يوميات معاركنا المقرفة
لقد ”خسرنا الحرب ولكننا لم نخسر أخلاقنا”،ردة فعل عفوية ربما،لامرأة ألمانية،صارخة في وجه رجل،حاول اقتحام الصف في القطار،مخلا بنظام الطابور.جواب سيدة من عامة الشعب، ارتقت به أجواء الحزن المخيمة، على ألمانيا والألمانيين، جراء هزيمة الحرب العالمية الثانية،إلى قانون إيتيقي بشري،يضع في كفة، أقصى مايمكن أن يعانيه شعب من الشعوب، وهو تعرضه لهزيمة عسكرية،باعتبارها ترميزا أوليا،ومجرد بقعة سوداء طفت على السطح، وصورة جلية فقط،لسلسلة هزائم تراكمت واعتملت ضمنيا في قلب المجتمع،فشكلت مقدمة للهزيمة الكبرى.ثم، عند كفة أخرى مقابلة،تلك الخسارة الأخلاقية.
هكذا، يفهم من صياغة المقولة،أن السيدة تضع بالمطلق معركة الأخلاق، فوق باقي المعارك،وتضفي عليها سمة المبدأ الأسمى،غير القابل أبدا، للمساس بأي شكل من الأشكال،أو إخضاعه للمساومة،بالتالي عدم إقراره بتاتا بقانون الحرب المستند على الثنائية النسبية للهزيمة أو الانتصار.إجمالا،بوسع الشعوب أن تستعيد المبادرة ثانية،وتعاود النهوض من جديد إن أرادت طبعا،كي تحقق الانتصار في معركة حربية مقبلة،لكن شريطة إبقائها على رغم كل شيء،على نقاء جوهر مقوماتها الروحية والإنسانية،بحفاظها الدائم على تمدنها وتحضرها،مثلما عبرت عنه السيدة الألمانية مجازيا، بالأخلاق.
إذا توخينا إسقاط هذه المعادلة على واقعنا المغربي،على ضوء ضراوة معارك سيزيفية، ليست بالضرورة تقليدية،نجبر على خوضها من الصباح إلى المساء،على امتداد الفصول الأربعة،مراكمين بذلك هزائم مادية مباشرة،بناء على وهمية ”انتصارات” يومية تافهة،لدى من انتصر! دون الانتباه، كما فعلت السيدة الألمانية، إلى طرح الشق الأخطر في المسالة، المتعلق بالارتدادات السلوكية والفكرية والقيمية الفظيعة،التي تنخر وجوديا أساس كياننا.
حروب ”أهلية” يومية مستعرة،تحقيقا لأوهام مجتمعية،بنيران صديقة وأسلحة كاتمة للصوت،حيث الجميع يريد أن يسحق الجميع، دون هوادة،ويستحوذ على الغنائم وحده.هي شبيهة بحروب، الإغارة على القوافل،نظرا لانتفاء أدبيات وأخلاقيات المعركة بمفهومها البطولي.لذا، انتمى جلها إلى جنس حروب جاهلية داحس والغبراء،حيث المنطلقات واهية جدا،لكنها بلا نهاية، ومفتوحة لمدى بعيد، على كل الاحتمالات.
معارك سياسيينا، التي أقل مايقال عنها بأنها تبعث على الشفقة، وفي غاية الخذلان، مادامت لاتحترم المجابهة الشجاعة، والوفاء لقسم المعركة، كما الواقع مع أخلاقيات جنود المعارك، الحقيقية. صاروا، يخلقون وهما معارك من غبار ورمال، ويسخنون وطيسها، بتراتيل حفظهم عن ظهر قلب،للمعلقات الشعرية الطويلة،حسب تحسسهم،لأيسر مسالك الغنيمة،على طريقة البقاء لأكثرنا وأكثركم”فهلوة” !! .بيد أنها في النهاية، تبقى انتصارات صغيرة جدا،غير مشروعة.
معاركنا،التي لاتزداد سوى جنونا،بقدر خوائها،ونحن نحتشد برعونة، كأننا خرجنا فعلا من حرب مدمرة طويلة، في المستشفيات وعلى الطرقات والأمكنة العمومية والملاعب والإدارات والشواطئ والمسابح والفنادق والمطاعم والمدارس والجامعات…،فلسفات الطوابير؟ ومساحات الإرادات؟ وتقاسم مصالح الجميع؟ وكيفيات المرور؟ والحق في هذا أو ذاك؟ وتجمٌّعنا؟ وتفرٌّقنا؟ وأفراحنا؟ وأتراحنا…؟ .
مفارقة هذا المضمار العجيب،أن أغلبنا ينتقد خلال جلسات الاسترخاء،باسم التحضر، ممتعضا من سلوكاتنا غير المتمدنة، الموغلة في سعيها دون تراجع نحو قانون الغاب، ومتعللا باستشهادات على شاكلة الكيفية التي خاطبت بها المرأة مواطنها الألماني،لكن أغلبنا أيضا،وبعد حين، لن يتردد قيد أنملة، في الإقدام على ذات السلوك المشين،إن اقتضى الموقف على وجه السرعة،انتصارا زائفا من انتصارات حاجاته اليومية،طبعا على حساب حقوق آخرين.
إجمالا، وعلى نقيض سياق، عصارة عبرة السيدة الألمانية : نحن هنا، لم نخض حربا،ومع ذلك خسرنا ونخسر الكثير.