كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن ظاهرة العنف داخل المؤسسات التعليمية “العمومية”، ظاهرة ملأت الدنيا وشغلت الناس. وقد طفت لى السطح نظرا لكثرة الاحداث والوقائع المتعلقة بها، بل وغرابة بعضها أحيانا. مما يضطر أصحاب الضمائر الحية والباحثين عن “الإصلاح” الحقيقي، إلى وضع “مخطط استعجالي” للتدخل والحد من التعدي على حرمات مؤسسات “الشعب”، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل أن يقال يا ويلنا على ما فرطنا في اتخاذ أسباب الوقاية. ومما لا شك فيه أن هناك أسبابا ودوافع تتوارى خلف الظاهرة. كما أن هناك “حلولا” قد تقضي عليها أو على الأقل تخفف من وطأتها بشكل ملحوظ جدا.
وجدير بالذكر أنني لست أهلا للحديث عن مثل هذه الظواهر. من جهة لأنها تحتاج إلى علماء نفسانيين واجتماعيين، و من لهم باع في المجال التربوي، ومن سبروا أغوار المنظومة التربوية وأهدافها وسياساتها… ومن جهة أخرى إن تجربتي داخل المؤسسات التعليمية لم تتعد ست سنوات، وإن كنت قد خبرت منها الكثير. وإنما جاء تدخلي باعتباري معنيا بالأمر وبشكل مباشر. وكذا لانعدام رؤية حقيقية وواضحة للسيطرة على الظاهرة. لأننا لازلنا نسمع ونرى الكثير من التصرفات التي لا تمت للتربية بصلة، لا من قريب ولا من بعيد. من هنا سأعمل على معالجة هذه المعضلة من زاوية ضيقة جدا حسب فهمي لمسبباتها وإدراكي لأبعادها. إنما هذه بذرة عسى أن تجد أرضا تنبت فيها، ولعلها تجد من يرعاها من المسؤولين وأصحاب الحل والعقد في الحقل التربوي.
وإن عامل الخبرة لا يشكل عائقا بالنسبة لي ولا لغيري من المهتمين، ولا يمنع من أن أدلي بدلوي، لعلي أشرب من معين لم يشرب منه كثيرون. وسأبين – بحول الله – بعض الأسباب الثاوية وراء تفشي ظاهرة العنف في مجال “التربية”، وخاصة داخل المؤسسات “العمومية”. ومن ثم سأقترح بعض الحلول التي قد يشاطرني بعضهم الرأي في كونها كفيلة بالقضاء على هذا الداء العضال.
أولا : بعض مظاهر العنف داخل المؤسسات التعليمية.
لعلي أحتاج هاهنا، وقبل ذكر بعض مظاهر العنف داخل المؤسسات التعليمية، إلى تعريف العنف المدرسي. ويحدد بأنه كل تصرف أو سلوك يقصد به مرتكبه إلحاق الأذى بالآخرين، سواء أكان ذلك فيزيائيا/جسميا (الضرب/ الجرح/ الطعن…) او نفسيا كالسخرية و الاستهزاء والسيطرة وفرض الآراء بالقوة والسب والشتم…(جواد دويك بتصرف). و” ربما يجدر القول بأن العنف المدرسي هو “التصرّف غير الاجتماعي”، فيصبح عندها كل تصرّف يتخطّى حدود النقاش أو يُجابه رأيا إلى حدّ يصل إلى المجابهة الجسدية بين التلامذة والأساتذة، بين الأهل والأساتذة، بين التلامذة مع بعضهم البعض هو عنف“. (حسب هدى رزق).
لطالما تابعنا في الصحافة بجميع انواعها، وفي المواقع الإلكترونية كثيرا من أحداث العنف داخل المجال التربوي بين تلميذ ومعلم[1]، أو تلميذ وتلميذ أو ولي تلميذ ومعلم… وإن المتمعن في كل تلك الاحداث المزعجة والخطيرة سيصل إلى نتيجة مهمة، ينبغي الوقوف عندها، وهي أن هناك دافعا غير طبيعي يقف خلف كل ذلك. غالبا ما يكون له علاقة بالجانب النفسي.
