهند، تكلفت الدولة بمصاريف الطبع في إطار ما يسمى بمبادرة مليون محفظة.
“كيلوات” من الكتب تثقل كاهلهم،حتى تكاد أظهرهم تتقوس من شدة ثقلها. يفرحون بمجيء المعلم،وما هي إلا أيام معدودة حتى تمتزج الفرحة بفقصة “الجنانات”. يذهب الأب بنفسه إلى المدرسة. يستأذن من الأستاذ قائلا : السلام عليكم السي المعلم عافاك بغيت ولدي يعاوني فالسقا راه جات ساقية المخزن. في ثقافة الدوار كل شيء هو ملك للمخزن. كلامهم إلى حد ما على صواب. فالمخزن في الدوار استحوذ على كل شيء ، حتى أراضي القبيلة أصبحت ملكا له وما عاد لأبنائها حق التصرف فيها.
يستسلم المعلم لطلب الأب حتى لا تنزل عليه لعنة الدوار ويقال عنه “بغا يخسر لينا ولادنا”
فالولد المثالي بالنسبة إليهم هو الذي يتقن العمل في البستان منذ نعومة أظافره. أما من خالف تلك العقيدة وتفرغ كليا للدراسة، فهو حالة شاذة وعديم التربية. ذات يوم سمعت إحدى نساء الدوار تقول: الله يخليها سلعة شوف قرينك شنو دار فاق صباح بكري حش الفصة وأهوا غادي يقرا”
كيف لأطفال يقومون بأعمال شاقة أن يستوعبوا ما سيقوله الأستاذ. محرومين من اللعب والاستجمام. وعندما يدخلون القسم ينعتهم المعلم “بالكسالى”.
أطفال قلما يبتسمون ويمرحون، يصنعون لأنفسهم ألعابا من علب السردين والقصب. في عاشوراء، يصنعون “حروادي” بأوراق الدفاتر
وحين يأتي الصيف بحرارته الجهنمية يتسابقون نحو الوادي لمعانقة ما تبقى من مياهه في برك مائية هنا وهناك، أشفقت عليهم ،قاومت نار الشمس وظلت تنتظرهم كي لا تجهض حلمهم الموسمي. .
ليست لديهم شواطئ فاخرة.ليست لديهم مسابح .ليست لديهم ملاعب. بل لا يملكون كرة واحدة يتسابقون وراءها بكل أعدادهم الهائلة . فكل عائلة لديها ما يكفي من الأولاد لتشكيل فريق لكرة القدم.
وأنا أكتب هذه السطور،تنبهت إلى أني لم أذكر البنات. الفتيات منشغلات بمسلسلات مدبلجة اختارتها الدولة بإحكام و غدا يبتها الإعلام. يحلمن بقصص الحب التي تسوق وثقافة “التصاحيب”. قليلهن يدرس لكن حلم متابعة الدراسة يجهض بمجرد أن يطرق الباب أول شاب من الدوار أو من دوار محاذي له. تزف إليه في سن مبكر ..يختبئان في منزل ورثه الإبن عن أجداده. يسافر الشاب إلى المدينة الاقتصادية. يزور زوجته الصغيرة ثلاث مرات أو أربع في السنة..تبدأ عملية الإنجاب. …

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.