إدموند هوسرل : من أجل ملاقاة العالم
هوسرل، بكل بساطة منبع لأحدى أكبر الثورات الفلسفية التي عرفها القرن العشرين. هوسرل، الذي مات عشية بداية الحرب العالمية الثانية، يعتبر الأب المؤسس للفينومينولوجيا. بالتأكيد، لم يبدع المصطلح الذي وظف قبله من طرف هيغل. لكن في إطارهذه التسمية أقام منهجية جديدة بشكل راديكالي : يتعلق الأمر، بالقطع مع يقينيات وعادات الحياة اليومية، كي يصف بطريقة دقيقة كيف يتبدى العالم أمام الوعي.
بشرت الفينومينولوجيا، برؤية جديدة حول التجربة المعاشة. وسيقترح هوسرل، تحليلات مثيرة حول الإدراك والزمان والجسد والآخر. أيضا، انطوى منهجه على بعد سياسي ، بدفاعه عن أوروباعقلانية وتعددية ، فألهم عمله الغزير هيدغر وسارتر وميرلوبونتي وليفيناس… . لكن، يصعب حصر لائحة ورثتته أو نقاده .
سنحاول من خلال هذه المقالة، استحضار مسار الرجل الذي أعاد توزيع أوراق الفكر المعاصر.
“العودة إلى الأشياء ذاتها” ، بمثابة كلمة السر، التي دشنت خلال بداية القرن العشرين، هذه المغامرة الفلسفية الهائلة : الفينومينولوجيا. بالنسبة، لمؤسسها هوسرل ، فقد تعلق الأمر لديه بمخطط حياة : انطلق من الرياضيات ثم السيكولوجيا فالمنطق، ملاحقا دون توقف “الظواهر” التي بواسطتها يقدم العالم نفسه إلى وعينا. هذا السعي نحو الوضوح، الذي شكل لديه قضية وجود، تم أيضا على ضوء صراع داخلي رهيب : هوسرل صاحب فكر يتعذب، وفريسة أزمات شكية عميقة ستعبر عن ذاتها من خلال هذا المشروع العويص والمفرط في طموحه.
شاهد على صعود النظام النازي، لكنه سيحافظ مع ذلك على اعتقاده الكامل بالعقل : نبل هذه الحياة الفلسفية الأصلية وكذا المنهجية الجديدة كليا التي أرسى دعائمها، جعلا من هوسرل الرمز الأول لأجيال متعددة من المفكرين.
ولد هوسرل سنة 1859 في مدينة “بروسنيتز” التابعة للإمبراطورية المجرية(تسمى اليوم بروستيجوف بالجمهورية التشيكية). والداه اليهوديان، اللذين لايقدمان على الشعائر إلا قليلا، يمارسان تجارة الملابس والنسيج. داخل حجرات المدرسة، كان مستواه ضعيفا، بل غير مهتم ،اللهم ماتعلق بالرياضيات.لكن حين مغادرته الفصل، يكشف هوسرل في المقابل عن تطلع مبكر نحو الكمال.ذات يوم، وقد تلقى هدية في شكل سكين، قضى ساعات وهو يسن شفرته ، التي لم تكن حادة كفاية في نظره. تضاءل السكين حد الاختفاء . يقال، بأن هذه الذكرى، يستحضرها الفيلسوف دائما بقلق كبير.
سنة1876 حصل على شهادة بعد تحضير كيفما اتفق خلال آخر اللحظات، وقرر أمام دهشة الجميع متابعة دراساته بجامعة “ليبزيغ” . وإذا كانت دروس الرياضيات والفيزياء قد أثارت حماسته ، فالفلسفة لم تخلق لديه أي إغواء. وفي مدينة فيينا، خصص موضوع أطروحته لتحليل علم الحساب.