قد يعود السبب الحقيقي وراء العنف داخل المؤسسات التربوية إلى معلم أو تلميذ أو غيرهما… ولكن في النهاية كل يملك دافعه الخاص، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالظلم والحيف الذي قد يصدر عن شخص من الأشخاص، أو جهة من الجهات، لأي سبب ومن أي موقع. وما أكثر ما شهدنا من استفزازات في المجال التربوي، سواء أكانت مقصودة أم غير مقصودة. وسواء أاعترفنا بها أم لم نعترف. وهذا محل اختلاف وخلاف وجدل. ولكن الحقيقة التي لا جدال حولها ولا خلاف هي أن المدرسة المغربية “العمومية” أصبحت مجالا للعنف والتعنيف النفسي والجسدي. مما يدفع إلى وضع السؤال البسيط، ولكنه يؤرق: لماذا؟.
والسؤال الأكثر عمقا، والذي يطرحه العوام والمثقفون على حد سواء، هو: كيف تساهم المدرسة في إذكاء نار الصراع؟ وكيف تصنع “الإجرام[2]“؟. بينما نعقد عليها أملا كبيرا في القيام بدورها الرئيس وهو “التربية” و”التكوين” على الأخلاق والخير والطاعة والولاء والتسامح والانفتاح… وغيرها من الخصال النبيلة. وبشكل آلي يعقدون مقارنة، مقصودة أو غير مقصودة، بين عهدين للمدرسة المغربية; بين عهد كان للتلميذ فيه “أبوان”: أب مرب في المنزل، وأب مرب ومكون في المدرسة. وحينها كنا نحصل على “منتوج” نرضى عنه ويرضى عنا؛ وعهد لا نرضى فيه عن كثير من منتوجات مدرستنا. إذن ما الفرق؟ هل يتعلق الأمر بطبيعة المناهج أم بالتلميذ أم بالأسرة أم بالمعلم أم بالمنظومة كلها؟ الجواب، يتعلق الامر بكل أولئك مع تفاوت في التأثير والمسؤولية.
ثانيا: أسباب ظاهرة العنف داخل المؤسسات التعليمية[3].
الحق أن الأسباب الثاوية خلف ظاهرة العنف المدرسي كثيرة جدا، وإن شئت قلت إن لكل حالة سببا خاصا، قد يختلف كثيرا أو قليلا عن سبب حالة غيرها. إلا أننا متأكدون من أن الأسباب الكبرى والدوافع العظمى تكاد تتفق بين كل تلك الحالات.
السياسة التربوية الخاصة والعامة:
إن أول سؤال يتبادر إلى ذهن المواطن المغربي (المواطن الحي المحب لوطنه، والمهتم بشؤون البلاد وما تعيشه من أحداث) وخاصة المشتغل أو المهتم بمجال التربية (عن بعد أو قرب) هو: لماذا العنف داخل المؤسسة التربوية “العمومية” وليس “الخاصة”؟ الجواب عن هذا السؤال المشكل قد يبدو بسيطا، ولكنه غير ذلك في الحقيقة.
إن ما يجعل التعليم الخاص بعيدا عن مظاهر العنف والفوضى – على الأقل أمام الإعلام وأمام الرأي العام – هو توفير الحماية القانونية و”الحصانة” السياسية من طرف جهات هي تملكه، وتملك التعليم العمومي في الوقت نفسه. هذه الحصانة توفر الحماية للمدرس/ الملقن وللتلميذ/ المتلقي على حد سواء. مما يجعل الطرفين في شبه تعاقد حول المصالح. وهذا ما يشعر بالاطمئنان أكثر ويوفر الراحة النفسية للجانبين معا. وبالنتيجة تكون العلاقة بينهما “مثالية”، فلا مجال للفوضى وإثارة المشاكل مادام كل طرف راضيا عن الآخر، ومادام كل طرف يقوم بواجبه على أكمل وجه، فالتلميذ يدفع والمدرس ينفع، ومادامت النتائج الدراسية تأتي متوجة لهذه العلاقة المبشرة بالخير.
وعلى ذكر النتائج والنقط المحصل عليها، أود أن أذكر هنا بأن ما تحققه المؤسسة الخاصة من “تميز” يدفع الدولة “مكرهة” إلى الاعتراف بالمجهودات الجبارة التي يقوم بها القائمون عليها. وبالمقابل لا اهتمام بالمدرسة التي لا تقدم نتائج حسنة[4]. حتى لو كانت مدرسة الأغلبية العظمى، التي لا حول لها ولا قوة ولا حيلة لتغيير الواقع.
