مهرجان الهرمة بقصر تمنوكالت خزان الذاكرة الدرعية
بحلول ذكرى المولد النبوي الشريف تكتسي درعة حلة بهية، وتنطلق الأفراح في كل مكان فرحا وتعظيما لهذه المناسبة الدينية الغالية التي غيرت مجرى العالم، ومهرجان الهرمة بقصر تفركالت بجماعة مزكيطة بزاكورة واحد من هذه الاحتفالات الشعبية المرتبطة بهذه الذكرى، حيث التقاليد الراسخة والعادات والتقاليد المعبرة عن الوعي الجمعي لساكنة درعة، مهرجان كبير بعمق إفريقي، أمازيغي،عربي، ديني، فني، تمتزج فيه التقاليد والثقافات والعادات، معبرة عن التعايش السلمي والمتجدر للأجناس والأعراق المختلطة لساكنة واحة درعة، مناسبة تحمل من الحقائق والدلالات الشيء الكثير، فهي من جهة فرصة للساكنة للتعبير عن فرحها وسعادتها بمولد سيد الأنام، وهي من جهة أخرى تختصر حقائق تاريخية رسمت تاريخ تفركالت ، هذا القصر الفريد ودرعة، بصفة عامة.. كما أنها من جهة ثالثة فرصة لرواج اقتصادي داخلي وتشجيع على السياحة الداخلية.. إذ تعرف المناسبة توافد عدد كبير من المواطنين والمريدين والفقراء والمساكين..
فالمهرجان يؤكد الأستاذ محمد أيت لمعلم فاعل جمعوي ومهتم بالشأن الثقافي للمنطقة له أصول وتاريخ وامتدادات، ففيما يخص الإسم “الهرمة” فهو مأخوذ من القول المشهور:
كان هنا قبلنا عند شيخنا جينا ضيف الله
فكلمتا (كان هنا) تم مزجهما وتحريف نطقهما حتى صارتا (هرمة)، كما أن لهذه التسمية علاقة وطيدة بالمدفع الذي يحمله الرجال بين أيديهم أثناء أدائهم لرقصة الهرمة، والمعبر عن القوة والاستعداد للدفاع عن الأرض والوطن..
أما فيما يخص أصل هذا المهرجان وبدايته الأولى فيؤكد الأستاذ أن الشيخ الصالح الورع أحمد بن أحمد وهو من شيوخ المرابطين قدم من زاوية ملال قرب الكيلومتر 14 في الطريق إلى زاكورة واستقر بقصر تفركالت من أجل التعليم والتدرير، رفقة أخيه عبد الرزاق بن أحمد الذي استوطن بقصر تالوين القريب من تمنوكالت، فأسس زاوية أصبح لها فيما بعد سبعة فروع، زاويتين بتازارين، واثنتان بإمغران، وواحدة بتفركالت، وأخرى بتالوين، فيما السابعة بملال.. وتؤكد الرواية أن الأخوين كانا يتبادلان الزيارات في الصباح والمساء قصد تدارس بعض القضايا العلمية وصلة الرحم، وكانت هذه الزيارات تكون بشكل جماعي، حيث يكون برفقة الشيخ مريدوه وتلامذته، لكن الصراع التاريخي بين القصرين جعل هذه الزيارات تقل وتضعف بحكم القلاقل والاضطرابات الأمنية، إلى أن أصبحت بعد ذلك سنوية مزامنة لذكرى المولد النبوي، أي أنها تتم في اليوم السابع تحديدا من شهر ربيع الأول، حيث يقوم الشيخ محمد بن عبد الله بن أحمد الحفيد القاطن بقصر تفركالت رفقة تلامذته ومريديه، إلى جانب بعض الجنود الذين يوفرون لهم الجماية في الطريق، بزيارة ابن عمه الشيخ يحي بن أحمد بقصر تالوين، والذي يخصص لهم استقبالا حارا.. يعقبه عقد حلقات علمية، الغرض منها إجازة التلاميذ الجدد، وأخرى لقراءة الأوراد، وخاصة دليل الخيرات، بعد الانتهاء يتم إكرام الضيوف بوليمة، تعبيرا عن الكرم وحسن الضيافة، حيث تتطوع كل عائلة بإخراج وجبة غدائية إلى ساحة الدوار، وغالبا ما تكون عبارة عن كسكس باعتبارها الوجبة التي يتجمع حولها الأفراد، أضف إلى ذلك كونها الوجبة المحببة لدى التلاميذ والمريدين والجنود المفارقين للأهل والأحباب.. بعد إخراج هذه الوجبات يتم جمعها والتحلق حولها لتناولها بشكل جماعي، تتويجا للمهرجان، في حفل ديني فني بديع، يتم خلاله إنشاد الأمداح التي تتغني بالنبي العدنان… فيلعب الجنود ويطلقون الرصاص في الهواء فرحا وإظهارا للقوة والشجاعة، المستبطنة للتخويف.. ويمكن اعتبار تلك الحركات التي كان يقوم بها أولئك الجنود بمثابة إرهاصات أولى لرقصة الهرمة..
