الخروفُ في الإسلام قِصة حُبٍ و أكثَر…

0 561

 زاكورة -زاكورة بريس- لكم كنا بحاجة لهذا العيد، بعد أن بردَت مشاعرُنا و فترت أحاسيسُنا، و طغت المادة فينا على إنسانيتنا، بعد أن قطّعنا الأرحام و انشغلنا بالجري و راء حياة صاخبة لا مكان فيها لأبوّة و لا بنوّة و لا أمومة و لا أخوّة، كلٌّ منا يلهث وراء مصالحه و انشغالاته و خلال لُهاثنا لم نعد نتناول وجباتنا مع بعضنا البعض، و لم نعد نتكبّدُ عناء تبادُل العِبارات الدافئة، إلا كلماتٍ مُتسارعة عبر هاتف محمول نُغيّر رقمه بين فينة و أخرى، ثم يأتي العيد مرة أخرى لنرتاح من عَدْوِنا الدائم فنلتفِت من جديد للأحباب و الأصدقاء نُبارك لهم و نتسامح مع من أذنب في حقّنا فننال ثوابا عن الغُفران، العيد فرصة لنسأل عن أولئك الذين نُحييهم في الطريق بعُجالة، و العيد أكثر من ذلك مناسبة للسؤال عن الفقير الذي لا يكاد يجد قوت يومه، و فرصة ليَنال المُقتدر مِنا مزيدا من الثواب و ليحضى المُحتاج فينا ببعض من حقه علينا، العيد مناسبة ليسأل الكبير عن الصغير و الشاب عن الشيخ، لنتفقّد الجيران من منهم يسير على الأرض و من منهم طريح الفراش، العيد ليس إلا وقفة لتأمُل فينا، و تقييم كيف كانت صلتنا بخالقنا طوال أيام السنة هل راعينا الله في عباده؟  هل وقفنا في وجه الظالم؟  و هل ساندنا المظلوم؟
العيد ليست مناسبة لملء المعدة بأصناف أطباق اللحوم المقلي منها و المشوي و المُبخّر و المُحمّر و المَطبوخ بالمرق، و اللهُ لم يجعل لنا عيداً لننتقم من كِراع الخروف و رأسه و كِرشه، و نُحلي بدماغه، ليس هذا أبداً هو العيد لا في مغزاه و لا في كُنهه، كما أنّ العيد ليس مجزرةً في حقّ مخلوق ضعيف كما يُروّج أعداءُ الدين، و المُسلمون ليسوا سفاحين يتلذذون بمنظر الدماء، يفخر رجالهم بقطع وريد الحيوان المسكين و تفخر نساؤهم بتقطيع الأكباد و القلوب، فشعيرة ذبح الأضحية لم تُسن لتغذية مشاعر العنف في الإنسان و إيقاظ الشرّ الكامن في نفسه، و هي إذن ليست عملية عدائية تجاه مخلوق مسكينٍ أعزل و لا جريمة في حق الثروة الحيوانية، مادام أثرياء العالم و وجهاؤه يستنزفون الطبيعة حتى آخر رمق، يأكلون كافيار الألماس و التونة الحمراء، و تضع نساؤهم على وجوههن مساحيق مصنوعة من أندر ما تنتج الطبيعة بينما يموت كل يوم آلاف الأطفال في إفريقيا بسبب ندرة رغيف الخبز، لن تنقرض الخراف لأنّ المسلمين يُضحون بها مرة في السنة، على الأقل ليس كما تنقرض أنواع الفيلة لأن هناك من يستعد لدفع أبهظ الأثمنة مقابل أنيابها، و لا كما ستنقرض الثعالب أو النمور المرقطة لأن نساء جميلات مرهفات الحسّ لا تكتمل زينتهُنّ إلا بفروها !