والثابت من خلال الواقع المغربي أن الاهتمام بأي مجال يأتي بناء على معايير محددة ومضبوطة أولها وأهمها كون ذلك المجال قادرا على “الإنتاج” وتحقيق الربح – تماما كما يحدث في التعليم الخاص – و هو ما يغيب للأسف في التعليم العمومي، أو على الأقل كما نظن. هذا يضعنا جميعا أمام تحد صعب يتمثل في التفكير في حل لجعل المدرسة العمومية مقاولة منتجة لسلع مدرة للأرباح (مدرسة الأرباح). حتى لو اقتضى الأمر إهمال الجانب التربوي، وغض الطرف عن طبيعة المعلومات التي يتلقاها التلاميذ، وسواء أتعلموا فعلا أم حضروا ليصطفوا في الفصول فحسب.
التربية والتعليم:
إن المعنى الذي تحمله كلمتا “تربية” و”تعليم” يكاد يغيب عن كثير من المشتغلين داخل الحقل التربوي، بل لقد قدر لهما أن يفرغا (عمدا أو سهوا ) من محتواهما. وهذا ما يظهر من طريقة وضع البرامج والمناهج الدراسية، إذ أصبح الهدف منها تحقيق الربح والمنافسة بين شركات الطبع والنشر، وإرضاء أطراف معينة (سياسيين، روائيين، رجال أعمال، مرجعيات مقصودة…) وليس بناء “رجل” سيقود البلاد غدا. لقد غيب واضعو المقررات الجانب التربوي والأخلاقي والجانب الإنساني، الذي ينشر بين التلاميذ روح التسامح وحب العلم والمعلم. وحتى في المواد التي خلقها الله لهذا الغرض قد كتب لها أن تحيد عنه، لغاية في نفس واضع دروسها، إنه يقضيها. ولمن عاد إلى دروس مقررات العصور الذهبية سيجد أن المواد كلها، دون استثناء تبث في التلميذ روح الإنسانية والحب والخير والتسامح من خلال اختيار نصوص تنصح المتعلم، وكأنه يقف أمام “أب” وليس معلم.
وبالمقابل عندما يغيب هذا الجانب – كما حدث الآن – فالنتيجة فساد وإفساد. والنتيجة شعور بفراغ أخلاقي يملِأه التلميذ بأي شيء!!! مما يضع الأستاذ أمام تحد صعب، إذ يشعر المتعلم وكأن مدرسه يسخر منه. كما يتفطن إلى ان ما يتلقاه منه قد يتلقاه من “آلات” أكثر دقة وأكثر سرعة وأحسن تبليغا (الحاسوب)، مادام المعلم يشبه الآلات العاقلة برمج على القيام بدور الملقن للمعرفة، دون تعديه إلى دور المربي والناصح الذي يشعر بتلاميذه ويشعرون به.
الوزارة والمعلم:
لقد أريد لنا ان نجهل أو أن نتجاهل المعنى الحقيقي للمعلم، الذي حمله الله رسالة واستودعه أمانة. إن المدرس أو المربي أو المعلم هو ذلك الشخص الذي يحمل على عاتقه رسالة توعية الشباب وأمانة إطلاعهم على تعاليم دينهم الحنيف و مسؤولية جعلهم قادرين على الاندماج في المجتمع على مستوى سوق الشغل وإكسابهم المهارات والكفايات الضامنة لقيامهم بمهامهم على أحسن وجه وفق المعايير الدولية، ولكن يجب أن يجعلهم أيضا مندمجين داخل المجتمع على المستوى الأخلاقي والمعاملاتي. وللأسف هذا الجانب الأخير قد أغفلته المناهج الحالية.
ولقد توضح لمن لا علاقة له بمجال التربية والتعليم بله لمن له به علاقة، أن المنظومة التربوية في بلدنا الحبيب قد نهجت، منذ سنوات، سياسة مدروسة تفقد بها “المعلم” دوره الأساس. وتفقده قيمته داخل المجتمع. بجعله مسؤولا عن فشل الإصلاح تارة (بعض بنود قانون ساكسونيا الألمانية[5])، وتارة بتركه عرضة لكثير من تسلط بعض الأفراد الطائشين من المجتمع. من خلال انعدام قوانين واضحة ونصوص صريحة تحميه وتحمي عمله، أسوة بغيره من “الموظفين”. مما يجعله فريسة دون راع يرعاها، فيسهل التعدي على حقوقها.