وفي رواية ثانية لها علاقة وطيدة بالموضوع يفيد الشيخ محمد بن لحسن أيت لمقدم المعروف بـ “حمامو” من وجهاء وشيوخ قبيلة تفركالت، والبالغ من العمر 80 سنة أنه وفي إطار هذه الاحتفالات الدينية، وبحكم كون قصر تفركالت كان يمثل مقر السلطة التنفيذية للقواد الذين تعاقبوا على حكم المنطقة قبل وأثناء الاستعمار كالقايد الحسن والقايد المداني والقايد عبد الرحمن والقايد محمد وابنه أبو بكر وحفيده علي، بينما كانت تالوين مقر السلطة التشريعية، يحكي الشيخ احمامو أنه تم الحكم على شاب من أولاد يحي بالقتل، وتم بعثه إلى قصر تفركالت لتطبيق الحكم، وصادف موعد إعدام هذا الشاب ذكرى المولد النبوي الشريف، فتم تأجيل تنفيذ الحكم إلى ما بعد الاحتفال بالذكرى، حتى يتسنى للجميع الفرح بالمناسبة، لكون الأحكام كانت تطبق علنيا وسط الساحة، وهو ما يبعث على الجزن والخوف، وذكرى المولد مناسبة للفرح والسرور، فما كان من الشاب المحكوم عليه بالإعدام، يضيف الشيخ احمامو، ونفس الرواية أكدها الأستاذ أيت الملعم، إلا أن طلب من مراقبيه تنفيذ أمنيته الوحيدة بعد الحكم عليه بالإعدام، وهي أن يشارك الساكنة احتفالاتها بالذكرى، فتم قبول طلبه لتخفيف وقع الحكم عليه، إلا أن الشاب استغل هذه الفرصة لما كانت الأناشيد تنشد والأهازيج تردد، وبحكم أن هذه الاحتفالية تكون على شكل جلزوني دائري استغل الشاب فرصة قربه من النساء وهو وسط الصف الحلزوني فنظم أبياتا شعرية مؤثرة وجهها للنساء الفركاليات يتوسل من خلالها منهن التوسط له للعفو عنه، منها هذا البيت الذي لا يزال يردد في هذه الاحتفالية إلى اليوم:
آلفركاليات أنا خديـــــــــــــــــــــــمكم عبد بلا ثمن
رسالة مؤثرة وجدت صدى في قلوب النساء الفركاليات، التي أشفقن عليه، وعقدن اجتماعا خلصن من خلاله إلى نتيجة مفادها التوسط للأسير لدى زوجة أحد أشراف قصر تفركالت المسمى أشاريد، والذي كان يشغل منصب مستشار القايد آنذاك… خطوة كانت نتيجتها عدم تنفيذ الحكم حقيقة، إذ أطلق سراح الشاب، شريطة خروجه من القصر إلى وجهة غير معروفة، وإشاعة خبر إعدامه بين الناس لإيهام السلطة التشريعية في قصر تالوين بأن الحكم تم تطبيقه..
وبالنظر إلى هذه الرواية يؤكد الدكتور عبد الكريم الفزني الباحث في شؤون التراث الشعبي الدرعي أن هذه الرواية تأكيد ودليل على مشاركة المرأة الدرعية في صنع القرار السياسي، وتدبير الشأن المحلي، باقتراحاتها وتفاعلها مع الأحداث بشكل إيجابي، يتيح لها إسماع صوتها، والتعبير عن رأيها الذي غالبا ما كان يجد طريقه إلى التطبيق، على خلاف ما يتم تسويقه والترويج له بأن المرأة الدرعية ظلت حبيسة البيت والمنزل، لا دور لها سوى الإنجاب والقيام بأعمال البيت..