إذن لا يُصبح قتل الأنعام جريمةً إلا عندما يصدر عن مسلمين يؤدون شعائرهم بطريقة الذبح التي تضمن ميتة فورية و سهلة للحيوان، و لكن قتل الحيوانات باستعمال الصعقات الكهربائية أو عن طريق ضرب الرأس عدة مرات حتى يلفظ الحيوان أنفاسه على غرار ما يحدث في بعض الدول الأوروبية،  هذه لا يقال عنها جرائم في حق الحيوان و قد لا تعتبر طرقا وحشية حتى، بل أحيانا تُعتبر حضارة و ثقافة و رياضة على غرار مُصارعة الثيران الإسبانية، و الحقُّ أن الإسلام قد فقد رجالاً صناديد عرفوا كيف يُعرّفون الإسلام بأركانه و فرائضه و شعائره و سننه، و بفقد هؤلاء أصبح لأعداءِ الإسلام صوتٌ و حُجّة و منطق، بينما شُلّت ألسنةُ المسلمين و كادت تضمُر، فإذا بالناشئة المسلمة تسمع هجوما بلا دفاع و نقدا بلا ردّ، و إذا كان كل شبابِ المُسلمين يعرفون قصة سيدنا إبراهيم و الخروف، فأن قلّة منهم يفهمون ماهية ذبح الأضحية في معناها و مغزاها، بل أن أغلبهم لا يفهمها إلا كما يُروّج بعض الجهلة أو بعض أعداء الدين، أما الكُنه الحقيقي لهذه الشعيرة فقد تم تناسيه و تجاهله، ذلك أن القصص الإسلامية أصبحت تؤخذ مضمونا دون أي التفات لدلالتها الفلسفية و رمزيتها، و إذا كنا نقرأ “روميو وجولييت” و نعتبرها رائعة شكسبير في العشق و الهوى لتدرس في المعاهد على أنها قيمة فنية و أدبية رغم حدوث القتل فيها ( قتل النفس)، و إذا كنا معجبين برواية “مدام بوفاري” و متعاطفين مع السيدة البطلة برغم  حدوث ما ينافي الأخلاق فيها (الخيانة الزوجية)، و كذا يحدث في كل الروايات العالمية إذ تنتصر قيمة الحب و تُبرّر القيمُ السلبية في الرواية أو القصة و الحكاية لمجرد تفوق قيمة الحب فيها، فمن باب أولى أن نَعرف و نُعرّف قصة سيدنا إبراهيم و ابنه إسماعيل عليهما السلام، التي ينتصر فيها الحب دون أن تتوافر فيها أي قيم سلبية، ذلك أنها قصة تنضح بكل معاني الحب و العشق و الإنصياع و التضحية، فالأب هنا ليس شخصية خارقة و لكنه بشري يأكل الطعام و يمشي في الأسواق، كما أنه ليس إنسانا ساديا بل هو أب يحب ابنه أكثر من أي أب عادي، أولا لأنه جاء بعد سنوات عقم و ثانيا لأنه قد حكم عليهما بالإفتراق مُدة طويلة قبل أن يتم التلاقي، فالحب و الإشتياق هي سمة العلاقة التي جمعت الأب بابنه في القصة، لكن ابراهيم مع ذلك ينصاع للحكم الرباني القاضي بذبح إبنه انصياعا تاما و يبدي الإبن إذعانه التام، قال تعالى ” فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين” الصافات الآية 102
و لكن ما الذي يجعل الأب و ابنه يهُمّان بفعلٍ من أقسى ما يكون على كليهما؟ أي جنون هذا الذي يدفع الأب لقتل إبنه و الإبن لمدّ عنقه، كذا دون مقاومة؟
إنه ليس إلا ذلك الإيمان المطلق بالذات الإلهية و رحمتها الغامرة، و هذه ثقة على درجة عُظمى من السمو و الرقي أن يُعشقَ الخالقُ فيُطاعَ في أقسى ما يمكن أن يأمُر به، ذلك أن العابد هنا لا حب عنده يعلو على حب معبوده و لا شيء يغلو عليه، و الأكثر من ذلك أن المعبود هنا هو الخير المطلق فكان لا بد لثقة إبراهيم في العلي القدير أن تصدق بأن يُثنى في آخر لحظة عن ذبح إبنه، و مادام لا بد من إتمام عملية الذبح (لتصدق الرؤيا) فليذبح الكبش…و بناء عليه لم يكن الغرض من كلّ هذه القصة إلا ضربُ مثلٍ لكل من تُسوّل له نفسه معصية الخالق من أجل توافه الأمور بأن هناك من بني البشر من هو على أتم الإستعداد لتضحية بابنه في سبيل إرضاءه عز وجل، لذا فلنعلم أبناءنا أن ذبح الأضحية في يوم العاشر من ذي الحجة هي تذكرة بأن رجلا ما في مكان ما، كان يوما ما على وشك أن يذبح ابنه لولا تجلي الرحمة الربانية في آخر لحظة لتحول دون سفك دم الإبن بيد الأب، ليصبح الخروف فيما بعد دلالة على الحب و التضحية الإنصياع المطلق و الرحمة الربانية.
رامية نجيمة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.