النخبة التونسية من خلال التعليم

0 461

     أصبحت تونس ملهمة الشعوب العربية ،بعدما اسقطت إحدى أعثى الديكتاتوريات التي تربعت على السلطة ردحا من الزمن من خلال ثورة الياسمين ،التي اعلنت ميلاد الربيع العربي، الذي تحول خريفا في مصر واليمن وليبيا وسوريا و جعل الشعوب تلعن هاته الثورات لما خلفته من دمار في البنى و الأقوات ،ما عدا التجربة التونسيةالتي نجحت في إرساء تجربة فريدة في العمل السياسي ، باجتيازه للمرحلة الانتقالية رغم الاشواك (إغتيال شكري بلعيد و البرهمي و العمليات الارهابية التي استهدفت الجيش في جبل الشعانبي) بنجاح، من خلال إنتخابات برلمانية شفافة و نزيهة ،ثوجت بتصدر حزب نداء تونس المشهد السياسي التونسي. لتجرى الإنتخابات الرئاسية بين المنصف المرزوقي والقايد باجي السبسي والتي انتهت بجعل الثاني رئيسا لكل التونسيين، لتكمل اخر جولات الانتقال نحو الديمقراطية .الا أنه وجبت الإشارة أن هذا ما كان ليتحقق، لولا وجود نخبة سياسية محنكة بإسلامييها و علمانييها ،حكمت منطق العقل على التهور، و مصلحة الوطن عوض الإنجراف نحو الشخصانية الضيقة رغم ما تعانيه تونس من تنامي الأعمال الإرهابية الهادفة لإفشال المسلسل الديمقراطي( هجوم متحف باردو الارهابي كمثال) ،نخبة أمنت أنه يمكن لدولة عربية أن تحقق الانتقال الديقراطي من خلال ثورة سلمية . مما يجعلنا نحاول معرفة الجذور الثقافية و العلمية لهاته النخبة معتمديين على التعليم كمدخل .

أمد التعليم الحركة الوطنية برجالاتها، الذين خاضوا المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي، فالحركة الوطنية التونسية، نشأت وترعرعت في الزيتونة. حيث ظهرت الوطنية التونسية السلفية، المرتبطة بأفكار محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وبالحركات التحررية في المشرق العربي، كما نشأت نخبة أخرى بالمدرسة الصادقية- مما يجعلنا نقسم النخبة الوطنية التونسية من حيث تكوينها العلمي إلى تياران متمايزان.

  • الاتجاه الزيتوني.
  • الاتجاه المدرسي

فخريجو التعليم التونسي، من أبناء الزيتونة والمدرسة الصادقية. كانت علاقتهم في بداية الاستعمار الفرنسي، تتسم بالتعاون. حيث كانوا حريصين على مد الجسور بينهم. وتعتبر الخلدونية، التي أحدثها شباب صادقي، لتلقين الطلبة الزيتونيين العلوم العصرية خير مثال على ذلك. لكن اختلاف الأفاق المهنية لكل فريق خلقت نوعا من التمايز. فمن التعليم تبلور فريقان متمايزان: 1- الزيتونيون 2- المدرسون. فماذا عن كل فريق ؟.

الزيتونيون هم خريجو الزيتونة، ينتمون إلى المناطق القروية والأحياء الهامشية بالمدن. كان يدمجون في المناصب التعليمية والقانونية كالعدول مثلا وكانوا مرتبطين بحزب الدستور القديم والاتحاد العام التونسي للشغل .

انتقد أصحاب هذه الاتجاه، فرنسة التعليم برامجا وموادا، وما يتسم به من كونه تعليما فئويا، ضيق الانتشار وقائم على الاحتواء والدمج والتدجين. لذلك عمد أصحابه إلى دعوة الأهالي، للإقبال على العلم، باعتباره عدوا للاستعمار، الذي سعى بسياسته إلى تجهيل الأهالي. فلم يمنحهم سلاح المعركة (= التعليم) . حسب عبد العزيز الثعالبي. حيث يقول: (… أن ابن البلاد يعتبر مادة أولية، جيدة ومربحة. فلا يمكن منحه السلاح الضروري للمعركة ( = التعليم). وذلك بتلقينه تعليما غير مناسب، وكفيلا بخلق عناصر منافسة، متمردة لا محالة على نوع من أنواع الاستغلال، ولو كان يسيرا)[1]. موضحا رفضه للتعليم المقدم للأهالي، لكون لا يتماشى مع هويتهم الثقافية والحضارية. إذ يقول: ( .. إن التعليم الرسمي المقدم إلينا، ليكون أساسا لتربيتنا الاجتماعية. هو بعيد عن طبيعتنا، مثله بالنسبة إلينا. كمثل الحضارة الصينية بالنسبة للمثل الأعلى الفرنسي)[2].