وليس من نافل القول الإشارة إلى أن المعلم قد انتزع منه حق أساسي، انتزع منه بطريق غير مباشرة، وهو حق قيامه بدور العالم النفساني والاجتماعي الذي يطمئن على تلاميذه ويتفقدهم في الشوارع والأزقة، ويستمع إلى شكاواهم داخل الفصل فيعطف على الضعيف والمظلوم ويقتص من الظالم. وإنما اقتصر دوره على التلقين والتدريس ونقل قدر من المعرفة إلى متلق لا يفقه من واقعه إلا ما تحت قدميه، ولا يعرف مما يدور في العالم إلا ما ينقله إليه معلمه المقيد.
ومن باب التذكير أن المعلم اليوم محروم أو ممنوع من تنمية قدراته وكفاءاته، ومحروم كذلك من تكوين نفسه بسبب إلزامه بالاكتفاء بما تلقاه منذ أمد بعيد، ومنعه من الالتحاق بالجامعات والكليات لاستكمال الدراسة والاستزادة من العلم، علما أن ذلك كله ينعكس سلبا على مردوده وعطائه، خاصة بعض الفئات المعروفة.
والواقع أن هذا راجع إلى سياسة معينة، تريد من “المعلم” أن يبقى مدرسا فقط لا معلما ومربيا. وتريد أن يسود القانون لا العلم. لذلك لا تكاد تجد اعتداء على رجل يحميه القانون، بينما تجد ذلك عندما يغيب. مما يشعر المدرس في كثير من الأوقات بالاحتقار والدونية، فيصدر رد فعل غير معقلن أحيانا أو يلجأ إلى وسائل وطرق غير مقبولة في التعامل مع الوضع.
الأسرة الغافلة:
ظلت الأسرة المغربية ولا زالت عماد المجتمع وفخره، من خلال عاداتها وتقاليدها وأخلاقها وأنفتها… إلا أن المتمعن في تاريخها سيسجل تحولا خطيرا جدا في كثير من خصائصها. يهمني منها هنا طريقة تحكمها في أبنائها وسيطرتها عليهم بما ينفعها وينفعهم وينفع الوطن الحبيب، الذي يعقد عليه آمالا كبيرة. فلقد كانت الأسرة مصدر التربية، والطفل ليس إلا ناطقا باسمها في المجتمع. فتجد قوله جميلا وعمله نبيلا. وفي الحقيقة هذا ما علمه أبواه. ومما علماه كذلك احترام العلم وكل ما يمت إليه بصلة. وحثاه على تقدير المعلم وإعطائه القيمة التي يستحقها. حتى إن المتعلم يخاف أن يسيء إلى مربيه لأنه يحس وكانه أساء إلى أبيه. ويعمل جاهدا على التقيد بنصيحته داخل الفصل وخارجه. لذا حصلنا على منتوج (تلميذ) بجودة عالية خلقا وكفاءة.
وأما الآن فقد أصبحت كثير من الأسر المغربية تعطي لأبنائها حرية فوق ما يستحقون، بدعوى التحضر والتطور، ونتيجة الغزو الإعلامي والتكنولوجي داخل البيوت، وغزو العادات الدخيلة في الشوارع. وأصبح الإعلام الغربي يصنع شبابنا بالطريقة التي يرتضيها. كما تكفل بملء أوقات الأب والأم وشغلهما عن تربية أبنائهما. وتبعا لذلك أصبح التلميذ يتربى من غير المصدر، يأكل من آنية عفنة ويشرب من عيون نتنة. لذا لم يعد للمعلم في ذلك دور، إذ كيف يبلغ البنيان يوما تمامه، إذا كنت تبني وغيرك يهدم. ما يعلمه للتلميذ داخل القسم – على علة المناهج والمقررات – في ساعات طوال يهدمه الواقع والبيت والشارع في ساعة أو ساعتين. خاصة مع رخص السلع وتوافر البضاعة. وكثرة ما يملأ الفراغ من مغريات العصر.
التلميذ:
إن أكبر “مستفيد” من تقلبات المنظومة التربوية بالمغرب الحبيب، وفي ظل هذا الوضع هو التلميذ أو المتعلم. إذ كان ذكيا وتكيف بسرعة كبيرة مع الأجواء التربوية. فحين أعطيت المكانة للمعلم حتى كاد أن يكون رسولا، وحين كانت الأسرة والمجتمع يعتبران المدرس “إماما” يحتذى، وحين كان المربي يلجأ إلى ضرب المتعلم أحيانا (في حدود معقولة، ولأسباب مقبولة ) لزم التلميذ الاحترام والتوقير والتبجيل إلى درجة الخوف المحمود المفقود. وأما حين ضاعت كل تلك المكتسبات مع مرور الزمن وتحول العصور ودخول عصر التكنولوجيا والموضة. أحس التلميذ بضرورة مواكبة العصر فاشتمل بموضة مضايقة من علمه حرفا.