سنة1884 شهد المصير الفكري لعالم الرياضيات الشاب انقلابا. فحين عودته إلى فيينا، بعد نهاية خدمته العسكرية وبناء على نصائح زميل له، بدأ يتابع دروس العالم النفسي والفيلسوف ” فرانز برونتانو”. هذه المرة، سيحدث له إلهام : أخيرا، صار شخصا يرفض الهذيان، لصالح سيكولوجيا وصفية للأفعال الذهنية. وإلى جانب مرشده الجديد، اقتنع هوسرل أن الفلسفة تمثل “درسا جديا”، في نفس مرتبة العلم. لذا قرر أخيرا :(( أن يختار الفلسفة، كمهنة في الحياة)). بشكل سريع جدا ، أضحى صديقا لعائلة “برونتانو”. يقول هوسرل :(( الأستاذ الحقيقي مثل أب)).وخلال عطلة مشتركة ، رسمت زوجة برونتانو لوحة شخصية لهذا الشاب :(( الأشقر، بعينيه الزرقاوين، الحالم والخجول)) ، (( الذي يشبه وجها من عصر النهضة الإيطالية)).
التحول نحو الفلسفة، أعقبه شيئ آخر. سنة 1886 ، حظي هوسرل بالتعميد اللوثري، نتيجة اهتمامه بالعهد الجديد ، وكذا رغبته في الاندماج الاجتماعي. حينئذ، استقر بمدينة “هال” شرق ألمانيا، حيث دافع عن أطروحته “مفهوم العدد”، وذلك كمحطة تؤهله للتدريس ثم تزوج في سياق الأحداث.
مؤلفه الأول “فلسفة علم الحساب”- دراسة في الأصل النفسي للمفاهيم الحسابية- صدر سنة 1891. سنوات مشرقة؟ ستشكل على النقيض أيضا، الأسوأ في وجوده، بسبب “الروح الفارغة”. لقد أحزن ، الأستاذ الشاب المظهر العلمي المخادع للفلاسفة المحيطين به، بل صرح قائلا :((لقد قررت التخلي عن الأهداف الكبرى، كي أكون سعيدا)). لكنه وجد خلاصه، بمضاعفة المجهود والارتماء بنشاط واندفاع في التأليف الكتابة.
سنة1900، وقد أصدر فرويد في فيينا كتابه “تأويل الأحلام” الذي شكل بداية لنشأة التحليل النفسي، سيمنح هوسرل بدوره للفينومينولوجيا، عمله الأساس والمعنون ب”أبحاث منطقية”.فرويد ، يسبر أعماق اللاوعي، بينما يكتشف هوسرل التعقيد المدهش لأفعال الوعي وإظهار استحالة تأسيس المنطق على ميكانيزمات نفسية تتغير من شخص لآخر. أخيرا، استقل الفيلسوف برأيه في علاقته بأبيه الروحي “برونتانو”. سيضع نفسه في موقع المدافع عن الحقيقة، والمصمم على إنقاذ موضوعية المعرفة : (( التيمات التي تم التطرق اليها جد جافة، ويبدو أنها بعيدة عن اهتمام الجمهور الكبير)). يعترف هوسرل، الصعب المراس مع ذاته نفسها، والذي أشار إلى : ((عمل غير تام و غير متكامل لم يلامس أقصى النضج)).
تحسس هوسرل المستقبل أخيرا، فقد عين أستاذا مساعدا بجامعة “غوتنغن”، حيت صادف هناك ” حياة علمية رائعة” : اتجهت دروسه خاصة إلى التجربة الزمانية للوعي، وتشكلت أرضية للعمل الضخم الذي يسكن رأسه. طلبته، كتبوا عنه مونولوغات لانهائية، يقارنون من خلالها هوسرل ب”ساعاتي مجنون” ، ضاع بين التفاصيل المعقدة. وفي ميونيخ، أسس بعض الشباب من أتباعه، حلقة فينومينولوجية.
مع ذلك، استحوذ الاكتئاب ثانية على ملهمهم، حينما رُفض طلب ابقائه في وظيفته نظرا ل “انتفاء الأهمية العلمية”. لاسيما، وأن توضيح المنهجية الفينومينولوجية شاق. يعلق هوسرل، يائسا :(( أرى ثمارا ذهبية، لاتنكشف لأحد غيري. إنها صوب أعيني في متناول يدي.لكني مثل سيزيف، بحيث تفلت مني كلما مددت إليها أصابعي)). إلى درجة أنه، أضاع ثقافته اللاتنية، مادام أن وصفه هنا يتعلق بعذاب الأسطورة الإغريقية تانتالوس.
