النخبة المغربية و التعليم الاستعماري

0 1٬042

قسم التعليم الاستعماري النخبة المغربية إلى نمطين فكريين متنافرين إلى حد بعيد: الأول، تقليدي. والثاني، عصري. وكل نمط مثلته نخبته.

النخبة التقليدية هي التي أنتجها التعليم الأصيل، الذي مثلته كل من جامعة القرويين بفاس وكلية ابن يوسف بمراكش. وكذلك مدارس التعليم الحر. وهاته النخبة لها تكوين عربي-إسلامي، مشدودة إلى الماضي. ولكنها لم تكن على قطيعة مع الغرب. فهي أكثر تمسكا بالمقومات الدينية واللغوية والحضارية للبلاد، وأقل اندفاعا نحو الغرب. وهي مكونة من علماء وتلامذة القرويين هاته الجامعة، التي أمدت الحركة الوطنية المغربية برجالتها، الذين قاوموا الاستعمار. مما جعل محمد الفلاح العلوي يقول: ( …ومع حلول سنة 1900 سيبرز دور جديد للعلماء كمدافعين عن البلاد )[1]. من خلال الفكر السلفي الوطني، من راوده نجد أبا شعيب الدكالي ( 1878- 1937) ومحمد بلعربي العلوي. هذان الشخصان، كانا يعطيان الدروس بجامع القرويين. فتتلمذ على يدهم العديد من رواد الحركة الوطنية، كعلال الفاسي.

فهاته النخبة التقليدية، كانت تدعو إلى الاهتمام باللغة العربية، والهوية الدينية للمغاربة. وتنتقد سياسة فرنسا في التعليم، القائمة على تجهيل المغاربة، من خلال الحد من ولوجهم إلى المدارس. مما جعل رجالات الحركة الوطنية يدعون الأهالي إلى الإقبال على العلم. فنجد علال الفاسي يقول: (…لا يمكن لأمة من الأمم، أن تنهض من كبوتها، ولا أن ترتفع من هونها، وتسير في ميدان التقدم والارتقاء، إلا إذا نالت قسطا وافرا من المعارف، وحصلت على ثروة ثقافية، تنير لها السبيل. والأمة التي لا تولي العلم وجهتها، ولا تعطيه حظه من العناية والاهتمام، هي أمة جديرة بالانحطاط والتأخر والانزواء في أركان المجتمع، والبقاء في أخريات الصفوف)[2] . ونجد كذلك محمد بن عبد الكريم الخطابي، يفضل العلم على الجهاد. إذ يقول: ( … إنه السلاح الحق، الذي يمكننا من الاعتماد عليه الآن. حتى نستطيع أن نواجه به المستقبل الحافل بجليل الأمور… والشباب إذ تعلم، أصبح بحق خير المجاهدين. لأن قادة الغد المأمول، سيكونون من بين صفوفهم)[3] .

فدعوة علال الفاسي ومحمد بن عبد الكريم الخطابي، المغاربة للإقبال على العلم. إنما ناتجة عن رغبتهم في تجاوز السياسة التعليمية التي نهجتها سلطات الحماية الفرنسية بالمغرب. رغم الإصلاحات التي قامت بها في سنة 1944، في عهد المقيم “غابرييل بيو” أو ما يعرف” باللجن الأربع” أو في سنة 1946، في عهد “إريك لابون”، الذي عين مقيما عاما بالمغرب في 30 مارس 1946، لمواجهة ومقاومة هذا التيار الوطني، بإحداث مدارس عرفت باسم

” Les écoles foraines” في إطار مشروع ” الإصلاح القروي” الذي فشل نظرا لمعارضة الوطنيين لمضمونه الرجعي، ومعارضة المعمرين شكله الثوري.

لنخلص، أن رفض النخبة التقليدية، للفعل الاستعماري في مجال التعليم، هو جزء من رفض الحركة الوطنية المغربية للاستعمار برمته والذي عملت على مقاومته بشتى الأشكال المتاحة لها. هذا فيما يخص النخبة التقليدية. فماذا عن النخبة العصرية ؟.