وعموما فالتلميذ لم يولد وهو محب للصراع والاعتداء والمضايقات، ولكنه استغل ظروفا ساهمت في خلقها منظومتنا التربوية. وكان لزاما عليه أن يقتحمها ويتشربها، وإلا اعتبر “مغفلا ومتخلفا ورجعيا”. ويقول المغاربة “الراس للي مايدور كدية”.
ثالثا: الحلول والمقترحات:
لقد بينا فيما مضى أن تفشي ظاهرة العنف داخل المؤسسات التعليمية، مسؤولية مشتركة بين أطراف عديدة (السياسة التربوية، الأسرة، المدرس، التلميذ…) مع تباين في التأثير حسب تفاوت المسؤوليات. ونسرد هاهنا جملة من الحلول التي قد نتفق جميعا على كفايتها وقدرتها على التخفيف من هذه المعضلة. علما بأن ذلك ممكن جدا، والدليل هو أن منظومتنا لم تكن تعرف فيما مضى هذه التصرفات المشينة والتي نعتبرها وصمة عار على مجتمعنا، وإنما تسربت لخلل ما، ومتى زال هذا الخلل أصلح الأمر وعادت المياه إلى مجاريها.
من هنا فإننا مدعوون جميعا لتضافر الجهود، كل من موقعه لإعادة الهيبة لمنظومتنا التربوية، وإعادة الاعتبار والعز للقائمين عليها، خاصة المدرس/ المربي.
السياسة التربوية العامة:
إن أهم عنصر في الأمر كله هو جعل التعليم العمومي كالتعليم الخاص، لا أقصد على مستوى البرامج والمناهج والمقررات والأمور الخاصة التي يجب أن يختلفا فيها، وإنما أقصد العناصر المشتركة. وأبرزها توفير الحماية القانونية و”الحصانة” للمدرس/المربي وللتلميذ/المتعلم على حد سواء. مما سيوفر ارتياحا واطمئنانا، وبالتحديد على المستوى النفسي. إذ سيحظى كل طرف منهما – خاصة المعلم – بمكانته الأصلية وموضعه المفقود منذ زمن. ومن ثم سيؤديان واجبهما على أكمل وجه، وتصبح العلاقة مبشرة بالخير لا محالة.
واعلم أن الاهتمام بالمدرسة “العمومية” سيعود ولا ريب كما كان في سالف الأزمان. لأنها سوف “تنتج” عقولا نيرة هي أساس تنمية البلاد في جميع المستويات ومختلف المجالات، و هي ضمان تحقيق الربح في كافة الأصعدة. ومن ثم يحق لنا بكل فخر أن ندعوها (مدرسة النجاح). تولي الاهتمام للجانب التربوي، ولطبيعة المعلومات التي يتلقاها المتعلمون، وتحرص على أن يتعلموا فعلا لا أن يقفوا في الفصول صفا صفا.
التربية والتعليم:
أسلفنا الذكر عن كون الكثيرين من القائمين على المنظومة التربوية فطنوا إلى أن كلمتي “تربية” و”تعليم” قد فرغا من محتواهما وفقدا معناهما الذي كانا لأجله. مما أدى من جهة إلى جعل “المربي” أو “المعلم” يفقد هيبته ودوره تبعا لذلك. إذ أصبح كالآلة تؤدي الوظيفة التي صنعت لها. ومن جهة ثاني تسبب في “تسليع” البرامج والمقررات كما بينا.
إن الأمر يقتضي الحزم وإبعاد المقررات عن شبح المنافسة بين شركات الطبع والنشر، والنؤي بها عن إرضاء أطراف معينة لا علاقة لهم بالتربية والتعليم. والانكباب على دراسة مصلح بناة المغرب في المستقبل. ومصلح أبناء الشعب كافة دون تمييز. مع الحرص على إشراك الكفاءات القادرة على صياغة مناهج ومقررات تراعي الجانب التربوي والأخلاقي والإنساني، مما سيسهم في نشر روح التسامح بين التلاميذ وحب العلم والمعلم، كما كان عليه الأمر قبل زمن. حين كان المعلم أبا ومربيا. وبالنتيجة يستشعر المتعلم أهميته وقيمة ما يقدمه له.