بالرجوع إلى طريقة الأداء فهرمة رقصة فلكلورية شعبية تقليدية يقدمها عدد كبير من الرجال دون النساء، يرتدون الزي التقليدي (الجلابة والبلغة والخنجر والعمامة..) مرددين أهازيج وأمداح نبوية تجمع بين الديني والسياسي والتاريخي والاجتماعي
أهــل الساحل والسودان أرجـــــــــــــال مغيميغـــــــة
كــن معانا يا سيدنا علي يـــــا هــــــزام الكــــافـــرين
حـــنا فــــي طــاعة ربي وطـــاعته مـــولاي السادس
حـــنا فـــي طـــاعة ربــي وطاعته مـــــولاي السلطان
الملــــوك كلهم شـــاهدين علينا طــــايعين السلطــــان
أهازيج تنشد بشكل جماعي، حيث يبدأ الرجال في ترديدها على شكل حلزوني، منطلقين من أمام منزل أمغار، والزاوية حتى تتاح لنساء الشيخ التفرج خاصة وأنهم يظلون في ساحة الزاوية حوالي ساعة ثم ينطلقون في اتجاه ساحة القصر، الواسعة والخاصة بالأفراح، مارين بشارع واسع كبير، يتيح للنساء تتبع المشهد من النوافذ وأسطح المنازل.. بعد الوصول إلى الساحة المزينة بجريد النخيل والأعلام الوطنية والبخور يستمر الرجال المشاركين في هذا الطقس في الطواف والدوران داخل الساحة بشكل حلزوني، تتعالى أصواتهم وتزداد حدتها بإيعاز من لمقدم رئيس الفرقة الذي يكون في مقدمة الركح، حاملا العلم الوطني بين يديه، بحركاته الموزونة والمدروسة، بينما يحمل باقي أعضاء الفرقة مدفعا من خشب دليلا على القوة والشجاعة والاستعداد للتضحية في سبيل الأرض والوطن، وتحكي الروايات أن هذا المدفع كان في بداية الأمر حقيقيا، بحكم أن بعض شباب المنطقة كانوا يشتغلون بالمنجم، وهو ما يتيح لهم الحصول على البارورد الذي يستعمل في حشو المدفع، كما أن أولئك الشباب كانوا ميسورين من الناحية المادية، مقارنة مع أقرانهم المزاولين للفلاحة داخل القصر والقصور المجاورة.. إلا أن المقاربة الأمنية اقتضت استبدال المدفع الحقيقي بمدفع مشابه من خشب، يكون في متناول الجميع ورامزا إلى دلالة المدفع الحقيقي..
وبخصوص أداء وشكل رقصة الهرمة يعلق الدكتور الفزني بأن التأمل فيها وطريقة أدائها، يوحي بأن هنالك تشابها كبيرا بين هذه الرقصة ورقصتي السليسلة المرتبطتين بالروحى والتبوريدة، مما يعكس ذلك التلاقح الثقافي بين الأجناس المستوطنة لواحات درعة، وقدرة الفن على توحيد ما تفرق في القبائل والشعوب، إنه الفن الذي لا يعترف بالحدود التي أصبحت تكبل الإبداع والمبدعين.. رقصة اعتبرها من جهة أخرى الأستاذ أيت المعلم أقوى تعبير وإشارة على الدفاع المستميت لقبائل درعة على العرش العلوي المجيد فحمل المدفع والتلويح به في السماء يوحي بأن المواطن الدرعي في استعداد دائم للحرب والدفاع عن الوطن والعرش، يزكي هذا الطرح الكلمات التي يتم ترديدها:
حـــنا فــــي طــاعة ربي وطـــاعته مـــولاي السادس
حـــنا فـــي طـــاعة ربــي وطاعته مـــــولاي السلطان
الملــــوك كلهم شـــاهدين علينا طــــايعين السلطــــان
خلاصة القول إن الهرمة فن شعبي متميز بمنطقة تفركالت، استطاع أن يتغلغل في واحة درعة وفي قلوب محبيه، وينسج حول نفسه الحكايات والأقاويل، يختلف عن نظيره عند الروحى والعرب في واحة درعة، لكون الأول يؤدى فنا متكاملا، في مناسبة خاصة، وهي ذكرى المولد النبوي، بينما الثاني فن ارتبط بالأفراح والمناسبات، خاصة الأعراس، بل قد يكون وسيلة لمشاركة صاحب العرس أفراحه من قبل الأصدقاء والأحباب.. ليبقى السؤال عن حقيقة الهرمة مفتوحا دائما لتجذره التاريخي، وشح المعلومات، بله كونه فنا شفويا بامتياز.. فما حقيقة فن الهرمة بتامنوكالت؟