الأفق المغربي بين فكي : النيوليبرالية والأصولية
لقد انتهى بنا المآل في المغرب،إلى وضع دقيق جدا،تجذبنا فيه منظومتان، لاتقل إحداهما عن الثانية خطورة،يتعلق الأمر ب :النيوليبرالية أو الليبرالية المتوحشة بصريح العبارة،ثم التطرف الأصولي. مقابل تراجع جلي، لاغبار عليه، لمبادئ الفكر الأنواري وحيثياته القيمية والنزوعات العقلانية التنظيرية، التي راهنت دائما على مركزة الذات الإنسانية، في قلب المنظومة المجتمعية، كلبنة أولى لمختلف التأسيسات.
النيوليبرالية والأصولية،وجهان لعملية واحدة. ذات السبيل، لكن فقط مع اختلاف في التفاصيل.تتآكل معهما، مثلما ينخر السوس الخشب،كل المقومات الوجودية الكبرى والكيفية، التي لايمكن لحياة بشرية كريمة وخلاقة وسوية وسامية،الاستقامة بدونها.إنهما، نتيجة ارتدادية،في مسار مجتمعي أخفق لأسباب سياسية وثقافية،وماتقتضيه من تبعات أخرى،على إيجاد الوجهة السليمة والطريق المناسب.
النيوليبرالية هي الجشع، والمال السهل،والتفاهة، والتحقير،والحقارة والعطالة، والسطحية، والتخلف الذهني،والمظاهر الزائفة،والثراء المادي الفاحش، والتبذير، ومص دماء الضعفاء ، وتسليع كل شيء،واللوبيات الشرسة،والاحتكارات، وانهيار القيم، ومأسسة الاستغلال، وبنينة التضليل،وشبكات السماسرة، والوكلاء ،والوسطاء، وتكريس منطق القوة، والعنف، والنخاسة،والوصولية، والانتهازية،والقوادة،والدعارة، وأطفال الشوارع،والجريمة،والجهل، والأمية، والعلاقات العمودية، والولاءات العنقودية المشخصنة،والديناصورات، والأسياد، والحيتان، والصيارفة، والعجول السمينة التي تعلف بملاعق من ذهب،والعبيد، والجياع، والخرافات، والارتزاق،والوهم، والاقتيات من قمامات الأزبال،والأمراض الفتاكة والموت الذي يدب في كل مكان… .النيوليبرالية،هي اللا-إنسان واللا-مبدأ واللا-أخلاق،شعارها الوحيد من يملك المال، بوسعه تملك كل شيء.
من جهتها الأصولية،هي ذات مبتدأ ومنتهى ربيبتها الليبرالية المتوحشة،إنها بلغة التحليل النفسي الفرويدي،تجسيد للنزوعات التاناتوسية الهدامة،التي تقف في الجهة المقابلة كليا،للبواعث الإيروسية أي تجليات الحياة. الأصولية، انتكاسة نوعية، وإخفاق راديكالي، وفشل ذريع، وتعديم للتاريخ والبيولوجيا.الأصولية، وعلى منوال ذات ترتيب صفات الليبرالية المتوحشة،استلاب، وفكر جاهز، وفقر روحي، واستخفاف بذكاء الآخرين،وتوثين للبشر كالحجر،وجماعات المصلحة،والفئوية، والعقائديات الاستبدادية، وقتل للحس البشري،ومأسسة المشيخة، والديكتاتور، والتابع، وبنينة الغباء، والطائفية، والشوفينية، والتوتاليتارية، وتعميم خطاب القتل،والعنف، والاحتفاء بالتخلف، والوصولية،والعلاقات العمودية، والولاءات الصنمية، والعبودية، والسطحية، والأوصياء، والأسياد،ومالكو الحل والعقد،وشباب الموت،والأخيار، والأشرار،والتقاة، والضالون، والآمرون، والمأمورون،الصفوة، والأرذال،… .الأصولية هي اللا-إنسان واللا-كرامة واللا-عقل.
