أتذكرون يوم سقطت بغداد؟

0 414

سعيـد بوخليـط – باحث مغربي

سنة 1258، احتل هولاكو بغداد. في عصرنا الحديث،وبالضبط يوم 20 مارس 2003 ،بدأ غزو بغداد مرة  أخرى. يوم الأربعاء، 9 أبريل عام 2003، سقطت بغداد تحت أقدام الأمريكيين.

بين المصيرين الجحيميين،تاريخ مشبع بالأخطاء.بداية التسعينات،ألهمتنا شعارات صدام حسين،حماسا منقطع النظير،لاسيما وأن البترول العربي سيعود لجحافل بؤساء العرب، الذين يكابدون من الماء إلى الماء ،يوميات ظفرهم بدولار واحد.

بعد حين،تبين لنا وياحسرتاه !! أن غزو الكويت،كان سلوكا سياسيا طفوليا بكل المقاييس.صدام ركب كبرياءه العسكري فأخطأ،وأمراء النفط انقلبوا إلى ساموراي،وصارت لهم ذاكرة فيل،لم يغفروا له قيد يسير من الأخلاق العربية، كما ملئت بها جماجمنا ونحن في الكتاتيب القرآنية.ما بعد الكويت خطأ،وما بعد ثم ما بعد الكويت دائما،أكبر من الخطأ سلسلة زلات لا تغتفر.

أعدم صدام مرة،وراح إلى حال سبيله بكل ماله وماعليه،ولازال العراق يعدم في اليوم الواحد غير ما مرة.هكذا أضاع العرب العراق وإلى الأبد،كما تجزم أغلب التقديرات،فخسروا بخسرانه وجودهم.هل يمكن،تمثل للحظة، الجغرافية القومية بل العالمية بدون عراق ما قبل 1990؟ حتما،لا.

لقد اندثر وهما المشروع العراقي،باعتباره الإقليم- القاعدة للنهضة العربية،بعد انتكاسة الناصرية.هزم العراق،بالنزعة العسكرتارية والاستبداد والعقائدية المحنطة ثم بالتأكيد الرجعيات المحيطة،وعمالتها وتربصها بكل ما من شأنه رفع الغطاء عن المحظور.لقد غابت تماما الرؤية الحكيمة،ورفضت الأنظمة العربية،ولو بذهنية برغماتية لكنها سياسية،استحضار مآل السقطة.ألم تعبئ الإمارات الخليجية،بتحريض أمريكي إسرائلي،كل كنوزها المالية وقواها الإعلامية واللوجيستيكية والمخابراتية والدعائية ،كي يتفرج العالم قاطبة على ذبح صدام،وقد صار الغول الذي سيلتهم الكرة الأرضية.؟

كنا نستيقظ صباحا،على سيرة رجل مطلوب للعدالة،لأنه قد ينفث في وجه الجميع،بصاروخ من صواريخه النووية وقد غدت لديه مثل حبات الأرز،لاتختلف لديه نارها عن الدخان الذي يبعثه سيجاره الكوبي،منتشيا بقهقهته المجلجلة.

نعاود النوم ليلا،على كوابيس رئيس عراقي خارج التصنيف البشري،لاكبد له ولاعواطف و لامشاعر،سيلقي بنا عربا وأوروبيين وأمريكيين،بجرة ثمالة منه ،لحما طريا لتماسيح مزارعه،أو يذيبنا وسط أحواض الأسيد،إن لم نسرع للقذف به إلى ماوراء الشمس !!!

لا منطق في السياسة الرسمية العربية.إن جدلية التاكتيك والإستراتجية والمدى القريب والبعيد،غير مفهومة لدينا بتاتا.مفهوم التناقض الصغير والأكبر منه،لاترد بالمطلق في تقديراتنا السياسية.لهذا، يتهاوى الوضع السياسي ومختلف تبعاته إلى مزيد من المستنقعات الآسنة.

كان يسهل بمعادلة بسيطة،التمييز بين صدام كشخص والعراق كرمز ووجود وقيمة،فيبقى قائما ويرحل حاكمه بأقل الخسائر الممكنة ،وأن لايترك بلد الشعر والغناء لحفنة من اللصوص والمرتزقة،فأتوا على الأحياء والأموات،مثل شراهة ذئاب جائعة وقد  انفردت بغزال شارد.