بانغماسه ثانية في الوعي، اتضح للفيلسوف كيفية الخروج من المأزق. يشرح في درسه لسنة1907 بأن كل شيئ ينطلق في فكرة الفينومينولوجيا من ” أفق فكري جديد” : تعليق اعتقادنا بوجود العالم، مما يتركنا أمام “ظاهرة خالصة” ، كما تقدم نفسها للوعي. ويكشف الأخير عن نفسه، مثل منبع لكل معنى . بواسطة، هذه المنهجية التي تنعت ب”الاختزال” ، بلغ هوسرل أخيرا الهدف : لقد غادر كليا حقل علم النفس، كي يقتحم “هذا العالم الجديد” الذي تصورسنة 1913 : ” المبادئ الموجهة من أجل فينومينولوجيا””، وهو كتاب في غاية التعقيد يبعث على الدوار، أنجزه هوسرل في ظرف لا يتجاوز ثمان أسابيع.
اندلعت الحرب العالمية الأولى، توجه ولدي هوسرل إلى الجبهة . أصغرهما، قُتل في ” فيردون” سنة1916 : (( تحت وطأة الاحباط، تمسكت بالعمل الأساسي في حياتي، وتوجهت أبحث عن ملجإ في عالم الأفكار)). يعترف هنا هوسرل، وقد عين أستاذا ب “فرايبورغ –أون- بريسغو””، وانسجاما مع عشقه لوطنه، ألقى درسا حول موضوع “مثال الإنسانية لدى فيخته”، محيلا على هذا الفيلسوف كي يحث على تحقيق قفزة روحية بعد هزيمة الألمان، مما خول له الحصول على وسام الاستحقاق لمساعدته في المجهود الحربي.
لقد شعر الفيلسوف، حينئذ بأنه مكرس ل”مهمة كبرى”، تتجسد في “تنوير الإنسانية” بناء على تقليد محض للأنوار.
سنة 1919 ، وقّع على إعلان استقلال الفكر، الذي أطلقه الكاتب الفرنسي “رومان رولان”، ثم كتب مقالات حول النهضة لمجلة يابانية معلنا ثانية ثقته في “معيار العقل”.
هوسرل ، وقد استبقته شهرة متزايدة، اجتهد كي يستعرض خارج بلده مبادئ الفينومينولوجيا. هكذا سنة 1922 ، وهو الذي لم يغادر قط أبعد من منطقة “الغابة السوداء” ، حيث كان يقضي عموما عطله، سيشد الرحيل نحو لندن لالقاء سلسلة من محاضرات، صفق لها الحضور كثيرا. لكن ، هناك قضية أخرى فوق بشرية، استحوذت على تفكيره : بناء نظام فلسفي كامل، انطلاقا من المسودات التي راكمها :((كل شيئ يوجد في مرحلة التبلرّ!)). هكذا يبدي هوسرل انزعاجه .
وصفه إيمانويل ليفيناس الذي أتى للتتلمذ على يديه، كما يلي :((أستاذ صاحب مظهر وقور جدا، لكنه لطيف)). وإنساني : فهوسرل المدرك للصعوبات المالية، التي يعانيها تلميذه الشاب “ليفيناس”، عهد إليه بإعطاء دروس في الفرنسية لزوجته مقابل تعويض مادي.
لكن، من بين تلامذته، هناك واحد سيتميز عن الجميع . إنه : مارتن هيدغر.
هوسرل الذي احتفل ببلوغه سن السابعة والستين ، سيقدم له زميله الشاب في “فرايبورغ” مسودة كتاب” الوجود والزمان” متضمنة الاهداء التالي : ((إلى إدموند هوسرل. شهادة إجلال وصداقة)). هدية مسمومة؟. لم يخطئ، ظن الأستاذ : تجذير لفينومينولوجيته الخاصة، لأن هذه الدراسة الصادرة سنة 1927 طعنت بجرأة في الحدود. لقد استبدل، هيدغر وصف هوسرل الدقيق لبنية الوعي، بتحليله للكائن وسط العالم، ثم بأسلوب لا يمكنه إلا أن يغضب هوسرل العاشق للوضوح :((كل شيئ أخذ مع هذا العمل، عمقا في المعنى يكتنفه الغموض مما أفقده قيمته الفلسفية)) ، يقيّم هوسرل بقسوة المشروع الإصداري لهيدغر، ودوّن بقلم أسود مجمل اعتراضاته بين طيات هوامش المسودة.
