الصوم، محمية للفطرة

0 471

     الصوم عبادة باطنية، وسر من أسرار الله تعالى بينه وبين عباده؛ وشجرة طيبة مباركة جذورها النية وأغصانها فضائل الأعمال وثمارها الثواب، فعن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ:” كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ. “، متفق عليه. الصوم مدرسة الصبر، والصبر درجات ثلاث: صبر على معصية الله( الصبر على الشهوة)، وصبر على طاعة الله( الصبر على العبادة)، وصبر على أقدار الله الشهوة (الصبر على العباد). وإدراك هذه الدرجات يكون ذلك: يكون بالتخلي عن طاعة النفس، والتحلي بطاعة خالق النفس، وتجلى ذلك في حسن مخالطة الخلق. الصوم مصحة ربانية، وصيدلية نبوية، ومحمية آدمية فهو علاوة على كونه جنة فهو يحافظ على الفطرة البشرية، فطرة الله التي خلق الناس عليها وفطرة الله التي فطر الناس عليها.

       وصيام الناس فيه درجات مختلفة، ومستويات متباينة، جعلها أبو حامد الغزالي في كتابه “إحياء علوم الدين”، ثلاثة:

1- صوم العامة : فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة فحسب، وليس وراء ذلك شيء. وقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم عن هذا الصنف من الناس بقوله: ( رُبَّ صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ) رواه الإمام أحمد و ابن ماجه وحسنه الألباني .

2-صوم الخاصة: هو كف الجوارح عن الآثام، كغض البصر عما حرم الله، وحفظ اللسان عن الكذب والغيبة والنميمة، وكف السمع عن الإصغاء إلى الحرام، وكف باقي الجوارح عن ارتكاب الآثام، وهذا الصنف ينطبق عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفُث ولا يَصْخَب، فإن سابَّه أحد أو قاتله أحد فَلْيَقُلْ إني صائم ) متفق عليه. وينطبق عليه قوله تعالى:” والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون”(المؤمنون:60).

3-.صوم خاصة الخاصة:  هو صوم القلب عن الأفعال الدنيئة، والأفكار الدنيوية، وكفه عما سوى الله سبحانه بالكلية، وقد وصف الغزالي صاحب هذه الرتبة بأنه مقبل بكامل الهمة على الله، منصرف عما سواه، متمثلاً – في كل ذلك – قوله تعالى: { قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون}   (الأنعام:91) وهذه رتبة الأنبياء والصديقين والمقربين من عباده المخلَصين.

     هذه المنازل تعد – في نظري- درجات الناس في دينهم: الإسلام، والإيمان، والإحسان. وهي أيضا تدرج سلوكي للعبد إلى ربه تعالى في رمضان، الذي يكون أوله رحمة ، ووسطه مغفرة، وآخره عتق من النار؛ وذلك لتحفيز المسلم والمؤمن والمحسن، على مراقبة الله تعالى وحثه على الترقي في مدارج الإيمان، وترقب الساعة، فالأعمال بالخواتم. هذا التصنيف الثلاثي مذكور في عموم قوله تعالى:” ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا. فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله. ذلك هو الفضل الكبير”، فاطر: 32. الناس بمقتضى هذه الآية الكريمة، أحد الثلاثة: أ-ظالم لنفسه، ب-مقتصد،ج- سابق بالخيرات؛ فمن أي صنف أنا، وأنت، وانتم!؟

   للصيام مقاصد لابد أن تدرك، ووسائل لابد أن يعمل بها، دون ذلك يصعب الترقي، وتقل المراقبة، ويضعف الترقب. هذه المقاصد معلومة في كتاب الله قال تعالى في آيات الصيام في سورة البقرة: “لعلكم تتقون”، و”لعلكم تشكرون”، و” أجيب دعوة الداع إذا دعان” (المقصد التربوي)؛ و”أن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون” (المقصد العام)، و”هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان”( المقصد العلمي)؛ “ففدية طعام مساكين”؛ و”فمن تطوع خيرا فهو خير له” ( المقصد الاجتماعي)؛ و”يريد بكم الله اليسر ولا يريد بكم العسر”(المقصد التشريعي)، ، و “أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم”(المقصد الأسري)… وعلى العموم فإن هناك مقاصد ذاتية ومقاصد اجتماعية. فمن مقاصد الصيام (الذاتية) ترويض النفس، وإلجامها، وإلزامها الحمية، وحبسها من الانفلات كالطائر الجارح والأسد الضاري؛ تقويمها في مخالفتها، وتقواها في إتيان ما تكره، وتزكيتها في إلزامها فيما لا ترغب. فإذا كان صوم اللسان عن الغيبة والنميمة والكذب والبهتان، التي تألفها النفس؛ فإن في ذكر الله وفي الصمت المقرون بالتفكر، ما تأنف النفس؛ هنا تختلف منازل الناس في صيامه ودرجات إيمانهم؛ يا عجبا نعلم نعمة الله وننكرها، نعلم خطر حصاد الألسن ونتق بها!. وإن كان صوم العين عن النظر إلى العورات، ومحاسن الحسان، فلأن هناك النظر في الآفاق وفي الأنفس أعظم بديل، قال تعالى:” سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق”، فصلت :53. وإن كان صوم الأذن عن سماع ما لا يرضي الله تعالى، فلأن هناك سماع للقرآن، وسماع لهموم الناس، وسماع للموعظة الحسنة؛ وإن كان صوم القلب عن طاعة الهوى، فلأن الهوى سم وسقم وأن جلاء ذلك بالذكر، قال تعالى: “ألا بذكر الله تطمئن القلوب”، وقال عليه الصلاة والسلام:” ألا وإن في الجسد مضغة إن صلحت صلاح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب”. مقاصد الصيام معلومة وواضحة، ومقاصد العباد منه مبهمة وغامضة. فالله تعالى كشف الداء ووصف له الدواء، والإنسان لا يبالي، وإنه لن يستقيم الأمر للإنسان إلا توافقت إرادته مع إرادة خالقه، يقول الشافعي رحمه الله: ” تبغي النجاة ولا تسلك طريقتها   إن السفينة لا تجري على يبس”.