مما جعل خير الله بن مصطفى، الذي أنشأ الكتاب العصري سنة 1907، يتساءل عن نوع التعليم الذي يجب تقديمه للأهالي، وذلك بمناسبة انعقاد مؤتمر إفريقيا الشمالية بباريس 6-8 أكتوبر 1908، حيث يقول: (..أي نوع من المدارس يطلب المسلمون ؟ إنهم يرغبون في المدارس التي تسميها إدارة التعليم العمومي فرنسية-عربية، لأنها مخصصة أساسا للأطفال المسلمين، بل يرغبون في مدارس تضم الأهالي والأوروبيون، حتى يتعلموا منذ الطفولة، كيف يتعارفون ويتحاورون)[3] . فرأى الحال في إنشاءه الكتاب العصري سنة 1907، الذي يتخذ من برامج المدرسة الفرنسية العربية مقررا، ولكن لغة التدريس هي اللغة العربية. على غرار ذلك دعا أصحاب هذا التيار من الحركة الوطنية إلى تنظيم تعليم وطني، لسد الفراغ، عبر منابر الصحف ( الحاضرة، جريدة الزهرة….) . فنجد محمد الحجايبي، في جريدة ” الصواب” عدد 466، لـ 4 شتنبر 1925 الموافق لـ 15 صفر 1344 هـ يقول: (.. يتحتم اليوم على كافة التونسيين، في سائر الجهات، أن يهبوا من مراقدهم وأن يستخدموا زكوات الحبوب من صابة هذه السنة ( = 1925) في سبيل ناجحة وتجارة رابحة. ألا وهي إنشاء المدارس القومية لأبنائهم، وتعليمهم حسب ذوقهم، والاحتفاظ بلغتهم وآدابهم)[4]. وذلك من أجل مقاومة السياسة الاستعمارية القائمة على الفرنسة ومحاربة الهوية اللغوية والهوية الدينية. إذ يقول: ( ..ما تتجه إليه سياسة التعليم من أخطار، يريدون إيقاع التونسيين فيها. طمعا في قتل الوعي القومي، والقضاء على الفكرة الوطنية، التي أصبحت تتجه إلى نقطة معاكسة لنوايا الاستعمار، منحدرة نحو استقلال البلاد الكامل، بتمهيد جميع الطرق، في جميع الميادين)[5].

لقد سمحت الجمعية الخلدونية، التي أسسها مجموعة من خريجي المدرسة الصادقية، ومؤسس جريدة الحاضرة ( 1888م) ، قصد تلقين طلبة الزيتونة العلوم العصرية. بظهور نخبة زيتونية خلدونية، تبنت مواقف وطنية جذرية. حيث فضلت الاصطدام مع سلطات الحماية الفرنسية، عوض المهادنة غير المشروطة. كانت هاته النخبة تتخذ من المشرق نموذجا، وتنادي بتعريب العلوم العصرية، والاقتصاد على تدريس الفرنسية كلغة. ومن تم طالبوا بإصلاح الزيتونة، حتى تدرس بها العلوم العصرية الحديثة، وانتظموا في جمعية خاصة بهم سنة 1907 سموها ” صوت الطالب الزيتوني”. قاموا من خلالها بالعديد من الاحتجاجات عن طريق إضرابات وعرائض… مما جعل سلطات الحماية تقوم بتكوين لجان لإصلاح التعليم في الزيتونة.

فصدرت مجموعة من القوانين نذكر منها:

  • قانون 1912، القاضي بتقسيم مواد الدراسة بجامع الزيتونة إلى إجبارية واختيارية. مع إدخال بعض المواد العصرية ( التاريخ والجغرافية والحساب ….) ضمن المواد الإجبارية.
  • قانون 1933، الخاص بالإصلاح الزيتوني يقضي بإضافة بعض العلوم الرياضية والعصرية في البرنامج كمواد إجبارية ( الحساب، الجبر، الكيمياء..) لكن شريطة تخصيص أكبر وقت للعلوم الشرعية.
  • قانون 1951، القاضي بإحداث الشعبة العصرية الزيتونية.