رغم هذا وحين تقاعده سنة 1928 ، فقد ترك كرسيه إلى هذا التلميذ الهرطوقي، مؤمنا أنه الفيلسوف الوحيد الجدير بخلافته، على الرغم من التباعد بينهما.
هوسرل، المهووس بالمهمة الفلسفية التي أخذ على عاتقه إنجازها . ومع انتهاء وظيفته الجامعية، أضحى يشتغل عشر ساعات يوميا. في غضون أسابيع، ومع نزوع نحو العناوين الجذابة ، أنجز هوسرل بحثه “المنطق الصوري والترانسندنتالي” الصادر سنة 1929.
خلال السنة ذاتها، استضافته جامعة السوربون : المحاضرات التي ألقاها هناك ، هيأت نواة لعمله” تأملات ديكارتية” والذي ترجمه إلى الفرنسية ، بمساعدة تلميذه السابق “ليفيناس”، أحد المكرسين الجوهريين للدرس الفينومينولوجي داخل فرنسا.
بعد جولة سياحية في باريس، زار خلالها قصر”les Tuileries” وفيرساي وكذا اللوفر، انتقل إلى جامعة ستراسبورغ، التي تبنت مشروعه بحرارة مما جعله يطلق عليها “ضاحية” الفينومينولوجيا.
هوسرل المتستر وراء عناوين شرفية، يحس مع ذلك بالمرارة : ))إن جيلا جديدا قد سجل دخوله والذي)…( أشاع فينومينولوجيا يزعم أنها متطورة، بالتالي سيعاملني الآن مثل أب كهل، صار متجاوزا)).ثم يستخلص : ((مرة أخرى، أتموقع فلسفيا وحدي، كما حدث في بداياتي)). وحيد؟ لكن فكره لم يتوقف عن خلق أتباع جدد. هكذا، اكتشف جان بول سارتر بانذهال ثورية “العودة إلى الأشياء ذاتها”، حينما أوحى له “ريمون آرون”، لدى عودته من ألمانيا بما يلي : ((إذا كنت فينومينولوجيا، بوسعك التكلم عن هذا الكوكتيل، ثم هاهي الفلسفة)).
سريعا، سيتكفل التاريخ بتعتيم سماء الأفكار.سنة 1933 وبفعل القوانين التي أقرها حينئذ النظام النازي، ُشطب تماما على اسم هوسرل من سجل جامعة فرايبورغ، إلى جانب ابنه أستاذ القانون. وأمام “أكبر إهانة كيدية في حياته”، يذكّرالجميع، بأن ابنه الآخر قد مات دفاعا عن ألمانيا.
أعيد ادماج هوسرل مؤقتا داخل الجامعة، لكن ضربة خنجر ثانية تترصده : لقد عين هيدغر، رئيسا لجامعة فرايبورغ فترة قليلة بعد انضمامه إلى الحزب النازي، وألقى خطابه الشهير الذي كان نشيدا وطنيا يتغنى ب”مصير ألمانيا”. أما موقفه، بخصوص حذف هوسرل من اللائحة سنة 1936، فقد اكتفى هيدغر بإرسال باقة ورد إلى زوجته… .وحينما، أعاد طبع كتابه التحفة “الوجود والزمان”، لم يدرج هذه المرة إهداءه إلى الأستاذ الجليل.
أمام إخفاق قيمه العليا، سيتمسك مؤسس الفينومينولوجيا، برباطة جأشه على طريقة المذهب الرواقي، وهو يردد : (( الوقائع هي الوقائع وينبغي تقبلها)). رافضا، المنصب الذي عرض عليه في لوس انجلس.هكذا، في ظل عزلة شديدة، أحاط هوسرل نفسه ب”سياج روحي” ، حظيت التيولوجيا داخله أكثر فأكثر بموقع مهم :(( لقد توخيت بلوغ الله بدون الله)). كما كتب إلى مساعدته السابقة “إيديت ستين” التي تحولت نحو اعتناق الكاثوليكية وماتت في المعتقل.