النخبة العصرية هي التي تلقت تعليمها في المدارس الرسمية، كالثانويات الإسلامية (مولاي يوسف بالرباط ومولاي إدريس بفاس)، و بالمدارس الأوروبية. وهي مؤطرة بقوالب الثقافة الاستعمارية، وتعاني من تناقض وجداني حاد: معجبة بالغرب وثقافته وأساليبه، يكبلها حذر وتحفظ إزاء هذا الغرب نفسه. تمتاز هذه النخبة، بكونها أكثر اندفاعا نحو الغرب، وأقل تمسكا بالمقومات الوطنية. ففي سنة 1944، تحولت الحركة الوطنية المغربية من حركة مطالب إصلاحية، إلى حركة نضالية، كما تم فيها إدخال مجموعة من التعديلات الأساسية في السياسة التعليمية، وكذا فتح مدارس عربية وطنية حرة، مع ما رافق ذلك من تحرك القرويين وابن يوسف، وقامت سلطات الحماية بقبول أبناء الوجهاء والأغنياء، في المدارس المخصصة لأبناء الأوربيين. مما جعل البورجوازية التقليدية، تتحول من التسابق نحو مدارس الأعيان إلى التهافت على المدارس الأوربية. وذلك ما تؤكده الوثائق. فبعض المغاربة عارضوا تمدرس أبنائهم إلى جانب أبناء جلدتهم بحيث اعتبروا أن (.. مرافقة أبنائهم لصغار الفرنسيين، أكثر نفعا واستفادة من وجودهم بالمدارس الفرنسية الإسلامية )[4]. بل منهم، ( .. من كان يضع أبناءه في منازل فرنسية، ظنا منه أن الوجود في مثل هذا الوسط، يساعد على التربية الحسنة)[5] .

ومقابل تهافت هاته النخبة على التعليم الأوروبي بالمغرب. كانت سلطات الحماية تضع العراقيل للحيلولة دون التحاقها بهذا النوع. من التعليم وذلك ما يوضحه جواب المدير العام للتعليم العمومي، على طلب وجهه إليه محمد اليعقوبي، أحد الأعيان بالدار البيضاء، قصد السماح لابنته بمتابعة الدراسة بإحدى المدارس الفرنسية بهذه المدينة ( يشرفني أن أحيطكم علما أن القانون المتعلق بقبول الأطفال المسلمين بالمدارس الأوربية، يؤكد قطعا: لا يمكن أن يسجل بمدارس التعليم الفرنسي، إلا أبناء المسلمين المجنسين، أو المسلمين الفرنسيين)[6]. فقبول المغاربة بهذه المؤسسات ( .. يبقى رهينا بمصلحة سياسية عليا )[7].

من خلال ما سبق، يتضح أن التعليم في عهد الحماية الفرنسية، خلق في المغرب، نمطين فكريين متنافرين إلى حد بعيد: الأول، عربي وإسلامي وتقليدي، مشدود للماضي. لكنه لم يكن في قطيعة مع الغرب. والثاني، يعيش بعض مظاهر الحضارة الغربية، لكنه يحكمه حذر وتحفظ إزاءها.

وتجدر الإشارة، أن هناك من النخبة الوطنية المغربية، من جمع بين انتقاد السياسة التعليمية الفرنسية، وهيمنة اللغة الفرنسية على برامجها وموادها، على مستوى خطابه السياسي والإيديولوجي. بينما على مستوى التطبيق، عمد إلى إرسال أبنائه لهذا النوع من التعليم لكونه يضمن آفاقا معرفية ومستقبلية أرحب. وقد عبر عن ذلك محمد عابد الجابري في قوله ( …النخبة الاجتماعية التي قادت الحركة الوطنية، أو انتسبت إليها كانت بمقدار ما تحتج على قومية التعليم، بمقدار ما تدفع أبنائها نحو المدارس الأوروبية).

مما جعل هذه النخبة المفرنسة وحدها المؤهلة اجتماعيا وثقافيا، لتولي المسؤوليات غداة الاستقلال، جعلها تعمل على استمرار الوضع القائم وتنميته على أساس النموذج الفرنسي.

 

[1] – العلوي محمد الفلاح، دور الفكر السلفي في تعزيز الحركة الوطنية داخل جامعة القرويين، ضمن ندوة ( المقاومة المسلحة والحركة الوطنية بالمنطقة الوسطى الشمالية)، منشورات المندوبية السياسية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير وكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز، فاس، 1985. صص. 179- 186.

[2] – الفاسي علال، ” الشباب الإفريقي “، مجلة السلام، عدد 12/6، مارس 1934.

[3] – جريدة العلم، عدد 522، 14 ماي 1948.

[4] – Brunot. Louis , Note confidentielle d’un sujet des élèves marocaines faisant des études dans des établissements scolaires destinés à des européens , octobre 1929 , p 2

[5] – Direction générale de l’instruction public , bilan 1945 1950 , école du livre , 1950 , p . 158.

[6] – البكراوي محمد، الطلبة المغاربة بالجامعة الفرنسية خلال ( فترة ما بين الحربين: 1927-1939 ضمن (التعليم والمسألة التعليمية عبر تاريخ المغرب)، مجلة أمل، عدد مزدوج : 28-29، 2003، ص ص. 103-130.

[7] – Brunot Louis , Admission d’un élève musulman au lycée français , N 2098, 28 Mai 1937.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.