اللهم سلّمنا لرمضان…

0 500

كثيرا ما نشعر بالعجز،والكسل،والخمول،والبخل … في الإقبال على الله تعالى،وترويض النفس،ومخالفة الهوى،والرجوع إلى الفطرة التي فطر الله الناس عليها،وذلك بالرغم من “العروض المغرية”،والمحفزات السامية،والوعود المنجزة،التي يكاد يسيل لها اللعاب،والتي وعدنا الله بها ،والله لا يخلف الميعاد،من تلك النفحات الربانية التي يعرضها الله علينا بالليل والنهار،في حر المصيف،وفي برد الشتاء، وفي يبس الخريف، وفي جمال زمن الربيع،في الحياة قبل الممات،في الشباب قبل الهرم،في الغنى قبل الفقر،في الفراغ قبل الشغل،في الصحة قبل السقم،لكن قيدتنا الذنوب وكبلتنا المعاصي وغلبتنا النفس وغرر بنا الأصحاب والاغيار،وأطمعتنا الدنيا الفاتنة،بل دعنا نقول أننا استسلمنا للنفس الأمارة وعادتنا النفس المريضة و أوقعتنا في شباك إبليس اللعين،وفخ الشيطان الرجيم،اتبعنا خطواته وركنا إلى النفس،فكنا أسرى بالاختيار من طرف:العدو الذاتي والداخلي (النفس)، والعدو الموضوعي الخارجي(الشيطان)،عدو متعدد الرؤوس ومن الإنس والجن،قد لا تكون لنا طاقة بإبليس وجنوده لأنه كما قال تعالى:”إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ”،الأعراف27،ومع ذلك فإن كيد الشيطان ضعيف من كيد النساء،كما قال الحق سبحانه وتعالى عن الشيطان:”إن كيد الشيطان كان ضعيفا”،النساء 76، وعن النساء“إن كيدهن عظيم“،يوسف 28.نجعل شعار هذه الورقة الأثر اللهم سلمنا لرمضان وسلمه لنا وسلمه منا”،لعلها تجعلنا نفهم أسرار ومقاصد صيام رمضان المعظم،الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم :”لو يعلم ما رمضان تمنت أمتي أن تكون السنة كلها رمضان”،أخرجه ابن خزيمة في صحيحه.لذلك لابد من تعظيم النية كما جاء في الحديث الشريف :”نية المؤمن خير من عمله“،لأن كما قال الله تعالى:﴿ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان﴾ البقرة:185

1-التَّخَلِي وفطم النفس :

 لقد كفانا الله ،في رمضان،محاربة إبليس اللعين،لعلمه تعالى بضعف فينا،وترك لنا النفس لمجاهدتها،الجهاد الأكبر،لخبرته تعالى بخباياها،لقوله تعالى:” ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ ،الشمس،كان الناس يكدون ويجتهدون ويقطعون الفيافي ويغتربون في الأوطان ويفارقون الأهل والأحباب،للبحث عن رجل يسلمون له أنفسهم تسليم الميت لجسده لغساله،ليسلك بهم الطريق ويروض لهم النفس،أما وأننا أمامنا رمضان،أفلا نُسَلّم له أنفسنا!؟يقظة،وعن وعي،وعن طيب نفس، وعن قناعة،وعن استعداد،بعد إعداد العدة والحزم،لأجل التقوية على النفس لتقوى الله تعالى،كما يسلم الطفل،للأيادي الآمنة،وللمربي الخبير،وللمعلم البارع،وللمؤسسة الثقة.قال البوصيري رحمه الله:

والنفس كالطفل إن تهملـــه شب على … حـــب الـــرضاع وإن تفطمــــه يـنـفـطـــم
وراعها وهي فـــــــــي الأعمــال سائمـــــة … وإن هي استحلت المرعى فــــــــلا تسم
كـــــــــــــــم حسنت لـــــــذة للمـــــرء قاتـــــــــــلـــة … مـــن حيث لم يدر أن السم في الدسم
وخالف النفس والشيطان واعصهما … وإن هــــــــما مـحضاك النصـــــــح فــاتـهــم
واستفرغ الدمع من عين قد امتلأت … مــــن الـــمحـــارم والـــــزم حميـــــــــــة النــــــدم