ربما،الفارق الطفيف بينهما،يحيل إذا أردنا على المعطى الزماني لكليهما.فالنيوليبرالية،أضحت بالمطلق واقعا قائما،مع التكرس الأحادي المعاصر، لنسق العولمة جراء وصول التطبيق البيروقراطي للاشتراكية إلى الباب المسدود،حتى لا نقول النظرية والمنهج في تحديداتها المعرفية الخالصة.أما الأصولية،فهي ضاربة بجذورها في القدم، ولاترتبط تأويليا بالثقافة الإسلامية، كما يظن عموما،بل بكل الديانات والقوميات.
نعم، نعيش في المغرب بين ممكنات مطرقة النيوليبرالية وسندان الأصولية.الاستهلاك الأعمى،والتسطيح العقلي :دعه يلهث وراء أي حاجة، دون أدنى روية،من الوجبات الغذائية السريعة إلى الشرائح الهاتفية،وتصورات العالم،مرورا بالمواعظ التنويمية الأفيونية،المشبعة بالتبريرات للسياسة الرسمية،لفريق من نجوم الدين يملؤون أدعية وبركة وتبريكا وإيمانا،الأثير المرئي والمسموع، من أجل استتباب ركائز البنية بالقوة الناعمة، الهادئة، وصولا إلى فريق ثان من “عباقرة الطب النفسي والعقلي”،يحتلون بدورهم الواجهات الإعلامية.أغلبهم،يؤدي ضمنيا لعبة الوكيل التجاري والمستشهر، دفعا إلى الأمام، بالبيزنس والتسويق،لاستمرار عملية الطحن الاستهلاكي،خلف يافطة ”المداواة النفسية”والتنفيس عن ضغط قهر مجتمعي، بالتداعي الكلامي،لاسيما مع اضمحلال القيمة الرمزية لمؤسسات التأطير التقليدية،الماسكة بالتوازن السيكولوجي، لدى مايسمونه بالجماهير، في علاقتهم بالآليات الاعتباطية للسلطة.
إن المغربي، وهو يقضي يومياته، تائها مترنحا، داخل ذات الحلقة الجهنمية،موزعا من رأسه حتى أخمص قدميه،كي يتدبر أمر القروض والسلفات المتراكمة المسلطة على رقبته،دون أن يخالف من جديد موعده المقدس،مستلهما أكثر دواعي التباهي ”المانح”لمشروعية التموقع المجتمعي :الفيلا، السيارة آخر موديل،الزوجة، الأولاد، الهواتف الذكية،الحواسب غير الغبية،المدرسة العصرية،الخادمة،الأجهزة الاليكترونية،مستجدات المحلات التجارية الكبرى، الغذاءات، العشاءات،المقاهي،المطاعم، الويكاند،أسفار العطل الصغيرة، رحلات العطلة الكبيرة،رمضان و”شهيوات الإشهار”،الخروف-الوحش،السيارة ثانية “الحَوْلية والتِمْساحة ”،عاشوراء، السنة الميلادية،…وهكذا دوليك.دورة عبثية بلهاء،سرمدية،مكلِّفة ماديا،وبلا معنى،لايتوقف المستهلكون، عن التأفف منها، حميميا أثناء جلساتهم المسائية،لكنهم لايملكون أبدا الشجاعة الأدبية، للتخلص من براثنها، صبيحة اليوم التالي.
إنها نسق الليبرالية المتوحشة،المهيمنة فكريا وجسديا وحسيا وحدسيا وواقعا وتطلعا،الموجهة لاواعيا لآليات الوعي، بسلط ”ناعمة”،تشتغل بقفازات حريرية، وعصا سحرية. الاستهلاك ثم الاستهلاك فقط،لا مجال بتاتا لالتقاط النّفس،من أجل تحسس نقطة ضوء وحيدة،بوسعها انتشالك، للحظة من نواة الطاحونة الفرنكشتانية.
“استهلك واستهلك،نحن نهيئ لك، أيسر السبل :ماذا تريد؟ قروضا؟تفضل،مجرد إشارة بسبابتك ،وقد فتحت أمامك مغارة علي بابا”،هكذا تثير الوصلات الإعلانية،ثم تنطلق المنظومة التعبوية للاشتغال دون هوادة وبغير رحمة.