الوطنية المغربية بين اختبارات الماضي و إكراهات الحاضر

0 741

عبد الكبير بران –

هناك ما يكفي من الحجج الدامغة لطرح مثل هكذا قضايا للنقاش و في هذا السياق تأتي هذه المساهمة من أجل إغناءه، لكن دعونا أولا نبسط أرضيته بتشريح على مستوى جهازه المفاهيمي بالتساؤل عن ماهية الوطنية، ولا يجدر بنا أن نقول هل للسؤال معنى، نسجل فقط أن مفكرين عددين طرحوه منذ سنين وأظهروا في معالجته نشاطا يستحق الإعجاب، وعندما ندرس كتاباتهم نلاحظ أن السؤال حول ماهية الوطنية يدور في واقع الأمر حول مفهوم عريق يختزل و يتداخل في ثناياه المادي بالرمزي ، عن معطى ثابت في بنية الانسان لا يعرف منطقا للتغير بقدر ما يتفاعل بدينامية تنسجم مع مستجدات أي مرحلة .
ولا يجب فهم الوطنية واختزالها في حركة سياسية محددة في إطار كولونيالي بل تتجاوز هذه المفهمة التي تجعل منها تكتيكا سياسيا مرحليا أو حركة سياسية و ثقافية ينحصر مجال عملها و تدخلها في المرحلة الكولونيالية، لأن وراء هذا البعد المرحلي تختفي قوة ايديولوجية متجدرة في النسيج السوسيوثقافي للمغرب تعبر عن الكينونة المغربية التي تظل سارية في الزمن كمضمون روحي له صبغة تاريخية عميقة ، إنها المناعة المضادة لأي فيروس يهدد الوطن سواء من خارجي كان أو داخلي.
سبق للحس الوطني المغربي أن اجتاز أكثر من اختبار في ما مضى ونجح في حضر الوصاية التي كانت تمارس على المغرب ، وحضرت الوطنية على شاكلة احتجاجات وطنية كذلك لمجابهة العديد من الاستفزازات التي طالت المجتمع المغربي، إذ وقف المغاربة في 1965 ضدا على عبث الجهاز الدولاتي في 23 مارس على خلفيات صدر مذكرة 19 فبراير عن وزارة التربية و التعليم القاضي برفض تسجيل تلاميذ الذين فاقت أعمارهم 17 سنة في السنة الثانية من التعليم الثانوي ، والذي تزامن مع تسريحات جماعية عمالية في قطاعات عدة تجارية و صناعية في 18 من فبراير ولم تفلح الروايات الرسمية في التعتيم عليها و كبح جماحها أو حصر منطلقاتها الجغرافية بحيث تجاوز الفعل الاحتجاجي الدار البيضاء إلى مدن أخرى كمراكش و الرباط وفاس و مكناس …و في هذا السياق نعرج على احتقانات ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، بدءا بثورة 20يونيو 1981 بعد قرار المحاكم المغربية الزيادة في أسعار المواد الاستهلاكية ومرورا بانتفاضة يناير 1984 كنتاج موضوعي لسوء الأحوال السياسية و السوسيو اقتصادية و انتهاء ب حدث 14 من دجنبر 1990،.
عموما كان لهذه الاحتجاجات قواسم مشتركة تمثلت في وحدة مضمون الشعارات المرفوعة من قبيل رفع التهميش الذي طال المغاربة وإحقاق العدالة الاجتماعية والاقتصاص من الدولة المسؤولة عن نضج الشروط الموضوعية للفعل الاحتجاجي الذي يعكس في استمراريته عبر مراحل تاريخية أن الدولة تعتمد مقاربة تقوم على إعطاء مسكنات وجرعات دوائية أنية لداء سياستها الاستبدادية.