فهذا رمضان المعظم ،يعرض فيه الله تعالى ورسوله الكريم،العروض المغرية التي ترفع همة المؤمن،وتتدرج به أعلى الدرجات،وترجع به إلى الفطرة،وإلى حقيقة الإنسان،حيث تسمو الروح،ويعار الجسد خدمة وطاعة لله تعالى،فقد روى الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هذا شهرُ رمضان قد جاءكم، تفتح فيه أبوب الجنة، وتغلق فيه أبواب النار، وتسلسل فيه الشياطين “, وروى أيضا بإسناد جيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “رمضان شهر مبارك، تفتح فيه أبوب الجنّة، وتغلَّق فيه أبواب السعير، وتصفّد فيه الشياطين، وينادي مناد كل ليلة: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أمسك“, وروى الترمذي وابن ماجة بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا كان أوّلُ ليلة من شهر رمضان، صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلّقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتّحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي منادٍ: يا بغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أَقْصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة “, وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من صام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام لليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه”.

يا نفس يا أمارة !،يا نفس يا مريضة !،كونِ لوامة،كوني منافسة في الخير،التمسي معالي الأمور،اغتنمي فضائل رمضان،استثمري رحمة الله،ادخلي الجنة لأن أبوابها قد فتحت وأغلقت أبواب النيران،اغتنمي تسلسل الشياطين وانشغالهم بأنفسهم،اغترفي من الخير العارم،كونِ من عتقاء النار،صومِ رمضان إيمانا واحتسابا يغفر ذنبك،قومِ رمضان إيمانا واحتساب يغفر ما تقدم من ذنبك،استعدادِ لبداية صفحة بيضاء،صفحة الطفل البريء،صفحة الولادة الثانية،صفحة الولادة القلبية…

2-التَّحَلي وملء النفس :

       لقد اجتمعت في رمضان ،أركان المجاهدة المطلوبة والمتفرقة طوال السنة،لذلك وجب اغتنامها لعلنا تجعلنا ننتصر على النفس،أو على الأقل كتشف خباياها،ولمعرفة أنها تهرب وتنفر من الخير،وتميل إلى الركون والاستكانة،وتفوت علينا أبواب الرحمة والخوف،فالنفس في رمضان تكون متعطشة إلى فعل الخير،ولا بد أن نغتنم فرصة هذا الإقبال لإلزام النفس :العزلة،والصمت،والجوع،والسهر،هذه الرباعية قوم بها السلف اعوجاج أنفسهم،استئناسا بالإيجاب لا استنساخا للتجارب،لذلك ربطنها بصفات تذب فيها الواقعية .

Z   عزلة الفتن:الوجود الطبيعي للمؤمن يكون وسط الناس،لأن الإنسان اجتماعي بطبعه،و لا ندعي المجتمع الملائكي،والعالم البرزخي،بقدر ما أننا ننشد مجتمع الفضائل،ومجتمع النصيحة، والمجتمع المسجدي،أن تنتقل فيه روح المسجد إلى المنازل وإلى الإدارات وإلى المدارس،وأن تكون المعاملات عبادات،وأن تنتقل العادات إلى العبادات؛المقصود أن نعتبر رمضان “خلوة شرعية” و “محمية مجتمعية” نعتزل فيه العادات السيئة والرفقة الفاسدة،مصداقا لقوله تعالى على لسان إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام:”واعتزلكم وما تدعون من دون الله،وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا“،مريم 19،هذه العزلة الايجابية، حل احترازي نبحث لها من البدائل ما يحمينا من العزل السلبية،من:الصحبة الحسنة،والمحضن المثمر،والتنظيم المتزن،والمشروع المدروس،حتى يتقو عودنا ويشد صلبنا وتقوى عزيمتنا،حتى لا نذوب في الفتن وتجرفنا التيارات القوية،فهذه دعوة لحسن تنظيم وتدبير الحياة.

