نـــهايـــة الـــيقـــينــــيات
انتهت ثورة أصحاب السماعة (الطلبة الأطباء) ليبدأ احتجاج الأساتذة المتدربون، فما فتأت وقفة الأطباء الأخيرة بالرباط أن تخمدَ نارها يوم 28 أكتوبر حتى اندلعت احتجاجات قوية بالمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين لتدخل أسبوعها الثالث، حيث تعرف هذه المراكز اليوم توقفا شاملا للدروس النظرية والتطبيقية، والأمر هنا ليس كسابقه فالأساتذة المتدربون لم ينتفضوا ضد خدمة إجبارية أو رفض للاشتغال بالمناطق النائية في ضل غياب الوسائل الضرورية، لكن المحرك لهم هو مصادرة حقهم في التوظيف.
فبعد أن اجتاز الأساتذة المتدربون المباراة الكتابية والشفوية لولوج المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، ظن هؤلاء الشباب من أبناء الشعب المغربي ومعهم عائلاتهم أن حلمهم في التوظيف سيتحقق هذه السنة، لكن تفاجئ المترشحون للمباراة بمرسومين خرجت بهما وزارة التربية الوطنية خلال فترة الصيف ومرحلة العطلة، دون علم أحد أو مشاورات للأطراف المعنية بالمرسومين.
“نهاية اليقينيات” كان عنوانا لمقال آخر لو كُنّا في مقام غيرِ هذا، فقد عبّر “إِليا بريغوجين” في شأن هذا العنوان أنه من الضروري استرجاع منهجية علومية تحقق التنمية الشاملة في كل المجالات، ففي سنة 1994، نشر بريغوجين كتابه “قوانين الفوضى” الذي يخترق واجهة الكون المنسجمة ظاهريا وينظر للفوضى والحيرة؛ بريغوجين الكيميائي الفيزيائي البلجيكي الحائز على جائزة نوبل الذي يحظى بالتقدير الكبير في الأوساط العلمية، وكذا في عالم الأفكار الفلسفية الطبيعية، بريغوجين الذي لا يقدم في كتابه “نهاية اليقينيات” خلاصة عَجْلَى مبنية على تخمينات فلسفية أو تخيلات غريبة، والحال الآن هو أنه لا شأن لنا من هذه التسمية إلاّ ذلك اليقين الذي تحقق للجميع، فالمغاربة قاطبة تأكدوا بأن الدولة اليوم تحاول رفع يدها عن كل القطاعات الإجتماعية وفي هذا الصدد يعتبر باحثون أن ما يجري الآن بالساحة المجتمعية من رفض قاطع لمحاولة خوصصة قطاعي التعليم والصحة يتجسد من خلال هذه الإحتجاجات القوية على مراسيم وقوانين، “يظهر منها أن باطنها فيه العذاب وظاهرها فيه القسوة”، وفي هذا السياق عبّرت نقابات تعليمية متعددة في الوقت الذي تم الإعلان فيه عن هذين المرسومين المنظمين لمباراة ولوج المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين عن رفضها التام والقاطع لهما، واعتبرتهما زحفا على مكتسبات الشغيلة التعليمية ومحاولة لسحب الثقة من المراكز التكوينية التي تَخَرّج على يدها زمرة كبيرة من الأساتذة الأكفاء. وما شعار الجودة والنهوض بالتعليم إلا كلمات فارغة من محتواها فلا معنى لانتقاء خِيرَة الأساتذة المتدربون لاجتياز امتحانات كتابية وشفوية تمحيصية تم معاودة إجراء اختبار للتوظيف في آخر الموسم الدراسي، فيكفي أنهم كانوا يجتازون امتحان التخرج بالمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين .
يعرف المغرب اليوم تحولا ديمقراطيا يتمثل في إقرار النموذج التنموي لمشروع الجهوية المتقدمة والموسعة تُعطى فيه الأهمية للبعد المحلي والجهوي، وفي هذا الباب يستغرب أساتذة متدربون من الثقة المسحوبة من المراكز الجهوية وفق المرسومين (المشؤومين)، ويعتبرون أن فيهما رُجوعا إلى الوراء وتكريسا لطابع المركزية في حالة إجراء امتحان موحد وطنيا.