سنة 1935 ، وبدعوة من أحد كبار تلامذته التشيكي “جان باتوكا”، قدم هوسرل في مدينة براغ ، محاضرات ستشكل الإطار النظري لعمله “أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا الترنسندنتالية” . لقد لاحظ بين مضامين هذه الوصية الفلسفية، أن العلم ليس “لديه مايقدمه لمواجهة شدة الحياة” : خلف ضياع هذا المعنى، تدوي أزمة العقل ، حيث تتجلى للأسف بوضوح ترجمته السياسية. هوسرل، الذي يعرف نفسه بمثابة “موظف عند الانسانية”، دعا إلى فكرة أوروبا عقلانية و كوسموبوليتية ، ستعيش خلال السنوات الموالية انحلالا تراجيديا.
لما ألم به المرض، وبلوغه أوج العمر، قرر هوسرل سنة 1937 الانتقال بعيدا عن مركز المدينة، كي يتخلص من المضايقات اليومية التي كان يوجهها إليه جيرانه، المتشبعين بالأديولوجية النازية : ((لقد عشت فيلسوفا وسأموت فيلسوفا)).هكذا، أعلن مدة قليلة، قبل أن تنطفئ روحه يوم 27 ابريل 1938.
“أوجين فينك” ، مساعده الوفي استحضر في رثائه المأتمي، رجلا : ((اتصفت حياته وموته بهدوء بطولي)).
لقد ترك هوسرل، مايزيد عن 40.000 صفحة من المخطوطات اليدوية، والتي احتفظ بها في منفى رمزي ب”لوفان” البلجيكية . فلاحق الموت، أيضا كتاباته سنة 1939. إن مايجعل “تركته” تواصل حتى اليوم الافصاح عن مكنوناتها والخروج إلى الجمهور، يعود إلى أن الفينومينولوجيا تيار فكري حيوي دائم الانتشار على امتداد العالم. أو كما عبر عن هذا الأمر “موريس ميرلوبونتي” أحد أكثر الأوفياء الذين تمموا مشروع هوسرل، حينما أكد بأن هذا العبقري المتواضع :((سيقيم إلى الأبد، بين جوانب فكرنا)).
مفاهيم الفينومينولوجيا :
تمثل طموح هوسرل، في تغيير الرؤية إلى واقع الأشياء ووصف كيف تتبدى أمام الوعي. وبعودته إلى التجربة المعاشة، أحدث انقلابا على مستوى المفاهيم التقليدية للزمان والجسد والآخر،وأظهر كيف تتجذر الأفكار في الحياة الملموسة .
*الاختزال :
في الفلسفة كما على مستوى فن الأكل،لاتعني حيثيات وصفة عشقا للطبق. لذا،ينبغي مرة واحدة على الأقل في الحياة وضع اليد داخل العجين. من أين نبدأ؟ بالاختزال. داخل المطبخ،هذا يقتضي تقليص حجم المستحضر. أما، مع الفينومينولوجيا، فالوصفة بشكل ما أكثر تطورا. لقد أسس هوسرل، فلسفته وفق هذا الفعل المنهجي، التالي : يرتكز الاختزال على القطع مع “الموقف الطبيعي” تجاه الأشياء المحيطة بنا، أي تلك المعاشرة المعتادة والأداتية والآلية .من أجل تحرير مجال الفكر، يلزمنا “أن نضع بين قوسين” و”تعليق” اعتقادنا بالعالم الخارجي. وما إن يأخذ هذا الأخير إضاءة جديدة حتى يصير فجأة ظاهرة تقدم نفسها لوعيي.لايعمل الاختزال، على إخفاء العالم بل يعيده الى الوعي.
