الصداقة المثالية بين ” الوجود و العدم”
مخطئ من يعتقد أن الصداقة مهما اعتبرها “مثالية” تخلوا من المناوشات و من سوء الفهم، فالإنسان كتلة من العواطف و المشاعر التي تطير به كالطيور بين السحاب فرحا، أو تنهار به انهيار الطبيعة لغضبها لكلمة، نظرة،أو فعل مهما بدا بسيطا.
إن الانسان سجين قوى خفية تتحكم فيه، و تقود سفينة حياته، و هذه الاخيرة معرضة في أية لحظة الى زوابع ، أمواج قد تغير مجرى مراكبه ، نتحدث عن المثيرات الخارجية التي لا يعرفها إلا من مر بها أو صادفها في مسيرته الحياتية.
إن هذه المسألة -مهما بدت بسيطة و تافهة- لا تخلو من نصيبها من الاهمية ، و هو ما يعطيها الشرعية التامة لاستفزاز بعض جوانبها بهدف اعتصار مجموعة من الأسئلة :
أهناك فعلا صداقة دون مشاحنات بين الطرفين ؟
ألا تعتبر هذه الأخيرة -إن كانت فعلا موجودة – حجاب يعري واقع مجموعة من الأشياء لدى كلا الطرفين؟
ألا ينتج عن ذلك إذن توطيد العلاقة أكثر من وضع حد لها ؟
و في الأخير ما هي مقومات نجاح أية علاقة مهما كانت؟
ليس من الغريب أن يتمسك كل طرف بصدق رأيه ، بل من الطبيعي جدا أن يلعب دور المظلوم متنكرا بذلك لقناع الظالم مادام يملك من الحجج و الأدلة ما يجعله مقتنعا برأيه حتى النخاع ،و ناظرا للآخر كأنه جلاد لا يعرف سوى -لغة السوط – المتمثلة هنا في الأحكام المسبقة ، و الخطير في الأمر اتخاذ قرارات في ظل هذا الجو المشحون بالانفعال ، رافضا ان يعطي للطرف الآخر و لو الوقت الكافي للتفكير و مناقشة الأمر ، بل جاعلا إياه يطلب الانسحاب بعد أن اغلق في وجهه كل محاولات التفاهم.
إن انطلاقنا من التجربة الذاتية للمسألة ليس بهدف الاستعراض العضلي للذات ، تبرير أشياء قامت بفعلها ، أو إظهارها إما في قناع الظالم أو المظلوم ، بل بالأحرى الانطلاق من مثال حي يكون براهين دامغة لصدق ما نقول . لا يمكننا الحديث عن صداقة بين طرفين مهما كان نوعها أن تخلو من هذه الأزمات مادام هناك مثيرات خارجية تختبر أعصابنا، و مادام كل واحد منا (أكثرنا) ينظر إلى مصالحه الشخصية أكثر في علاقته مع الآخر ؛ لكن ماذا إذا كان هناك من يفقد أصدقاءه في الوقت الذي كان ساعيا فيه إلى مساعدتهم ، أو لقضاء إحدى حاجياتهم؟
من المنطقي أن نفترق للحظات، لساعات، بل إن اقتضى الأمر لأيام ؛ أقله لإعادة مراجعة تصرفاتنا و تحليلها مع ذواتنا و بالتالي دراسة النتائج التي ستؤول إليها ؛ لكن هذا لا يعني _إن افترقنا_ أن نقطع العلاقات الانسانية بصفة نهائية ،لأن الانسان “كائن اجتماعي بطبعه”، أي أنه لا يستطيع العيش بمعزل عن الجماعة؛ و إلا سيكون بطريقة أو بأخرى عرضة للإقصاء الاجتماعي؛ أقله من الطرف الآخر و ربما أيضا من المحيط الأقرب إليه، فما بالك إن كان الطرفين تجمعهما رقعة واسعة داخل المحيط ، علاقات بيشخصية متداخلة فيما بينها و لاسيما اهتمامات مشتركة و متقاطعة فيما بينها .ليس من حقنا إذن أن ننكر وجود وسائل سلمية أو ظروف قد يمر منها أحد الأطراف ، تمهد لفتح نقاش و حوار جديدين باحتكامنا إلى القوة الخفية الثانية بعد العقل- ألا و هي القلب – الذي تحفزه الذاكرة لسرد و تذكر ماض مشترك بين الطرفين .
إن هكذا صراعات من حين لآخر- شريطة ألا تكون مصطنعة – هي لعمري مدرسة كلها تجارب : أولا تعري الواقع عن مشاكل الطرفين و تختبر مدى تحملهما لسلوكيات ، تصرفات بل و ألفاظ الطرفين فيما بينهما، بل و تظهر الوجه الآخر لكل طرف في العلاقة و كذا مواقفه الشخصية ، و بهذا تساهم في خلق أرضية خصبة لتوطيد العلاقة بينهما إذا وفر المحيط الأجواء المساعدة على ذلك ،و تعلم أيضا دروس و تعطي عبر بهدف الاقتداء بها مستقبلا كتفادي اتخاذ قرارات بيمصيرية في حالات الانفعال، و كذا مراعاة مشاعر الطرفين لكليهما و تفهم الظروف الممهدة لهكذا مناوشات ، تبني الصراحة و الوضوح في علاقتنا مع الطرف الآخر ثم التجاوز المتبادل لأخطاء كليهما ، و أخيرا الالتماس المتبادل للأعذار بينهما.
