الأمن الفكري
من بين المفاهيم اللوجيستيكية التي غذى توهجها،مجريات الربيع العربي،ونوعية النتائج التي بلورها حتى الآن،نصادف تصور الأمن الفكري،باعتباره استراتجية مجتمعية رفيعة وسامية ومهذبة،تحاول تجاوز الأخطاء العدمية،المترتبة عن الهواجس الأمنية الخالصة المستندة على الرادع القمعي،كما طوره الاستبداد لعقود طويلة،بهدف إركاع الشعوب والتحكم في آمالها و آلامها.
جميعنا يعلم،أن تركة الاستبداد ثقيلة ومهولة،تُختزل في توصيف قانوني،جامع مانع،يعتبر ضريبة هاته الوقائع،ارتباطا بمؤشرات كل اللغات والأعراف والتقاليد،جريمة في حق الإنسانية. قٌضى جينيا،على ينابيع العقل والتفكير،وأفرغ المضمون البشري مفصليا من زخمه الوجودي،لصالح كل ماتطويه منظومة الغباء والرداءة.
بقدر،مايعتبر ارتداد ونكوص،الربيع العربي مسألة جد طبيعية وعادية،لأن الثورات لاتستقر بين عشية وضحاها،بل يحتم المسار معركة طويلة على جميع الواجهات،فكرية وعسكرية ونفسية ومجتمعية واقتصادية.فإن،مايتبدى على السطح حاليا،من طائفية وإرهاب وقتل وتعصب وعماء…،يشكل امتدادا بكل الصيغ لركائز الدولة الشمولية،التي أقامت وكرست بالحديد والنار،أفق التوتاليتارية الكليانية،التي تمحو أبسط شرارة لممكن الاحتمال الذي تبناه حتى الدرس الرياضي كأقصى تجسيد لليقين،بالتالي شرع أهل التخصصات الدقيقة،يدخلون في تأويلهم معادلات الارتياب والتنسيب،فكيف بنا،عند التحول إلى القضية المجتمعية،حيث الإنسان بكل تعدديته اللانهائية؟
قد لا أبالغ تقديريا،إذا صنفت إلى صنفين من خلال المعاينة الميدانية،تلك الأجيال التي نعتبرها ثالثة أو رابعة،بعد جيل الاستقلال وتابعه،وقد انتهت المجابهة المفتوحة بين الاستبداد ومكونات النخب،إما بالقضاء على الصنديد منها،أو إرشاء وشراء لذمة ضعيفها،ثم تغول لمختلف السلط الأمنية والاستخباراتية،وأدلجة استنزافية لمؤسسات الدولة.أقول،بأن الولادات التي التهمت بالمطلق مراحل نمو كينونتها،إفرازات وقع يتنفس بكل جوارحه،ظلما وفسادا،لم تنزح عن كونها :أصولية أو وصولية.
أقصد بالأولى،المتحجر العقائدي،قد يكون بالمناسبة متدينا أو غيره.أما الثانية،فتحيل على فئة لاتؤمن قطعا بأي شيء،لكنها في المقابل،قد توظف أي شيء بهدف الوصول إلى تحقيق مصالحها الانتهازية الخاصة.
حتما،ومع غياب مخططات عاجلة للأمن الفكري،ستشكل الوصولية والأصولية،عقبة كأداء أمام بناء سهل لمجتمعات مدنية، تقطع مع ظلمة دهاليز وسراديب الاستبداد.أضحت مجتمعاتنا العربية،عنيفة جدا.عنف،تراكم متواريا لسنوات،باعتباره جلدا صامتا للذات،العاجزة عن مجابهة سياط الحاكم.هكذا،سيخلق بداية الأثر السحري لنسيم الحرية،ردة فعل هستيرية لدى المحرَّرين،غير مضبوطة،مادام هؤلاء لم يعرفوا في يومياتهم،إلا تطرف البعد الواحد و أقصى جهة دون غيرها،كما أن التربية التي تشبعوا بها على امتداد قنوات منظومة الاستبداد،لا تستحضر بتاتا مرجعية تسمى بالعقل،بل فقط التفاني الأسطوري،بكل تمثلات اللا-عقل،في عبادة حاكم يملك مفاتيح السماوات والأرض.حاكم فوق بشري،مظهره آدمي بجوهر إلهي.لذلك،عندما يسقط هذا الإله ،فالنظام الناسوتي،مصاب لامحالة بالخلل والفوضى.تحضرني،هنا مقولة دوستويفسكي،وإن في سياق مغاير :”إن لم يكن الله موجود،فإن كل شيء مباح”.إذن الديكتاتورية، أو الانهيار والفوضى؟؟؟.
في هذا الإطار نحت القاموس السياسي المعاصر،تعابير رفيعة تعكس مستوى التطور الذي بلغته العلاقات المجتمعية،فيتحدث الخبراء مثلا عن أمن المعلومة،والأمن البيئي،و المائي،والغذائي،والثقافي…،لكننا داخل العالم العربي،لازلنا بعد عند حدود الإشارات الأولى،التي تدعو لمجابهة المجتمع الغوغائي،بكل ما يظهره ويضمره،من حقول ممتلئة بالألغام،قابلة جميعا للانفجار خلال أية لحظة،وبأقل هفوة حسابية.يتمثل الرهان التاريخي،في التحصين العقلي والذاتي،الذي يقود إليه عبر شتى السبل،الأمن الفكري.
جعل الاستبداد من كل شخص، شرطيا يترصد أنفاس جاره.الأخير،بدوره عينه لاتنام،مترقبا شهيق وزفير جاره الثالث،وهكذا دواليك.فكانت تصرف الميزانيات الضخمة،بغية ملاحقة الجميع لهذا الجميع بما فيهم الأطياف والأشباح والحجر والشجر،حفاظا على طمأنينة البلد وهناء الرعية.هناك طرفة موصولة بالمقام،تتفكه بحكاية المسؤولين العرب الوحيدين اللذين اتفقوا باستمرار واجتمعوا بشكل دوري من أجل تفعيل وتحيين مقرراتهم،إنهم وزراء الداخلية.غير هذا،بقي حبرا على ورق ومجرد أفلام محبوكة لغوية، لاأكثر.
لقد أكدت التجارب التحديثية المتطورة،أنه عندما تفتح أبواب مدرسة جيدة بالمعنى الملهم والموحي للدلالة،فقد أغلقت بالضرورة نوافذ جهنم. إقامة مدرسة تعلم،سيحطم في الجهة الأخرى سجنا أو مركزا تقويميا لإعادة تأهيل الأحداث،والعكس صحيح.
إذن،عندما تشغل المعرفة المهيكلة لصناعة العقول،بؤرتها الجديرة بها وسط المجتمع،فهذا ضمان لصيرورة وترسخ الأمن الفكري،الذي يمنحنا مواطنا سويا، قادرا على مساجلة ذاته ومحيطه والعالم.