القطعة
غادر الأخوان منزلهما الشاسع المكون من جزئين أولهما – وهو أكبرهما – قديم متهالك قوامه الطين المخلوط بالتبن ، وقد بدأت جدرانه تتباعد صارمة عهد الوصال السعيد الذي كان يجمعها بسبب توالي قطرات المطر التي أصرّت على الحيلولة بينهما وفاء بنذرها القديم ، أما الجزء الثاني فقد أقيم من اللبن المصنوع من الخرسانة والرمل والحصى ، وإن كان جله عاريا من التبليط والتزليج إلا أنه متماسك الجدران .
بعد مغادرتهما البيت توجها رأسا إلى تجمع الدكاكين الصغير الذي يتوسط مثلث القرية وهما يتسابقان ، وكل برهة يطلب أحدهما من الآخر أن يناوله القطعة النقدية حتى يضمها بين يديه ويحس بحرارتها تسري في تلافيف فؤاده ويطمئن عليها ، لأن الأخ الآخر غير كفء للمحافظة عليها وحمايتها من عوادي الكبار أو الأقران الأكثر قوة ، وخصوصا مع طول المسافة التي تفصل بين منزلهما الكبير- الصغير وتجمّع الدكاكين ، هذه المسافة المتطاولة التي تصل إلى حوالي مائتي متر .
كانت تتحكم فيها رغبة جامحة تتأبى عن السيطرة لبدء احتفالهما الذي طال انتظاره حتى كاد أن يصير سرمدا ، فقد خططا لإقامة هذا الاحتفال منذ الوهلة التي أدركا فيها أن تلك القطعة ذات المذاق الساحر لها وجود بالفعل لا بالقوة فقط وان انحصر وجودها على شاشة تلفاز الجيران إلا أن المنطق يقتضي أن توجد في مكان حسي ، منذ ذلك الوقت وهما يخططان لذلك الاحتفال ، وقد كانت الفرصة خلال الأعياد قاب قوسين أو أدنى إلا أن الظروف لم تسعفهما في الحصول على المبلغ الكافي الذي يتجاوز خمسين سنتيما لكل واحد منهما .
زاد شوقهما الحارق لهذه الحفلة الموعودة وكبر الحلم حتى أصبح هدفا يعيش من أجله الصَّبيَّان ،وها هو الحلم الكبيرالآن يكاد يتحقق فالقطعة النقدية التي تأوي مائة سنتيم في اليد بل تكاد تكون في اليدين لكثرة انتقالها بين يدي الصبيين زيادة في الحرص على عدم ضياعها ، والدكاكين على مرمى حجر ، فشرعا يخططان لطريقة تقاسم قطعة الجبن والمكان الأنسب لتذوقها بشغف وأكلها بتلذذ ، وهل يطيقان الانتظار إلى أن يحصلا على قطعة خبز دافئة أو باردة تؤثت فضاء الوليمة .
وصل الأخوان إلى الدكان دون أن يتوصلا إلى حسم موقف انتظار كسرة الخبز من عدمه ، فتوجها إلى النافذة الصغيرة التي لم يكن طول الواحد منهما يسعف إلى بلوغها ، فكانا يتناوبان على أداء دور الفارس و ظهر الفرس في المرات المعدودة في السنة التي يتاح لهما فيها التردد على الدكان ، فيحمل أحدهما الآخر حتى يتمكن من رؤية مشهد بانورامي للدكان وقد ازدان -في عيني الناظر منهما- بما لا يعد ولا يحصى من قطع البسكويت والحلوى والعلك التي لم يختبرا من مذاقها إلا النزر اليسير ، فصاح الصبي الفارس بصوت يملؤه الفرح والاستعجال : ” سي عبد القادر ناولني قطعة الجبن الهولندي وبسرعة من فضلك ” غير أنه سرعان ما أحسّ بالزمن يمضي متثاقلا ، فسي عبد القادر رجل أخذ منه الكبر ما أخذه ، فلم يعد يستطيع أن ينتصب شبه واقف إلا بالتأوه والصراخ والمناداة والاستنجاد بالله والنبي والوالدين والشرفاء والصالحين ،
لم يمسك الصبي القطعة – الحلم حتّى ظن أنه انتظر أمام الدكان قرنا من الزمان ، وفور تسلمها أو قبيل ذلك بقليل انخرط في عدو سريع وأطلق ضحكة وقهقهة كأنه عثر على كنز من والذهب والماس ، وقد تبعه أخوه بسرعة جنونية وهو يتوسل إليه أن يريه قطعة الجبن ، ثم زاد طمعه فطلب أن يناوله إياها ، فلما تسلمها بعد تلكؤ الأول نظر إليها مليا ثم شمها بعمق ثم خبّأها تحت قميصه القصير الذي تظهر منه سرته ، وحدّث أخاه بصوت خافت يسكنه غير قليل من الحذر والحيطة أن هيا بنا إلى خارج القرية قرب مقر تعاونية جمع الحليب التي تشارك أسرتهما في تزويدها بعشرات اللترات من الحليب وذلك من أجل الاختباء والاختلاء بالقطعة ، وحتى لا يقلق راحتهما أحد أو يشاركهما وليمتهما .
انطلق الصَّبيَّان كالسهمين ولم يكثرتَا لنداءات أصدقائهما المتكررة من أجل اللعب ، ولمّا وصلا إلى المكان المقصود وضعا قطعة الجبن على قطعة ورق مقوى بعد أن أزالا ما كان عليها من خبز مبلول وبقايا كسكس وخضر خصص للدجاج أو الكلاب وتحلّقا حولها وقد بدأت دقات قلبيهما الصغيرين تتسارع عندما همّا بفض غشاء القطعة ، وكل منهما ينبه الآخر إلى الحذر من إسقاطها أو تشويه شكلها المثلث ، وبعد فتحها تريثا قليلا قبل أن يتجرآ على لمسها ومحاولة اقتسامها ، وبعد أن استجمعا قوتيهما واستدعيا رباطة جأشهما شطرا القطعة شطرين ودخلا في ملاسنة كادت تنتهي بالقتال لأن كل واحد منهما رآها قسمة ضيزى وأنه قد نال النصيب الأصغر .
وبعد أن تعقّلا شرعا يتذوقانها ففاجأتهما بطعمها المالح اللاذع إلى درجة لا تحتمل ، فتبادلا نظرات العجز عن الاستمرار ، ثم حاولا أن يتابعا تجرعها وبلعها إلا أنهما لم يفلحا رغم محاولاتهما المتكررة ، فنظرا إلى بعضهما من جديد وانطلقا في ضحك هستيري وهما يخربشان بشطري القطعة على مصراعي باب التعاونية الكبيرين .