الوزارة والمعلم:
إن الأمانة أو الرسالة التي يحملها المعلم، تجعله أجل من أن يجهل أو يتجاهل دوره. فتوعية الشباب ليست بالأمر الهين، وإطلاعهم على القيم والأخلاق والمبادي الدينية والوطنية والمقدسات أمانة جسيمة، وجعلهم مواطنيهم صالحين، وإكسابهم المهارات والكفايات الضامنة لقيامهم بمهامهم على أحسن وجه، والاندماج في سوق الشغل دون أدنى مشكل مسؤولية عظيمة. لهذا فإن المنظومة التربوية مطالبة بالتركيز على الرفع من قيمة هذا الرسول العظيم.
تقتضي “العدالة الاجتماعية” و”التنمية الشاملة” المساواة بين جميع الموظفين الذين يسعون جاهدين لخدمة هذا الوطن وتنميته، بل المساواة بين جميع المواطنين. والاعتراف لكل منهم بما يقوم به من مجهودات تهدف إلى الرقي بهذا البلد، ومن ثم محاولة الرفع من قيمته داخل المجتمع. وإثابته على كل صنيع (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ). كما أن “الحكامة الجيدة” تقتضي محاسبة المسؤولين عن فشل الإصلاحات، والمسرفين في هدر الميزانيات، ومعاقبتهم على كل تضييع (وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ). وذلك باعتماد قوانين واضحة ونصوص صريحة تحمي كل مواطن صالح وتعاقب كل طالح. بناء على معايير منطقية ومعقولة و موضوعية، لا دخل فيها للهوى ولا للتحزبات والمآرب الذاتية.
ولعل أهم ما يعيد للمعلم بعض حقوقه المنتزعة، بشكل أو بآخر، كحق قيامه بدور العالم النفساني والاجتماعي الذي يطمئن على تلاميذه ويتفقدهم، ويستمع إلى شكاواهم ويعطف على الضعيف والمظلوم ويقتص من الظالم. هو جعل المناهج والمقررات الدراسية ذات قيمة ومراعية لكافة الجوانب (تربية، اخلاق، مواطنة حقيقية، الانفتاح…) قادرة على جعل المربي ينتقل من مجرد التلقين والتدريس ونقل المعرفة، إلى معلم للمبادئ والقيم مرب على الصلاح والمنفعة والاحترام والطاعة، يطلع المتعلمين عما يدور في الواقع، ويجعلهم مدركين لكل المنافع. إن من شأن ما ذكرناه أن يريح المعلم ويشعره بالأمان، فيصير الاحتقار تقديرا والدونية عزا وفخرا.
كما أن من حقه الاستزادة من العلم واستكمال دراسته الجامعية، ولا يحق لأحد أن يمنعه من ذلك. شرط أن يتحمل مسؤوليته كاملة أما الله وأمام الدولة والمجتمع والتلاميذ الذين يدرسهم. فإن التمتع بالحقوق مشروط بأداء الواجبات والقيام بالمسؤوليات. واللبيب بالإشارة يفهم.
الأسرة العاقلة:
يحتاج المغرب اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى تذكير الأسرة المغربية بعادات الأجداد وتقاليدهم وأخلاقهم وأنفتهم… وبكل ما نفتخر به. فما أحوجنا إلى تلك الأسرة المربية التي كانت تستمد مبادئ التربية الصحيحة لأبنائها من تعاليم دينها ورموزها الوطنية التي نعتز بها، لا من المواقع الإلكترونية والعادات الغربية. تلك الأسرة التي تحبب احترام العلم والمعلم، وتحرص على إعطائهما القيمة التي يستحقانها. حينها سنجي ثمار تربيتنا، وسنحصل على منتوج (تلميذ) بجودة عالية خلقا وكفاءة.
فلا بد للأسرة المغربية من أن تسترجع بعض عصاميتها، وواجب عليها الاعتماد على ذاتها في بناء رجال المستقبل بكل حرية وعدل، بعيدا عن العادات الدخيلة. دون أن تنطوي على نفسها وتنغلق، إذ لابد من الانفتاح على الآخر والاستفادة من منافع ما سبقنا إليه، فقد أضحى هذا حقيقة لا يجادل أحد في ضرورتها وأهميتها في الحياة المعاصرة. ولكن ليس على حساب الأخلاق والمبادئ. فلا يمكن أن نقبل بتربية تدعو إلى رفض القديم، وهدم الأصول والثوابت، وقطع الصلة بالتراث، الذي هو عزنا وفخرنا (الأمة التي لا ماضي لها لا حاضر لها ولا مستقبل ترجوه، أمة ضائعة). فإن الأسرة هي عمود المجتمع وركنه الشديد ومتى تهاوى فكبر على المجتمع أربعا لوفاته.