Z   صمت الحكمة:كثيرة هي المصائب التي تأتي من وراء لسان الحال،ولسان المقام،أو من التعبير باللسان أو بالجسد أو بالسلوك،وقد سماها النبي صلى الله عليه بحصاد الألسن وحذر منها،لذلك حرمت الغيبة والنميمة والكذب والبهتان،فواكه مجالسنا،ونحن في حاجة إلى ضبط اللسان الناطق الرسمي باسم النفس،إذا نطقنا أن ننطق بالحكمة،إذا صمتنا يكون صمتنا حكمة ،قال تعالى :”ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا”،البقرة269،ذلك لأننا نريد أن نعوّد أنفسنا،الاكتفاء بعيوبها عن عيوب الناس،والاشتغال بذكر الله خير من الانشغال بذكر الناس،دون أن نسكت عن الحق .

Z   الجوع العلاجي:في رمضان قد نستغني اضطرارا على شرب الدخان، والمسكرات، والمحرمات، وقد نتعلم الأكل المنتظم،كما وكيفا،فنقوى على العبادة ولا نتكاسل عن الصلوات،ذلك لأننا قد ضيقنا مجاري الشيطان بالجوع،فخفت الروح ونشطت النفس وانفتح القلب للعبادة،ومن العزلة اعتزال عادة الإفطار وتعويضها بعبادة الإفطار،الإفطار على الرطب أو الماء والإقلال من الطعام،وبهذا قد عالج الطب بعض الأمراض الخطيرة،كيف لا والصوم جنة؟كيف لا والصوم وجاء؟كما قال الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام،القائل:”بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه،فإن لم يكن فثلث لطعامه ،وثلث لشرابه،وثلث لنفسه“،رواه الترمذي،  تلك

Z   سهر الغنيمة:إنما رمضان شهر الصبر والتنافس في الخير واغتنام الفرص والأوقات وفضائل الأعمال وفضولها،ومن الصعب أن تُنال براحة البدن،والسهر خلف المسلسلات المدبلجة التي تقل حياء الأسرة،والأفلام التفاهة التي تشتت كيان الأسرة،والبرامج الرديئة التي تلوث تفكير الأسرة،مع التنويه بالمبادرات الجادة والقنوات الهادفة،يجب العلم أن دقائق الليل غالية فلا يجب أن نضيعها في غفلة،لا نعني بالسهر الاستغناء عن النوم سنة الله في المخلوقات،وإنما نعني بسهر الغنيمة، اليقظة والاستيقاظ والاستعداد للتعرض للنفحات الربانية التي يعرضها الله تعالى في الليل دون النهار،لحكمة هو أعلام بها،قال سبحانه وتعالى :”إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا”،المزمل 6،لعل عبادة جوف الليل تكون سرية وفي الخفاء والسكون،خلافا لعبادة واضحة النهار العلانية، وفي الحديث القدسي:”ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا،حين يبقى ثلث الليل الآخر،فيقول :”من يدعوني فأستجب له؟من يسألني فأعطيه؟من يستغفر فأغفر له؟”،رواه الستة إلا النسائي،هذا النداء الرباني في جوف الليل ينتظر الاستجابة،ويا سعادة من استجاب له الله ،ويا فرحة من أعطاه الله،ويا بهجة من غفر له الله … ويا تعاسة من سهر ونام على السحر وصلاة الصبح،ويا حزن من فاته دعاء السحر،ويا حسرة من لم يكن من المستغفرين بالأسحار…

3-التجلي وبذل النفس :

