ما الفرق بين الاستقالة و الإقالة (الاعفاء) في الأعراف الديمقراطية؟
سؤال يقفز الى الواجهة كلما تعلق الأمر بإقالة مسؤول كبير من منصبه في بلداننا العربية ، حيث تتفنن وسائل الإعلام الموجَّهة في تقديم الخبر بمثابة انتصار للحاكم الذي اتخذ القرار “الشجاع” المتبصر في حق هذا “الفاسد” أو ذاك …
لا معنى للسؤال إلا بقدر ما يكشف حدود التحرك في دولة تُلـوِّح بشعار الديمقراطية في العلن وتصر على كتم أنفاسها في السر .
بين الاستقالة والاقالة ترتسم معالم دولة الحق والقانون أو دولة “الهوى” والعصابات …
بين الاستقالة والاقالة مساحات لا تقاس بالزمن الفيزيائي وإنما يحددها “الزمن الانساني” الذي نقيس به مدى رُقِــينا في سُلم التحضر والإيمان بالاختلاف الذي هو جوهر وجودنا وجوهر حركاتنا … هو ما يضخ في عروقنا جرعات الامل في مستقبل أحسن .
إن الاستقالة في أعراف الدول الديمقراطية عنوان عريض يختزل وعي أمة وضميرها فهي تعني ،الحرية أولا وقبل كل شيء ، حرية اتخاذ القرار الذي يراه الفاعل مناسبا .. وتعنى الارادة النابعة من قناعات مقدسة وتعني التعقل المبني على رزانة وروية ..وتعني الشجاعة في اتخاذ قرار والاستعداد لتحمل مسؤولياته وتعني أيضا التسليم والاعتراف بالفشل أو عدم القدرة على تحمل مسؤولية وهذا ما يسمى في العرف : الشجاعة الادبية ..
أما الاقالة فلا أرى لها إلا معنى واحدا تلخصه كلمة “الاستبداد” وتتفرع عنه معاني الاقصاء والتهميش و الحِجْــر والاحتقار والاهانة والظلم و …
يشعر المستبد –عندنا- بالزهو والنشوة عندما “يزف” خبر الاقالة الى بعض أعوانه ، وقد يكبر غروره واعتزازه بقوته ونفوذه ، فيتخير للحدث ،حدث الاقالة ، أوقاتا تضع المُقال في موقف الذليل المهان … غير أن هذه النشوة لا تلبث أن تتحول الى قلق وحزن وتأنيب ضمير مثلها مثل من يأتي لذته في الحرام ، يسعَد هنيهة ويعقبها حزن طويل …
يذكر لنا التاريخ أن أحد وزراء الدولة البويهية (ابن العميد) أقال قاضيا له على مدينة “قم” الايرانية برسالة جاء فيها :”يا قاضينا على مدينة ‘قم’ ، قد عزلناك فـقم” فقال القاضي الوالي على الفور لمن حوله :تعلمون أنني توليت المنصب وأنا زاهد فيه … والله ما عزلني الا ليستقيم له السجعُ ، لا أقام الله له دولة ” ، فبلغ الخبر الى الوزير وأحس بالندم الشديد على قراره ،وقيل إنه دخل بعدها في عزلة واكتئاب الى أن مات …
عندما تكون مجالس اللهو والمجون فضاء لاتخاذ القرارات السياسية الكبرى فأنت في دولة عيال لا في دولة رجال يسوسون الأمور بعقل راجح وتبصر …
عندما تكون العلاقات الشخصية هي ميزان الترقي في سُلم المسؤوليات الكبرى أو تؤدي الى الإقالات العبثية فتلك مؤشرات التخلف وعلامات النـذُر …
الإقالة قوة ظاهرية تخفي ضعفا رهيبا واهتزازا في الشخصية …
الاقالة انتصار وهمي يغطي على هزائم منكَـرة …
الاقالة إعلان لإفلاس الحوار ، يخفي : “رجلاً فيه شركاءُ متشاكسون” …(الآية)
الاقالة علامة مسجلة للدول العربية خاصة ،والدول المتخلفة عامة ،وحقوقُـها محفوظة لها لدى ‘المنظمة العالمية للملكية الفكرية‘…
في الدول الديمقراطية عندما يجد المسؤول نفسه غير قادر على الايفاء بوعد قطعه للناخبين أو عندما يشعر أن وجوده في المنصب يُعيق الانسياب الطبيعي لتعاقب الأيام والشهور ، يسارع بكل شجاعة الى التحلل بشكل قانوني من مهمته مما يسمح بفتح حوار هادئ ينتهي قطعا الى إيجاد حلول قد تكون قاسية ولكنها ترضي الجميع أو تحظى برضى الأغلبية ، ولعل التجربة اليونانية وقبلها الايطالية خير نموذجين يعكسان الزهد في المنصب ويجسدان “التوافق على تدبير الاختلاف” و تقريب وجهات النظر..