يقول المؤرخ البريطاني “هوبل”: “إذا أردت أن تلغي شعباً ما تبدأ بشل ذاكرته التاريخية ثم تلغي ثقافته وتاريخه وتجعله يتبنى ثقافة أخرى غير ثقافته وتخترع له تاريخاً آخر غير تاريخه وتجعله يتبناه، عندئذٍ ينسى هذا الشعب من هو وماذا كان وبالتالي ينساه العالم”. وفعلا لقد نسينا العالم، وللنظر إلى رتبتنا في التصنيف الذي يصدر سنويا فيما يتعلق بالتربية والتكوين، وأيضا فيما يتعلق بالتنمية. ويقول الدكتور أندريه كحالة: ” إن الشعوب التي لا تحافظ على تاريخها يكون مصيرها الأكيد الزوال. و نسيان الماضي يؤدى إلى فقدان المستقبل… من هنا نرى ان التجذّر في التاريخ هو بأهمية التجذّر في الجغرافيا…” والزوال قد يكون ماديا، أي الاندثار والاختفاء من الحياة كالأمم البائدة، فهل ترى لهم من باقية، وقد يكون معنويا من خلال التخلف الثقافي، فأنت بالروح لا بالجسم إنسان.
وبناء عليه فإن الأسرة المغربية مدعوة إلى الانخراط والمساهمة بقوة وجدية، في بناء المدرسة “العمومية” من خلال مساعدة المعلم على أداء دوره، والحرص على تثبيت ما يتلقاه الأبناء وتعزيزه. وكذا من خلال المساهمة في تخليق الحياة المدرسية.
التلميذ:
إن أول “مستفيد” من إصلاح المنظومة التربوية بالمغرب هو التلميذ أو المتعلم. شرط أن يعرف أنه حين تعطى للمعلم مكانة لائقة، وحين تعتبر الأسرة والمجتمع المدرس “إماما” يحتذى، وحتى حين يلجأ المربي إلى ضربه أحيانا. عليه أن يعرف أن هذا كله لأجله. وعليه أن يعي كذلك بأن عصر التكنولوجيا والموضة لم يخلق لإنهاء مكارم الأخلاق بل وجد لأمور نافعة قد يستفيد منها دون أي خلل.
وعلى الأسرة أن تسهم في ذلك بشكل كبير ودائم، بل إن مسؤولية الحفاظ على الفطرة التي فطر الله الأبناء عليها مسؤولية مشتركة. وإذا وجدوا الظروف المناسبة التي تشغلهم بما يعود عليهم بالنفع وعلى الوطن، عندها فقط سيبتعدون عن الصراع والاعتداء والمضايقات.
الخاتمة:
خلاصة القول في هذا الموضوع إنه من غير المقبول أن ينشغل القائمون على المنظومة التربوية بغير أمور التعليم والتربية، كما أنه من غير المعقول أن يتجند الكل لعلاج النتائج، بينما كانوا قد فرطوا في أسباب الوقاية من حدوثها. إن ظاهرة العنف ينبغي ألا تشغل حيزا كبيرا من وقتنا. معنى هذا أن القضاء عليها أصبح مسألة أساسية، بل وأمرا عاجلا. وذلك بالقضاء على مسبباتها، من خلال قيام كل من موقعه ومسؤوليته بدوره كما أوجبه عليه منصبه. فلقد وضحنا بجلاء أننا جميعا نتحمل قدرا من المسؤولية فيما آل إليه التعليم في المغرب.
وبناء عليه فإننا مدعوون جميعا لخدمة هذا الوطن الحبيب، وخاصة الحقل التربوي لأنه أساس التطور وعماد التنمية. وهذا “واجب” وطني كما لا يخفى على الجميع، ووجه مشرق من أوجه “المواطنة الحقيقية”. ولا يعذر أحد ممن لهم علاقة بالتعليم، كان من كان ومهما يكن موقعه، بأن يتوانى عن أداء دوره، أو أن ينكص على عقبيه. ومن تراجع ليترك الفرصة للآخرين قصد الإصلاح فلا تثريب عليه، بل وأفلح إن فعل. ولنعلم جميعا أنه لا بد من صبر وتضحية، وإن كان ذلك بشكل غير متساو لظروف نعلمها جميعا.
