العالم القروي وإشكالية التعمير
إذا كان المجال يشكل إطارا جغرافيا للممارسات الإنسانية المتنوعة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية …. ويعتبر أيضا المحدد الرئيسي لنموا تطور المجتمعات كونه مصدرا لثرواتها وغناها، ونظرا لأهميته البالغة في حياة الإنسان والمجتمعات، ولا يزال وسيبقى موضوع انشغالات الأفراد والجماعات والمجتمعات والحكومات…فان إعداد التراب الوطني يشكل التنظيم التقني الذي يستهدف توزيع مقومات النجاح بين كل الوحدات الترابية التي يتكون منها المجال الوطني بغية الوصول إلى المستوى الذي تتلاشى فيه كل الاختلالات المجالية بين المناطق وبالتالي تحقيق التنمية الشاملة المطلوبة فهو السياسة المثلى لتطبيق مخططات تنموية انطلاقا من التوجهات العاملة للتنمية على الصعيد الوطني من جهة وانتهاء بتلبية حاجيات كل وحدة إدارية ( جماعة إقليم عمالة جهة …) من جهة ثانية وبغية استثمار كافة الموارد الاقتصادية وترشيد الطاقات البشرية وتسخير كل الأنشطة والخدمات.
من هنا يمكن القول أن عملية التنمية الشاملة، تتعامل مع وحدات جغرافية حضرية أو ريفية كأوعية تخطيطية لحصر الحاجيات وتحليل الصعوبات والمشاكل المطروحة ومحاولة وضع الحلول المناسبة لها وعليه يصبح المجال الترابي هو المدخل الإنمائي بدلا من البرامج القطاعية أو خدماتيا.
إن التحولات المجالية السريعة التي تشهدها الأرياف والقرى المغربية التي أملتها تداعيات العولمة والتغيرات التي لحقت المجتمع الريفي، نجم عليها عدة مشاكل وتحديات أصبحت تطبع المشهد الريفي وذلك لعدم موازاة هذه التحولات لمقاربة مجالية واضحة تستهدف حاجيات الساكنة الريفية ومراعاة البعد البيئي الاستدامي للمجال الريفي، ومن ابرز المشاكل التي يعاني منها العالم القروي الخصاص المهول في التجهيزات العمومية والبنيات التحتية الأساسية وخاصة منها المؤسسات التعليمية والمراكز الصحية ناهيك عن الفقر والبطالة والإقصاء والتهميش الذي بات يشكل عنوان العالم القروي.
إن تداعيات الأزمة المجالية التي تطبع العالم القروي اليوم راجعة بالأساس إلى غياب تأطير قانوني واضح حول سياسة التعمير بالمجال الريفي وغياب إستراتيجية ذات بعد شمولي للمجال الريفي تستطيع من خلالها الإجابة على الإشكاليات والمشاكل المطرحة
وإذا كان المشرع المغربي اصدر وثيقة قانونية تتعلق بتنمية التكتلات العمرانية ( الكتل العمرانية القروية ) الذي صدر في 25 يوينو 1960 وهو أول نص قانوني يتعلق بالتعمير يصدر مباشرة بعد الاستقلال وهمت مقتضياته المناطق التي لم يكن يسري عليها قانون 1952 و1953 ولا سيم عليها قانون 12- 90 و 25- 90 وأحدث هدا النص وثيقة جديدة في ميدان التعمير أطلق عليها تصاميم النمو أو التنمية يهدف إلى تنظيم وتخطيط المراكز القروية الصغرى وتوجيه ومراقبة توسعها، فإن عدد كثير من المجالات القروية لا تتوفر على تصاميم النمو في الوقت الذي تعرف فيه هذه المجالات توسعات ودينامية تعميرية مهمة.
أمام هذا الوضع المزري الذي يعاني منه العالم القروي، بات من الضروري إحداث مؤسسات تعميرية تهتم بسياسة التعمير بالعالم القروي وتسهر على تتبع المشاريع التنموية المبرمجة، ونعتقد بأنها الوحيدة والكفيلة بتنظيم وتنمية المجال الريفي وجعله قاطرة وبوابة لتصدي لمشاكل المدن التي تتفاقم من جراء الهجرة القروية المكثفة.
إننا من داخل وزارة التعمير وإعداد التراب الوطني بحكومة الشباب نعتبر أن هذه التصورات الفلسفية لنظرة التعمير وتوجهاته ببلادنا تبقى جد مهمة، لكن الإشكال المطروح هو كيفية تنزيل هده الفلسفة على ارض الواقع وترجمتها إلى مشاريع تنموية تعطي ثمارا تتقاطع مع التصورات والتوجهات السياسة للتعمير وإعداد التراب الوطني.
فكيف نتحدث عن تأطير التعمير بالعالم القروي في غياب مؤسسات التعمير الخاصة بالعالم القروي وفي غياب موارد بشرية متخصصة قادرة على التناغم والابتكار وتنزيل وترجمة التوجهات والتصورات النظرية للتعمير على ارض الواقع، فالوكالة الحضرية ليست لوحدها قادرة على إنتاج وتتبع وثائق التعمير نظرا لشساعة المجال المغربي وتعدد المراكز القروية المراد تغطيتها بوثائق التعمير لذا بات من الضروري إحداث وكالات التعمير القروية تسند لها مهمة تأطير التعمير بالعالم القروي وتتبع المشاريع التنموية،
بالإضافة إلى الإشكال المؤسساتي وضعف الموارد البشرية المتخصصة في تدبير المجال نجد مشاكل تحد من فعالية التعمير وتعيق مسلسل التنمية القروية ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
تعقد المساطير الإدارية المتعلقة برخص البناء وإحداث التجزئات السكنية.
لذا بات من المؤكد طرح أسئلة جوهرية تصب في صلب الموضوع :
كيف لوزارة التعمير واعدا التراب الوطني أن تقدم في مناسبات عدة تشخيص مر للمجال القروي بمشاكله وتحدياته العديدة دون تقديم أجوبة واضحة لهذه الإشكالات والتحديات؟
فكيف لوزارة التعمير وإعداد التراب أن تعطي عناوين تنموية كبرى للمجال الريفي في الحين نجد الواقع اسود في صورة النسيان؟
فكيف يتم تأطير التعمير بالعالم القروي وجل أراضيه غير محفظة؟
كيف نريد من سياسة تعميرية ناجحة وناجعة بالعالم القروي في غياب نخب متخصصة وتجاهل فلسفة التعمير والنظرة الشمولية المستقبلية للمجال داخل المجالس المنتخبة للجماعات القروية؟
إن الارتقاء بالتعمير القروي وتنظيمه وجعله يتماشى مع طموحات الساكنة وتلبية حاجياتها والحفاظ على استدامة الموارد الطبيعية يجب إحداث مؤسسات تسهر على تنزيل سياسة التعمير القروية تسند لها مهمة انجاز وتتبع التصاميم التعميرية الخاصة بالعالم القروي.
كما يجب إحداث مخطط وطني لإعداد وتنمية العالم القروي يراعي الخصوصيات المجالية لكل جهات المملكة. وتبقى مقولة المهندس المعماري ايكوشار ” أن حل أزمة المدن رهبن بإعداد وتهيئة المجال الريفي” حبر على ورق رغم أهميتها الناجعة في تدبير المجال المغربي بأريافه ومدنه وضمان سلامة نموه.