أن توجد الأشياء الخارجية أوتنعدم، فإني أملك دائما تأملات وإدراكات وذكريات وانفعالات ورغبات، بوسعي دراستها في ماهيتها. يمكنني أيضا، وصف مايبدو أمامي. لايهم، حين الخروج من ممر، أن الوادي المجهول والذي يكشف عن نفسه إلي، حقيقي أم لا. يرصد وعيي هذا المنظر، بفحص أشكاله وألوانه وكذا تناسقه. أعثر ثانية على الشيئ ، لكنه لايطرح ذاته كموجود بل وفق الدلالة التي منحتها له.
مع الاختزال الفينومينولوجي، وعلى النقيض من الاختزال المطبخي، فإني لاأفقد أي شيئ سواء الوعي أو العالم. العلاقة مع ما وضعته بين قوسين، ليست أبدا معلقة حقا. لكني، أعمل بالضبط على تطهير العلاقة، بأن أنتشل نفسي من المجرى المعتاد لحياتنا اليومية. ذاك هو رهان الفينومينولوجيا : أن يسأل منا كل واحد نفسه، كيف يلتقي العالم؟.
*- الوعي :
غيّر هوسرل، بعمق مفهومنا عن الوعي. وبحسبه، فالاستبطان التقليدي وفحص أوجاعنا الباطنية وشكوكنا، يغوص بنا داخل نزعة نفسانية عقيمة وشيئا ما صارمة. كما أنه يرفض المقاربة العلمية، التي تقلص حياة الوعي إلى تفسير ميكانيزمات الدماغ. بالنسبة لهوسرل، ليس الوعي شيئا نفسيا أو فيزيائيا أو أيضا ميتافيزيقيا(نتذكر أن ديكارت جعل منه جوهرا أو شيئا مفكرا) ، بل خاصة ليس بحقيقة مقطوعة عن العالم . الوعي، فعل للخروج من الذات، يضبط مباشرة الموضوعات التي يرصدها. باستعادته لمصطلح ينحدر من الفكر القروسطي،حدد هوسرل الوعي بمفهوم القصدية : كل وعي، هو وعي بشيئ ما. الذات مرتبطة دائما ومتصلة بالشيئ، الذي تلاحظه وتتخيله، إلخ. لذلك فالوعي، لايوجد إلا بين طيات وبواسطة فعل الارتماء في العالم. كما يفسر ذلك سارتر (مقالته : فكرة الجوهرية لدى هوسرل : القصدية) :(( الوعي ليس له “داخل”، وليس بشيئ آخر غير هذا الخارج عنه، وهذا الفرار المطلق، والرفض بأن يكون جوهرا،ذاك مايؤسسه كوعي)). أيضا، ينطبق الوعي القصدي، على كل مظاهر الحياة : إن امرأة لاتصير أبدا جميلة،انطلاقا من واقعة فقط أني أحبها، مما يخضع العالم الخارجي لامبريالية وعيي الذاتي، ويمنع كل وصف لماهية الأشياء المقصودة. ستكون إذن هيمنة للنسبية.لا،إذا عشقت امرأة ،فذلك لأنها محبوبة إلى النفس.
*الجسد :
اكتشاف الوعي،لايترك الجسد جانبا، بل على العكس يسند له دورا جديدا حاسما في تاريخ الفلسفة. كيف مثلا،يمكنك أن تكون حقا متأكدا من إدراك الأشياء في المكان؟ أتبين واجهة منزل، لكني لاأرى الجدار المتواجد في الجهة الأخرى . ولكي أكون متيقنا، فالأمر يتعلق حقا بنفس المنزل، وأني لست ضحية حلم سيئ، فالنظر إلى ماوراء المنزل لايكفي قط. ويلزم أيضا، يكتب هوسرل في ” شيئ وفضاء” :(( الانتقال المتواصل من إدراك إلى آخر)) ، مما يتضمن انتقالا لجسدي : ((ينبغي على الجسد أن يستدير ويبدل موضعه.أو يلزمني أن أغير موقعي، وأحرك عينايا وجسدي،كي أقوم بجولة وفي الآن ذاته أقترب وأبتعد)). إن مايؤسس استمرارية الادراك، هو اليقين الباطني،أن جسدي يتحرك بطريقة متواصلة،بمعنى وجود الاحساس بالحركة. إذن إدراك العالم، مرتبط بعلاقتي بجسدي.