و من الواضح جليا أن هبوب رياح الربيع العربي بعثت الروح مجددا في هذ الحس الوطني الذي أنهكته تجارب الاختبارات السالفة الذكر و قرر مغاربة المغرب إذكاء روح الوطنية من جديد من خلال رفع ورقة الرحيل في وجه رموز الفساد و الوعاء السياسي الذي يحتويهم، لكن الوضع مختلف نظرا لازدواجية التحديات ، مقارعة النسق السياسي أولا و تاليا أن البعض عمل على إلباسها عباءة حركة بعينها من خلال إطلاق تسمية 20 فبراير و هو ما يفسر في العمق الاتجاه نحو وضع سقف معين للمطالب و كذا محاصرة الناشطين لتسهل عملية الانتقام منهم فيما بعد ، على شاكلة انتقامات النصف التاني من القرن الماضي التي تراوحت بين الاعتقال التعسفي و القتل العمد بطريقتين مباشرة عبر الضرب المفرط أوغير مباشرة في شكل اغتيالات طالت مناضلين كبار ضحوا بذواتهم من أجل دخول التاريخ ووجدوا أنفسهم خارجه بعد ما تكلفت الأقلام المخزنية بتدوينه .
كانت نتيجة الهزيمة بعد الحراك تحصيل حاصل بالنسبة لمن يستنطق الذاكرة المغربية التي أبانت عن خصوبتها في استقراء تاريخ الحركات الاحتجاجية في ظل صمت المصادر التاريخية و مساومة المنابر الاعلامية اللاوطنية، بيد أنها تعد صدمة في نفس الوقت لمن لا يملك أدوات تحليل ملموسة للواقع.
هي نتجية متوقعة لأن تجزيء المعارك أو كثرة الأعداء يمكنها أن تضعفك حتى و إن كنت قويا، وهذه القاعدة تنطبق على الفساد ،هذا الأخير وحدة غير قابلة للتقزيم أو التقسيم، لذلك يفترض محاربته قلبا و قالبا .
في مقابل ذلك انتشت الجهات الرسمية بانتصارها في معركة لم تنتهي بعد و أخدت تحتفي بترويج مقولات كالاستثناء المغربي ، و موضوعة الانتقال الديمقراطي في ظل الاستقرار أي دون خسائر خلافا لما ساد في ليبيا و تونس و مصر …إلا أن هناك مفارقة تكشف عن لامصداقية ما يشاع ، فتتبع المشهد السياسي لهذه البلدان سيلاحظ أن أحزاب المرجعية الدينية فيها و أن كانت قد وصلت إلى دواليب الحكم فهي لا زالت تراعي إلى حد ما الفاعل الحقيقي الذي أوصلها الى تلك السدة ، و لها الجرأة في إعلان فشل برامجها لقيادة المجتمع نحو الرقي و الازدهار فمثلا تراجع الرئيس المصري عن إسقاط دستوري وتبني الخط الديموقراطي للحسم في نسب مدى قبوله أو رفضه من لدن المصريين ، و إن كان في العملية ما يدل على فقدان قوة سلطوية فرضته المرحلة إلا أنه ينم من ناحية أخرى عن وعيه بأن زمن تقديس مقررات تدبير الشأن الوطني التي تصدر عن الحكام قد ولى بفضل قوة الجماهير بعفويتها لا القيادات السياسية بتنظيمها.
على عكس ذلك نجد حزب المصباح الذي انتحر في عز الظلام يتباهى بجرأته في توظيف المرجعية من أجل تخدير الشعب ، على أن يحضا بثقة القصر بقراءة معكوسة تناقض خطاباته ما قبل تسلقه اعالي هرم السلطة و مناصب القرار، وها هو سار في نفس نهج من كان ينتقدهم من قبل ، حتى ان هناك من الباحثين في الخطاب السياسي من يقارن رئيس الحكومة عبد الاله بن كيران بعبد الرحمان اليوسفي صاحب تجربة التناوب أن على مستوى المرحلة و تحدياتها أو الرهانات المطروحة مما جعل هؤلاء المقارنون يتنبئون بأن التاريخ سيعيد نفسه ، وهو ما تؤكده ممارسة السلطة لدى الفرقاء في الاغلبية الحكومية ، فهل سيسبح المغاربة في النهر مرتين و ينتظرون حتى يقفون على وضع وقفوا عليه مند عشر سنوات ؟
و هي ماضية في نفس الطريق لأن رئيس الحكومة بنى رموز الفساد على المجهول ، و في أقصى ما أمكنه فعله نصب نفسه قاضيا في محكمة الشعب و أصدر قرار بالعفو عنهم ، ماضية لأن التقارير حول وضعية حقوق الانسان كانت كارثية ، وأن المقاربة القمعية التي واجه بها المخزن الحركات الاحتجاجية التي اتينا على فصل القول فيها لا زلت معتمدة في الزمن الراهن وخير دليل على ذلك ما يتعرض له المعطلين والهيئات النقابية من انتهاكات في الرباط من ناحية وما يعانيه المغاربة من تسلط في مناطق عدة من المغرب امضر و بني بوعياش و تازة و قس على ذلك من ناحية أخرى هذا وأبدعت الحكومة شكل أخر من أشكال العنف الرمزي عبر الاقتطاع من أجور المضربين في تنــــــاقض حـــــــــدي مع حق الاضراب المشروع دستوريا و ضاربة بعرض الحائط المواثيق الدولـــية .