لقد كان لنا في الدول المجاورة أسوة حسنة، إن كنا نسعى فعلا إلى منفعة الوطن. إن تعليم هذه الدول يعيش الآن عصر الأنوار، أنوار كالشمس في ضحاها. ولم يكن ذلك عبثا، بل بالجد والاجتهاد والتعاون، وتحمل المسؤولية. فإن أردنا أن نجعل تعليمنا كالقمر إذا تلاها، فالسبيل واضح، أد ما عليك تسر في طريق كالنهار إذا جلاها. وإلا فالنتيجة تخبط في مشاكل وفي ظلمة كالليل إذا يغشاها.
لقد نصحت وما قصرت، وبينت وما تجاوزت. وليس فيما قلت مشقة، وما أردت به إلا دفع من يقرأ هذه الأسطر إلى التفكير في تقصيره تجاه منظومتنا التربوية المغربية. ومن ثم يسعى إلى تدارك هفوته قبل فوات الأوان. فإن الأطباء يعلنون للناس أن “الوقاية خير من العلاج” وأن الداء إذا تقادم واستفحل أمره يصعب علاجه، بل ويستحيل في كثير من الحالات. فإليكم يا أصحاب الضمائر الحية أكتب هذه الاسطر، ومنكم أنتظر العمل والتغيير. {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً }مريم25
بقلم: محمد سجيد/ زاكورة
[1]: نقصد بكلمة معلم معناها اللغوي العام، الذي يعني من ينقل معرفة إلى تلميذ في أي مستوى (ابتدائي أو ثانوي…)
[2] : وصلت بعض الأحداث إلى درجة الإجرام، كالطعن بالسلاح الأبيض، والضرب المبرح، والاعتداء الذي يخلف عاهات دائمة…
[3]: كثيرة هي المقالات في الموضوع، إلا أن اغلبها يربط الأسباب بالفقر والعامل الاجتماعي والانحراف والجنس وضيق المنزل والرغبة في الحصول على نقط جيدة… ونسي أصحابها أن أغلب هذه الأسباب إنما هي نتائج لمسبب آخر. كما سنبين بحول الله. لأن المدرسة المغربية في عهد ما لم تكن تعرف ظاهرة العنف، مع وجود أكثر تلك الأسباب التي عزا إليها أولئك الظاهرة. إذن فلنبحث عن شيء آخر، مع ضرورة التحلي بقليل من الشجاعة والرغبة في التغيير.
[4]: يحكى أن هناك رجلا ذا مال، وكان له ولدان يسمى أحدهما “الخصوصي” ويدعى الآخر “العمومي”. يعطي أحدهما مالا ويهتم به أكثر من أخيه. وكان يقول لهما أكثركما انتباها لنفسه واعتناء بحياته أقربكم مني، وله جائزة ثمينة جدا (قمة النزاهة والعدالة). الابن الذي يأخذ مالا أكثر “الخصوصي “يستطيع الاعتناء بنفسه وأن يوازن بين متطلبات الحياة. بالمقابل كان الابن الآخر “العمومي” يحار في أمره، فالمال الذي يأخذه لا يكفيه للاعتناء بنفسه ولا للقيام بأمر آخر ، ولا يسمح له بتلبية كل حاجياته. فيبدو أمام أخيه حقير القدر قليل الشأن. وعندما يحين وقت الحكم العلني يتباهى الأب بابنه الأول ويعتني به أكثر وأكثر ويمنحه جوائز أخرى. فأنى يساويان!؟
[5]: ساكسونيا هذه منطقة ألمانية قديمة وكان الظلم والجور عاملا مؤثرا في قوانينها، إذ كان الأغنياء والأمراء وأصحاب الجاه والحسب والنسب، إذا أخطأوا أو قاموا بجرم يعاقبون ظلهم. بينما إذا أخطأ الفقير والحقير أو أجرم عاقبوه أشد العقاب. كما كان الأغنياء كذلك يذهبون إلى المدرسة للتعلم ويأخذون معهم عبيدهم، فإذا أخطأوا يعاقب العبيد بدلهم. وهكذا يسلم الوجهاء على كل حال.