يميز هوسرل بين الجسد الفيزيائي والمرئي والموضوعي(le korper) ثم الجسد الخاص، الحي أو أيضا الجسد بذاته (leib) .يتعلق الأمر،هنا بالجسد مثلما أشعر به وأسكنه من الداخل.هذا الجسد المعاش،من يخول ضبط وإعطاء معنى إلى الفضاء المحيط. هكذا، نلاحظ أن فينومينولوجيا هوسرل،ليست مثالية للوعي وحده، في نطاق كون الجسد هو دائما “جزء مستحوذ” على ولوجنا إلى العالم.
*الآخر :
من فرط التطرق إلى القضايا الكبرى انطلاقا من ذات الوعي، ألا يمكن ان نجازف بفقد الآخر في الطريق؟. أليست الفينومينولوجيا مهددة بعقبة التصور الأحادي للأنا؟. هذا الوضع الذي يقود كليا إلى الأنا المنعزلة ؟ الأمر ليس كذلك. سيعالج، هوسرل قضية الآخر في تأمله الديكارتي الخامس. كيف أثبت،أن الكائنات التي تتحرك تحت نافذتي، تتوفر مثلي على وعي وليست بأطياف أوأشباح؟.لم يكتف هوسرل، بالجواب الذي قدمه ديكارت لنفس التساؤل. الأخير حسم القضية بإثبات وجود الله، الذي يضمن في المقابل حقيقة العالم الخارجي وبالتالي حالات واعية أخرى. أما هوسرل، فقد بدأ بموقف راديكالي : لقد عزز الاختزال، حد الوصول إلى دائرة ماهو خاص به على وجه الاطلاق، ولاتتضمن شيئا خارجيا.والحال، أنه داخل هذه الدائرة ، يحضر الآخر دائما بطريقته، وتكتشفه الأنا حينما تنعطف نحو نفسها بكيفية قوية.بأي صيغة ؟ يلجأ هوسرل هنا ثانية، إلى تمييزه الجوهري بين الجسم الخارجي korper)) والجسم الذاتي(leib). وحينما يظهر كائن آخر في مجالي الادراكي، فإني أرى جسده الفيزيائي، لكني أتناوله لحظيا، كما لو أنه أيضا جسم ذاتي،وجسم حي،إذن أنا أخرى.
وعبر عملية”تحويل مماثلة”، تجعل الذات من الآخر،ذاتا لها. هذا، لايقوم على استدلال (إننا لانستنبط العلاقة مع الآخرين). أواتصال مباشر مع جوانيته (فلا يمكننا اختراق الأنفس).لكني،متأكد اني لست الوحيد في العالم نتيجة اقتران بالآخر، جسد حي مثلي. ثم، من خلال فعل متخيل ،قد أتموضع مكان الآخر بالمعنى المكاني للمصطلح وليس النفسي. إن “هنا” الآخر، والتي بالنسبة إلي “هناك”،قد تصبح “هنايَ” إذا تموضعت نحوه. أيضا، أرى العالم من وجهة نظره. الآخر،ليس حتما انبثاقا لي ولا ثنائيا لي. لكنه، يدعوني كي أرى العالم بناء على مفهوم ليس بمفهومي: ربما تشكلت هنا، بداية إيتيقا مستلهمة من هوسرل.
*الزمان :
تنصتون إلى ميلوديا. لكن، مع كل لحظة لا تسمعون إلا نغمة واحدة . لقد اختفت السابقة ولم تبرز بعد اللاحقة. كيف أمكن أن تتابعوا هذه الميلوديا،بدل ضبط تعاقب سديمي للحظات قائمة تنفصل الواحدة عن الأخرى؟. لنأخذ هذا المثال الوارد في دروس هوسرل حول فينومينولوجيا الوعي الباطني بالزمان، بحيث يرفض التخلص من القضية بالتمسك بزمان موضوعي طبيعي أو اجتماعي. إنه لايعبئ أبدا التامل أو الخيال بغاية تفسير تحرك الوعي بين طيات زمان يتقدم ويختفي دون توقف. ينبغي إذن الإقرار،أن الوعي بالحاضر المعاش، ليس منتظما لكنه متحررا . هذا الوعي يحتفظ في ذاته،ما سماه هوسرل ب”احتجاز” ما قد مر منذ قليل . إنه يستبق على مستوى الانبثاق، ماهو وشيك الوقوع.