وهي كذلك لأنها أيضا جعلت من ثروات هذا البلد و شعبه رهينة للابناك الاوربية بعد حصولها على قروض أخرى بفوائد كبيرة و هي التي كانت تندد بهذه المقاربة الربوية ، و هذا مؤشر على أن أرقام السنة الفارطة المخيفة ستبقى على ماهي عليه ، إذ تحاول الحكومة المغربية الحفاظ على الاستقرار و تعمل على تسييد خطاب يجعل من مقولة حالة الخزينة العامة غير مريحة أمرا عاديا و مقبول، فهل سيرضى المغاربة بأن تبقى الأمور على حالها الذي يعبر ضمنيا عن بقاء المغرب في ذيل الترتيب سواء في مستوى التنمية البشرية في تصنيف التقرير الدولي التابع لبرنامج الامم المتحدة للتنمية و كذا في تقرير المنظمة العالمية للشفافية “ترانسرانسي ” و الذي كان قد صنف المغرب في رتبة 85 قبل سنتين ، كما يعني ترك ثروة المغرب متمركزة في يد شركات القطاع الخاص التابعة للهوليدينغ المخزني، في حين أن أكثر من 10 مليون مغربي لا يتجاوز دخلهم 10دراهم و أن نسبة الفقر تتراوح بين 15% و 35% و عدد المتسولين فاق 500 ألف متسول و أجور الموظفين بفوارق ساحقة .
ماضية في نفس الطريق لأن الحكومة تنوي الزيادة في المواد الاستهلاكية على غرار ما فعلته في المحروقات التي اعتبرت بمثابة جس نبض الشارع ، و كون أمثال الماجدي و الهمة وهم ليسوا تماسيح و لا عفاريت و غيرهم من ناهبي خيرات الوطن ممن طالب الشعب بمعاقبتهم و محاسبتهم قبل رحيلهم لا زلوا في أماكنهم بل منهم من تعزز رصيده في السلطة ليصبح مستشارا في مؤسسة المخزن ، مما يعني أن الصراع ليس صراع دائر حول أشخاص بقدر ما هو صراع بين مؤسستين مخزن / شعب واحدة للأمر و أخرى للطاعة طوعا أو كرها .
و إذا كان الأمر هكذا فحكومة حزب العدالة و التنمية و شركائه من الاكراهات التي تعرقل مسار المغاربة في اتجاه تحقيق غاية الوطنية ، هي إذا من جاء دوره ليمتحن وطنية المغاربة بالنيابة عن المخزن الذي اعتاد وضع درع دفاعي يتكون من أحزاب تفتقد للشرعية الشعبية لتحصين ذاته ، بما لا يترك مجالا للشك أن المخزن عبر صيرورته التاريخية لتجاوز الازمة التي تعد محصلة بنيوية فيه و دورية في الان ذاته يلجأ دائما إلى تهيئ ورقة لكل مرحلة ،و منه نستشف بلغة الاوراق بأن العدالة والتنمية ورقة اليوم الرابحة ستصبح ورقة الغد المحروقة لا محال.
بقلم : عبد الكبير بران

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.