باختصار ، فالعلاقات الانسانية لا يحكمها العقل فقط ، بل واهم من يدعي ذلك ؛ فهي لا تخلو من فترات أزمة تحيل حلاوة الحياة مرارة ، لكنها تعطيها طعما جميلا بتكسير الجمود داخلها ، و إلا فما معنى أن نعيش وفق نمط جامد لا يعرف الحركية و الدينامية؛ التقدم تارة و السقوط طورا، ثم النهوض و الاستمرار بعد ذلك ؛ إذا لم تكن حياتنا ” مختبرا ” نخرج منه بنتائج بعد القيام بتجارب تكون فيها الأولى – أي النتائج – المثل أو الطريق الذي سنكمل عليه المشوار أو المسيرة الحياتية فهي أصلا ليست بحياة ، فالعلاقة أولا هي تفاهم ، إن انعدام التفاهم بكل معانيه في أية علاقة لا يمكنها أن تستمر مهما امتلك طرفيها من “الكمال” ما يضرب به المثل ، فأن تكون “صديقي أو حبيبي” يعني أن تكون أولا و بالضرورة نسخة تقريبية لاهتماماتي و أفكاري ، و العكس صحيح بالنسبة لي تجاهك ،أقول نسخة تقريبية لأن القليل من الاختلاف داخل العلاقة يخلق نوع من التمايز و بالتالي خلق أرضية خصبة لثنائية التأثير و التأثر؛ هذه هي إذن “المعادلة الرياضية” لنجاح أية علاقة مهما كان نوعها .
أحسنتم ، فالصداقة فن قبل أن تكون مجرد علاقة
علاقة التأثير و التأثر في العلاقات الإنسانية بشكل عام، يمكن إدراجها ضمن خانة التكامل بين الطرفين المعنيين و ليس ضمن خانة السيطرة و الاستعباد. فلا يمكن إيجاد علاقة على أرضية الواقع خالية من لحظات الاهتزازات و الارتجاجات، لحظات يخلو فيها احد الطرفين بنفسه نائيا و رافضا العالم و ما حوله نظرا لما يعيشه من تناقضات ذاتية مع ذاته و مع العالم الخارجي، و إلا لكنا نتحدث الآن عن علاقة مصطنعة يشوبها الكذب، يحاول فيها احد الطرفين أن يقنع الطرف الأخر بمثاليته و انه بذلك شبيه المدينة الفاضلة معلنا بتصرفاته الزائفة الخاضعة للآخر المسيطر انه كشخص موجود لا يكمن فيه أي عيب أو شيب و هذا زيف و تمثيل، إذ إننا في هذه اللحظة أي في هذه النقطة بالذات لا نتحدث عن علاقة بين كائنين مختلفين اختلافا جليا: إما شكلا –أي اختلاف جنس الطرفين- أو مضمونا-أي جوهر الشخصية: الهوية التي تجعل كل واحد منا مختلف و متميز- بقدر ما نتحدث عن تمثيلية متقنة الفصول و الأدوار يكون أبطالها أناس يتقنون اللعب على أوتار عقول مفكرة متعبة و قلوب مبعثرة.
و منه نخلص إلى أن كل علاقة تجمع شخصين تعني تعرضهما بالضرورة لأوقات خلل و شلل توقف نبضات العلاقة و لو مؤقتا. تجبرنا –باعتبارنا كائنا بشريا مفكرا-على التوقف عند أبواب النقص و الكمال لدى كل طرف على حدا و تحليل مدى قوة هذه العلاقة و ضعفها، و إذا ما كان احد الطرفين قادرا على حمل الراية البيضاء و الانسحاب عند أول مفترق طرق أو مدى تشبثه بواقعية هذه العلاقة التي لا يمكن إيقافها عند هذا الحد بل نتجاوزها إلى حد الاستفسار و المناقشة باعتبارها الخطوات الأساس لمعالجة الخلل من أصله و ذلك بتصحيح المفاهيم و المغاليق المترسبة لدى الطرفين و من خلالها نصل إلى قاعدة التفاهم التي تفضي إلى تقبل الأخر باختلافاته و تناقضاته؛ وليس التسرع بإغلاق ملف هذه العلاقة و رميه في أرشيف الذاكرة المنسية باعتباره شيء ولى و مضى و إنما رسم حدود جديدة لوطن جديد يمكننا تعميره بما نشاء من لحظات مستقبل سيوحد فينا مشاعر الصدق و الصداقة.
مشكورين جدا على تفاعلكم مع الموضوع
تحياتي ومحبتي
تحياتي ومحبتي
3alyan jidan Mr ysf