فرغم كل هذا بقي التعليم الزيتوني تقليديا، يهدف بالأساس إلى تخريج علماء في الشريعة الإسلامية. واستمر يعاني من عدة مشاكل كعدم اعتراف الجامعات في الشرق والغرب بشواهده، ومحدودية الآفاق المهنية لخريجيه، عكس النخبة الصادقية، التي تتمتع بآفاق مهنية رحبة. فماذا عنها ؟.

المدرسيون هم الذين تخرجوا من المدرسة الصادقية، ينتمون للطبقة الارستقراطية المدنية. كانوا مرتبطين بحزب الدستور الجديد، الذي تأسس في 22 مارس 1934. هذا التيار كان يؤمن بالنموذج الفرنسي، متخذا شعار ” المشاركة”، وتلخص مذهبهم في التعليم بعبارة (التثقيف بالفرنسية، وتعليم العربية). من أبرز زعماء هذا الاتجاه، ” باش حانية”، الذي كتب مجموعة من المقالات سنة 1909، حول المدرسة الفرنسية-العربية، التي كان يريدها المدرسة الوحيدة، التي يتعلم فيها أبناء تونس شأنهم شأن الجاليات الأوروبية التي تتوفر على مدارسها يقول:(…إنه بكل بساطة إمكانية دخول الأهالي، في كل المدارس الابتدائية الحكومية، في نفس الظروف المتاحة للأجانب… لقد أنشئت مدارس في تونس، خصصت للكل، ما عدا المسلمين. فهذه المدارس المريحة بمبانيها الجديدة، والتي انفق عنها من أموال الدولة التونسية، مفتوحة للفرنسيين والإيطاليين والمالطيين واليهود التونسيين، وليس أبدا للأهالي المسلمين)[6] .

ويضيف: (…إن على الطفل الأهلي، أن يكون مزودا بنفس زاد المعارف، التي يتمتع بها صغار الفرنسيين والإيطاليين، الذين سيعيش معهم فيما بعد، وسيكون له معهم علاقات في التجارة، والصناعة، والوظائف العمومية، والمهن الحرة، وغيرها. إن تقديم تعليم غير مساو لأبناء الأهالي، وأبناء الأوروبيين، هو ظلم صارخ، وإن إعطاء تعليم مختلف، لأولئك عن هؤلاء، يعني زيادة توسيع الهوة التي تفرق بينهم)[7].

فالمدرسيون، كانت لهم آفاق مهنية رحبة. إذ بمجرد تخرجهم، يعملون كموظفين ومترجمين، ويعملون في المهن الحرة العصرية. عكس الزيتونيين الذين بقي وضعهم جامدا، كما كان من قبل، وآفاقهم المهنية مقتصرة على التدريس والوظائف القانونية.

فهذا التمايز بين الاتجاه الزيتوني، والاتجاه المدرسي، في الآفاق المهنية، انعكس على الحركة الوطنية التونسية، وعلاقات مكوناتها. إذ أن جميع الانقسامات التي عرفتها هاته الحركة، كانت ذات علاقة مباشرة، مع التصنيف ” زيتوني” و” مدرسي”. لكون الصراع كان في العمق صراعا اجتماعيا.

هاته هي الاصول التعليمية للنخبة التونسية التي صنعت ثورة الياسمين إما مشاركة أو تكوينا لجيل شباب الإستقلال فهنيئا لتونس بتحولاتها نحو الديمقراطية عن طريق ثورة أطاحت برموزالديكتاتورية.

[1] – الثعالبي عبد العزيز، تونس الشهيدة، تعريب: حمادي الساحلي، مراجعة: محمد العروسي المطوي، دار العزب الإسلامي، بيروت، ص: 69.

[2] – نفسه، ص: 75.

[3] – Ben Mustapha- Khairallah ; l’enseignement primaire des indigènes en Tunisie ; la Tunisie actualité ; spéciale ; 1973 ; p : 111.

[4] – الدقى نور الدين وعدة ليلى وجلاب الهادي، المجتمع التونسي والاستغلال الاستعماري، منشورات المعهد العالي لتاريخ الحركة الوطنية، تونس، 1977 ص: 133.

[5] – نفسه، ص: 140.

[6] الجابري عابد، التعليم في المغرب العربي، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1989، ص: 74.

[7] – نفسه، ص: 74

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.