        لا نريد أن يضيع جهدنا،في تخلية النفس من الرذائل وتحليتها بالفضائل،ولا نريد أن ينحصر فضل التربية والتزكية،التي نسمها تنمية،في النفس بل نطمح أن تتجاوزه إلى النفوس الأخرى،لأجل خلق بيئة سليمة للنفوس الطيبة،وإشاعة النورانية في البشرية جمعاء،فمحال أن يسود الفساد وتعم الفوضى في الكون في وجود الأنفس الطيبة.لابد من روح تسري في التنمية الحجرية التي ألفنها في التشيد والبناء،وفقدنها في المعنى والمغزى،يقول الله تعالى:”إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ“،الرعد:11،للدلالة على المقاربة الاجتماعية التي ينادي بها الإسلام،فالمؤمن له ثنائية الغايات:الخلاص الفردي والخلاص الجماعي،العلم النافع والعمل الصالح،العبادة والاستخلاف،الدعوة والدولة،…ما قيمة صلاتك الفردية أمام صلاة الجماعة !؟ أنظر إلى وحدة الأمة في صيام رمضان !؟وأنظر إليها في الحج!؟وأنظر إلى التضامن الاجتماعي والتعاضد المجتمعي في الزكاة!؟ الإسلام دين الجماعة ،الإسلام يعد الفرد للاندماج في الجماعة،الإسلام يهيئ التنمية الذاتية لتنخرط في التنمية المجتمعية،الإسلام يهيئ المجتمع للأمة الخيرة والاستخلاف في الأرض.

Z   تنمية الذات : هي الرسالة الرمضانية التربوية،لما يعمل رمضان في غرس القيم والتزكية وسمو المعالي،حيث تترك الإنسان يكتشف ذاته،وتجعله يستطيع تفجير طاقته وتحرير مبادراته ،وأن بمقدوره أن يقوم بما يريد ومتى يريد وكيفما يريد ،ولكن كبلته النفس،لذلك لابد من معرفة النفس أولا لكون الخطوة الأولى من معرفة الله تعالى القائل:”سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ“،فصلت53،…. فمن عرف نفسه عرف ربه،وعاش من عرف قدره،وطاب من استثمر قدرته،ومن القدر طمأنينة القلب التي تكون بالقدرة على تلاوة القرآن والذكر الله والتقرب إلى الله بالفرض وبالنفل،لصقل الفطرة،وتصفية النفس ،وسمو الروح،وإعداد المؤمن الاجتماعي.

Z   تنمية المجتمع:هذه هي الرسالة الاجتماعية الرمضانية،حيث تكاد المدنية والحداثية تفقد المجتمع المسلم التعاطف والتعاضد والتضامن الاجتماعي،حيث أن المجتمعات الغربية قد تسرق هذا الدور الاجتماعي،الإنساني،منا في يوم من الأيام،وشتان بين التضامن الإنساني الدنيوي لأجل التودد والتقرب،وبين التضامن الاجتماعي الدنيوي السلوك والأخروي الخالد،قد لاتهمنا الصفة في التضامن بين الإنساني أو الاجتماعي فكلاهما مطلوب،وإنما يهمنا التفريق بين التضامن العادي والتضامن العبادي،لما للدور الفعال للوازع الديني كمقوم للفعل التضامني ومحفز للعمل التضامن،الجود والكرم هي الصفات الغالبة في رمضان،وأخرى كثيرة من قبيل إفطار الصائم،زكاة الفطر،والخدمة الاجتماعية العارمة،كلها يجب أن تستثمر في تنمية المجتمع.

Z   التنمية البشرية : هي الرسالة الاستخلافية،التي تنتظر الأمة الخيرة،في الإشارة إلى رسالة الإسلام العالمية،التي أرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة،حيث أن الناس صنفان،كما قال الإمام علي كرم الله وجهه “إما أخ لك في الدين أو نظيرك في الخلق”،فكما تم هزمت التنمية الذاتية النفس،وهزمت التنمية المجتمعية الأنانية،فإنه من السهل انتصار الإسلام وانتشار الفضيلة .

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.