هذا الاحتفاظ العفوي بالماضي المباشر والاندفاع نحو ماسيأتي، يشتركان في إدراك الحاضر قصد تشكيل الزمان الحي لوعيي. يجدر الانتباه أنه ليس الوعي من يخلق الزمان.
لقد اكتشف هوسرل،أنه خلف ما يجريه الوعي من حجز وإطلاق، تقوم زمانية حقيقية تنفلت منه. كل شيئ يتم،كما لو أن الزمان يضمن بنفسه استمرارية الوعي. هذا اللغز المرتبط بزمان”يؤسس ذاته”،أضحى إحدى القضايا الجوهرية لفلسفة القرن العشرين.
*أوروبا:
خلال الفترة الأخيرة من حياته، وقد أبعد من الجامعة بسبب أصوله اليهودية،ألقى هوسرل في “فيينا” و”براغ” سلسلة ندوات حول :”أزمة الإنسانية الأوروبية والفلسفية” ،مكررا تأكيده عبرها على “الإنسان الجديد”،”الوجه الروحي” لأوروبا ضد المفتونين بالنازية أو الستالينية.
إن أوروبا، لا تحدد بحدودها الجغرافية، بل تعتبر حالة خاصة أمام العالم،لقد نشأت في اليونان تحت اسم فلسفة،وتحركت وفق هدف أو غاية : أن تسائل وتفهم بطريقة عقلانية مجموع ماهي عليه. هذه المهمة التاريخية،التي تميز حسب هوسرل،خاصية الفكر الأوروبي،لاترتكز على إنجاز مخطط محدد سلفا ولا اعتقاد أعمى في التقدم.
إنها لامتناهية ،لكنها تتوقف على إرادتنا قصد العمل على تطويرها مع كل جيل. حين اندلعت الحرب العالمية الثانية، دعا هوسرل إلى “انتصار العقل” من أجل مواجهة البربرية.وإذا لم يتم الاصغاء إليه خلال تلك الفترة، فإنه يستحق ذلك اليوم. هكذا،بعيدا عن التفكير في أوروبا كقوة هوياتية انطلاقا فقط من جذورها المسيحية-اليهودية أو وحدة الظروف، أكد هوسرل عن مثال أعلى لعقلانية منفتحة وديمقراطية.
*عالم الحياة :
الثورة العلمية التي أنجزها غاليلي خلال القرن السابع عشرة بتأويله للطبيعة فقط على ضوء مرجعية الرياضيات، أدت إلى ولادة مفهوم أحادي الجانب للعقل والعالم. فحسب هوسرل، ينبغي أن نعيد اكتشاف خلف العالم المثالي للعلوم المعاصرة ،عالم الحياة. هذا “العالم الذي يمنح إلينا باستمرار مقدما”، والذي أجاز انبثاقها.
يذكر هوسرل، أن الهندسة ولدت من مسح الأراضي وكذا ممارسة عملية أبرزت مناظر، وأن كل خطاب مجرد يجد أصله في المحيط الإنساني.فلايوجد علم حقيقي، مستقل عن أنشطتنا اليومية. إذن التذكير به، دون العودة إلى الموقف الطبيعي الذي تجاوزه الاختزال، يسمح لنا أن نخضع للعلوم بتبصر.
ماهو علم الحياة؟ إنه(( هذا العالم الذي تجري داخله حياتنا اليومية المشتركة،ثم الألم الذي نتحمله وكذا هواجسنا وأعمالنا)). أي رواية لبلزاك ،تصف هذا الأمر جيدا ،أفضل من كل مقاربة فلسفية. لكن هوسرل،لايريد التخلى عنه للروائيين وعلماء النفس وعلماء الاجتماع،لأنه في إطاره تتشكل الآليات التي ستكون للعلوم والفلسفة. إن وصفا دقيقا لهذا العالم،وكذا أصل العقل،هو ممكن ويمنح إمكانية ترسيخ الأفكار في الحياة مثلما نعيشها.