ماذا ربحت في نهاية المطاف ؟ البورصة الخليجية،ونحن نستعيد تلك الواقعة، التي أشارت، إلى أن أحد الصيارفة الكويتيين،أسرع وقتها إلى عرض حفن هائلة من الدولارات،حتى يحصل على الحبل الذي لف به عنق صدام،ودم الرجل لم يتخثر بعد.فهل يهم الشاة سلخها بعدما ذبحت؟أي حقد،هذا ياعرب؟ثم ،ماذا بعد وقد تدحرج العراق من شفا حفرة،إلى لجة بلا نهاية؟كيف،تتأتى لأحاسيس هذا المنتفخ مالا، ومن على منواله،أن يتلمس بأصابعه،طوق الموت ذاك ،بغير أن تتجمد عروقه ويقشعر بدنه، ويأكل الغثيان مجمل جسده،لأنه حقيقة يستحم مرحا وانتشاء، في حوض دم أجيال وأجيال ثم بشر وبشر وأطفال ونساء وطن بل أوطان. ألا نستشعر فعلا أو ممكنا،أننا أكلنا يوم أكل الثور الأبيض ؟هي عظامنا إذن، بل أحلامنا ،تملأ التاريخ ثقوبا.

ما  العراق، اليوم؟ يقولون،بأنه انتهى إلى مجرد مقاطعة إيرانية،فانتقمت طهران لنفسها شر انتقام،من نهاية لامنتصر ولا منهزم –كما أرادت الولايات المتحدة الأمريكية-بعد قتال مع عراق صدام، دام لأكثر من ثمان سنوات.حرب،صنفت ضمن الحروب الأسطورية شراسة،التي عاشتها السياسة الدولية في القرن العشرين،نظرا للتوازن بين البلدين عدة وعتادا وطموحا،  وطبيعة النظامين العقائدين اللذين أدارا المعركة.فتحولت، إلى حرب شخصية بين الخميني وصدام.

لذلك،إذا سبق للخميني ،أن ردد بأن تجرع السم أهون عليه من وقفه الحرب،فسم الكوبرا الذي يرتشفه العراقي حاليا،مضطرا لا عاشقا لترويض الأفاعي،ربما قد أراح “الإمام” في حفرته وأسكنه فسيح ظلمتها،فاتسع له لحده،بقدر ماضاق أمل العراقيين في الحياة.

عفوا،أظن هذه “البغداد”التي غادرتنا وقد أثخنت غدرا ومكائد وصغائر وحقارة ودسائس،ستأبى أن تقبل على نفسها والحالة تلك،وصفا مكانيا سواء أحال بها عند أهل العمائم أو غيرهم،ما دامت انتهت إلى خريطة سميتها في مناسبة أخرى ب”فردة حذاء” :قتل ثم قتل فموت فميتات فرديا وجملة ودولة،بحيث يجهل المقتول دواعي قتله،كما أن القاتل لايعرف دوافع سلوكه.الشاهد،تلك الأحذية المتقاذفة هنا وهناك،أمام المساجد باسم الرب،وداخل المدارس باسم الرب،وفي الأسواق باسم الرب،وفي المتاحف باسم الرب،وفي الحانات باسم الرب،وفي المستشفيات باسم الرب،وفي المجالس العلمية باسم الرب،ثم الرب والرب،أي زمان أعمى هذا؟.

سنة 2003،أخبر جورج دابليو بوش،العالم قاطبة بأنه قد أتى بالحرية أخيرا،إلى شعب عراقي ظل لسنوات طويلة معتقلا في مجاهل واحة صحراوية.. .واحة،ستغدو بعد اقتلاع أس ومكمن الشر،منتجعا رحبا لكل العرب الضائعين.لقد  ساد الاعتقاد، أن تقويض معقل بغداد،سيشكل مدخلا لتخليصنا من كماشة الديكتاتوريات،وسنلج العصر الأمريكي،باعتباره “النموذج الأمثل” لنجاحات الرأسمالية حيث رحابة الديمقراطة وشساعة الحرية والرخاء الاقتصادي والنعيم الاجتماعي.

كان العرض مغريا،أسال لعابنا نحن الأشقياء والمحرومين. ولعل ماعضد مشروع الذبابة الأمريكية،دعوة بوش لكل أنظمة الحكم العربي،بضرورة بناء منظومة سياسية جديدة تنهي ثنائية”زعيم في السلطة ومعارضة في السجن”وبينهما الاستبداد والإرهاب والفقر والعنف والمافيات والدعارة والفراغ ثم الضجر.

انتهت ملحمة صدام بعد حروب دونكشوتية،لم يتحقق بعده موعد العراق مع التاريخ كما استشرفت ذلك بهمة أدبيات الصالونات العربية،رجع العراق إلى العصر البدائي،بغداد ثكلى والمنطقة برمتها على كف عفريت.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.