المرسوم رقم 2.15.588 يقضي بفصل التكوين عن التوظيف، والمرسوم 2.15.589 يقلص من قيمة المنحة لأقل من النصف، وحسب أستاذ متدرب (محمد) بالمركز الجهوي للدار البيضاء الكبرى: ففي المرسومين حيفا في حق رجال ونساء التعليم مستقبلا، على غرار ما تشهده قطاعات أخرى من زيادات في منح الناجحين في مباريات التوظيف بها .
بتاريخ السبت، 09 ماي 2015 نَشَرَ أستاذ بالسلك الثانوي التأهيل(مجيد انهايري) على جريدة الحوار الاجتماعي، مقالا بعنوان “صناعة التعليم في المغرب”، يُصَدِّرُ مقدمة مقاله بكون أي سياسة تعليمية لأي مجتمع لا بد وأن تتم وفق نهج خاضع لتأثير النظام السياسي السائد، وهو ليس من العيب أن يكون هناك ضبط ما دام ذلك سيخلق مواطنا فيه حس المواطنة الفعالة وصناعة مجتمع له القدرة على فهم الحياة والتعبير عنها بسهولة مبنية على تفكير منطقي وعلمي حريص على تحفيز الأفراد لإظهار مواهبهم…
وعرضُنا لنص هذا المقال يأتي لإظهار الخفي منه، وهو أين من سيربي هذه الأجيال على هذه الثوابت والقيم؟؟
فسؤال الموارد البشرية يطرح نفسه بحدة خصوصا في ظل الاكتظاظ الكبير الذي تعرفه المدرسة العمومية السنوات الأخيرة، إضافة للخصاص المهول للأساتذة بجميع الأسلاك التعليمية، وحسب فيسبوكي فإن الخصاص السنوي بقطاع التعليم العمومي يقدر ب14000 منصب، إضافة إلى خصاص هيكلي يصل إلى نحو 20.000 منصب.
بعد هذه المقاطعة الممتدة للتكوين بالمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين هذه السنة، وفي ظل سكوت رسمي للسيد وزير التعليم “بلمختار” حول هذا الملف الساخن وبعد أن توجه الأساتذة المتدربون إلى الأكاديميات الجهوية والنيابات التعليمية بشتى المدن المغربية، قادت التنسيقية الوطنية للأساتذة المتدربون بوصلة الاحتجاج ضد المرسومين إلى العاصمة الرباط في خطوة تصعيدية هي الأولى من نوعها، حيث انطلقت مسيرة بيضاء الخميس الماضي 12 نونبر من أمام مقر وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني في اتجاه نحو البرلمان حيث أدى حشد عظيم قدره إعلاميون بنحو 9000 أستاذ متدرب قسما بالاستمرار في المقاطعة الشاملة للدروس النظرية والتداريب الميدانية مالم تستجب الوزارة الوصية لمطلب إلغاء المرسومين سالفي الذكر. وقد أصدرت التنسيقية الوطنية بيانا للرأي العام تحمل فيه الوزارة مسؤولية الشلل التام الذي تعرفه المراكز، كما أكدت فيه عزمها الدخول في أشكال أكثر تصعيدا في حال استمرار الحال إلى ما هو عليه من عدم إلغاء المرسومين. وبعد اجتماع أخير لها كان بتاريخ الجمعة 13 نونبر خطت التنسيقية الوطنية للأساتذة المتدربين برنامجا نضاليا لمدة خمسة عشر يوما، صدر على شكل بلاغ يتوجه إلى كافة المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، في انتظار فتح باب الحوار الذي لازال مغلقا من لدن الوزارة الوصية والتي لم تتقدم لحد الساعة بمقترح أو تبرير في هذا الشأن.