فقد عاشت دولة اليونان أزمة مالية خانقة ابتداء من 2010 وكادت تخرج الدولة من الاتحاد ، حاولت الحكومة معالجتها بسن سياسة التقشف التي اشترطتها الدوائر المالية الاوربية لضخ “جرعات” مالية إنقاذا للوضع المتردي ، فانفلت الشعب من عقاله وخرج في تظاهرات عفوية رافضا أي حل يمس قدرته الشرائية فاستقالت الحكومة بكل شجاعة وأجريت انتخابات قادت المعارضة الاشتراكية الى السلطة ،وما هي إلا أيام حتى اكتشفت أن لا ملجا من الشروط الاوربية إلا إليها . حاولت المراوغة مع الشعب تارة وتارة مع الاتحاد الاوروبي بشتى الطرق والوسائل ،وفي الاخير استسلمت لضغوط الواقع فكان الحوار داخليا وكان الاعتراف وكانت المكاشفة مع الشعب وتحطمت الشعارات المثالية على صخرة الواقع المالي المُـر …
أما إيطاليا ما بعد الحرب العالمية الثانية، فتاريخها مع الاستقالات حطم كل الأرقام ،حتى غدت الانتخابات جزءا من المعيش اليومي للايطاليين ، ذلك أن الوزير الأول المنتخب لا يكاد يُتم تشكيل الحكومة ويشرعُ في الانطلاق حتى تلوح في الافق “لعنة” سياسية أو أخلاقية ترغم الربان على التأكد من “سلامة ” أوراقه التعريفية من “الشبهات” فيسرع الى تقديم استقالته من المنصب ومن رئاسة الحزب …
في الدول الديمقراطية ، ما إن يتم النبش في ملف فساد مالي أو حتى أخلاقي ، حتى يهُبَّ المعني بذلك الفساد ،مهما كانت مرتبته ،وبين يديه رسالة استقالته عنوانا على وضع السلاح والتجرد من كل الحصانات ، حتى إذا انتهت أطوار التحقيق عاد ذلك المعني الى وظيفته عزيزا وعلى رأسه تاج البراءة إن كان بريئا وقد يُزج به في السجن ذليلا مهانا إن ثبت جرمُه .
الاستقالة هناك صفحة جديدة بيضاء لكتابة مجد أمة يتسلم فيها الخلفُ المشعلَ من السلف لمواصلة بناء صرح الحضارة ورفاهية الانسان …
والاستقالة هنا صفحة سوداء أخرى من الصراعات الدموية تغذيها النعرات القبلية والطائفية والمذهبية و…. تنتهي بانفصال وانقسام وخراب ودمار …
الاستقالة شعار الديمقراطي الحق ودليل الهمة العالية …
إنني لا ألوم كثيرا عسكريا سطا على السلطة واستعبد الناس بقوة الدبابات والرشاشات حين يستميت حفاظا على منصبه في الرئاسة ، ولا أنا ألوم ابنا ورث سلطانا عن أبيه فيمعن في اختراع أساليب التمكين والتمكن … لأن الأول عسكري وعقيدة العسكر علمته أن التراجع أو الاستقالة تعني الاعدام أو السجن مدى الحياة ،والثاني ملك آمن منذ الصغر أنه خُلق ليكون ملكا وأن دمَه لا كباقي الدماء ،وأن سلطته وطاعته ،ولو كان مخبولا، ركن من الإيمان والخروج عنها كفر وزندقة … ولكنني ألوم كثيرا ،حد الاحتقار ، ذلك السياسي الذي رفعته الأكف وشرَّعته الصناديق فلما تمكن شرَع في إعادة تفصيل الدستور و القوانين أو شراء الذمم …حتى يضمن الخلود في الرئاسة أو على رأس الحزب، ألومه لأنه استغفل الناس بالشعارات الجوفاء والوعود الزائفة بدولة الحق والقانون ، متجاهلا أن دولة الحق والقانون عنوانها الأكبر هو الرضى بنتائج الصناديق والاستقالة الطوعية عند العجز .