   علمنا الرسول الكريم -عليه الصلاة والسلام- في حديثه يقول: “من صام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه”، متفق عليه، صيام النهار وقيام الليل، وأي صيام؟ وأي قيام؟، أصيام العموم، أو الخصوص، أو خصوص الخصوص؛ أقيام العامة، أو الخاصة، أو خصوص الخاصة. الوسيلة النبوية تقاضي القيام بهما إيمانا واحتسابا، لتحقيق غاية أسمى ألا وهي غفران ما تقدم من الذنب. ومن الوسائل أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: “وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ”، متفق عليه، فمن ترك الرفث، والصخب، والرد على السبب لأجل الله تعالى عوضه الله خيرا منه، ففي رواية مسلم للحديث السابق:” كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة عشر أمثالها إلي سبعمائة ضعف, قال الله تعالي فأنه لي و أنا اجزي به, يدع شهوته وطعامه من أجلي, للصائم فرحتان : فرحة عند فطره, وفرحه عند لقاء ربه و لخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك”. ماذا تساوي شهوتي الزائلة أمام عرض الله تعالى الدائم (سبعمائة ضعف) و(فرحة الفطر) و(الفرحة عند لقاء الله). وهكذا حال المؤمن في كل شؤونه، ما ترك من شهوة، ولا زهد عن هوى، إلا عوضه الله بأحسن على ما ترك، والله يضاعف لمن يشاء، والله لا يخلف الميعاد.

   إنما كان الصوم محمية للفطرة، لمقاصده الواضحة، ولوسائله الناجعة. فهو عبادة قديمة، كان نفعها عمم على البشرية برمتها. قد يكون عادة عند الأقوام البائدة، والإسلام جعله عبادة إلى قيام الساعة. والحذر كل الحذر أن ننقلب على أعقابنا، فــننزل رمضان من أعلى العبادات إلى أدرك العادات، يقول الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام:” من لم يدع قول الزور والعمل به فلا حاجة لله في أن يدع طعامة وشرابه”، متفق عليه، وشتان بين العبادات التي هي إبداع للوسائل لبلوغ المقاصد، والعادات التي هي بدع تتخطى المقاصد. يتمتع رمضان بروحانيات خاصة، إذ هو البيئة الملائمة لتربية وتنمية الأمة، إلا أنه صرعان ما تضمحل هذه الروحانيات بمجرد انتهاء رمضان، وذلك لجهل الناس بأن عطاء الله لا ينفد لا في رمضان ولا في غيره، وما كان عطاء ربك محظورا. إنما يقوم الإنسان بحضر العمل على روحانيات رمضان طوال العام، فلله تعالى في الدهر نفحات الصيام يعرضها علينا طوال العام ونحن نعترض عليها، أو نعرض عنها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :”لو يعلم ما رمضان تمنت أمتي أن تكون السنة كلها رمضان”،أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، ومن الوسائل التي سنها عليه الصلاة والسلام، صيام الاثنين، والخميس، وأيام البيض، والأيام الفاضلة، وذلك لغاية تحقيق مقاصد الصيام. لذلك قال الفقهاء: “من عرف ما قصد هان عليه ما وجد”، وقالوا أيضا “الأمور بمقاصدها”، فلا ينبغي أن تمنعنا الموانع الواهية عن بلوغ مقصدي الصيام: الفرح بالله، ومغفرة الذنوب التي وعد بها الله تعالى الصائم. ولا تغرنا المظاهر التي تعبث بالفطرة، فإن لها رب يحميها. فعن أبي هريرة رضي عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:” ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء”، أحرجه مسلم، ثم يقول أبو هريرة واقرءوا إن شئتم :﴿ فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله﴾، الروم :30. هذا الحديث العظيم يجعل البيئة المتهم الأول في “تلويث” الفطرة، التي تميز الإنسان عن الدواب، والتي تميز بين السلوك البشري السوي والسلوك الشيطاني المارد، وبذلك يكون الدين هو المحمية الطبيعية للفطرة.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.