تداخل الأجناس الأدبية في الجنس الروائي
شكل موضوع الأجناس الأدبية مدار كثير من الدراسات و الأبحاث التي سعت للفت الانتباه إلى أهمية تداخل الأجناس فيما بينها، وأن كل جنس أدبي – شاء أم أبى – إلا و يقطع مع أجناس أخرى. بعيدا عن مقولة نقاء/ صفاء الجنس. وعليه، كان لزاما على الدرس الروائي المعاصر أن ينغمس في هذا التحول الهام، الذي تعود بداياته إلى الأدبيات الغربية القديمة.
لقد أصبح من العبث اليوم القول بأن الجنس الأدبي بوجه عام و الجنس الروائي بشكل خاص جنس مكتف بذاته. بل إنه يظل في حاجة ماسة إلى أجناس أخرى يقتات منها، ليعيش، و ليضمن بقاءه و يجدد من سماته. وهذا الأمر لا يعني بحال عدم معرفة حدود كل جنس أدبي على حدة، إلا أن التطور الذي شهدته نظرية الأدب في السنوات الأخيرة استلزم ذلك التداخل/ التفاعل بين الأجناس، و الذي أطلق عليه تزفيطان طودوروف تسمية ” الاختلاط الأجناسي ” و الحال أن هذه التسمية أكثر اتساعا و شمولية، ذلك أن جنس الرواية – كما سنرى لاحقا – لا يستثمر الأجناس الأدبية وفقط، بل يمتح من كل أشكال التعبير المتاحة، من حوار و قصة و أمثال و حكم و مقالة مضمنةّ…إلخ .
إن مسألة تداخل الأجناس فيما بينها ليست وليدة اليوم، بل يعود تاريخها إلى الأدبيات الغربية القديمة ” ففي الآداب اليونانية، شكلت الملحمة، تداخلا عميقا في تآلف الأنواع و تلاحمها، بصورة جعلت الملحمة في ذاتها نوعا أدبيا قائما بذاته، وهي في الواقع صيغت من أنواع أدبية شتى “[1].
والحال كذلك أن المذهب الكلاسيكي في فرنسا في القرنين السابع عشر و الثامن عشر أقر بضرورة فصل الأجناس الأدبية و اعتبارها عوالم قائمة بذاته، و بتعبير آخر ” فالنظرية الكلاسيكية ليست مبنية على أن الجنس الأدبي يختلف في الطبيعة و القيمة عن الجنس الآخر فحسب، بل أيضا على أنه ينبغي أن يفصل بينهما و لا يسمح لهما بالامتزاج، وهذا هو المبدأ الشهير المعروف بـ ” نقاء الجنس أو ” genre tranché“[2]. لكن هذا المعطى لم يعمر طويلا، إذ سرعان ما سيتم تجاوزه مع الثورة الرومانسية، بشكل ينبئ أن العنصر الرئيس الذي لا ينبغي إهماله في تنظيرات الرومانسيين في هذا الشأن هو كون ” مضمون الرواية و شكلها مفتوحان “[3].
لكل ذلك، فمقولة أحادية الجنس الأدبي المستقل عن غيره، أقل ما يمكن القول عنها أنها تقتل الأدب بوجه عام ، وتضعف مسيره و حركيته، بيد أن كل جنس أدبي إلا و يتداخل مع أخرى. والأدب تعميما ” لا ينشأ في الفراغ، بل في حضن مجموعة من الخطابات الحية التي يشاركها في خصائص عديدة، فليس من المصادفة أن تكون حدوده قد تغيرت على مجرى التاريخ ” [4].
يحيلنا مفهوم التداخل إلى مفهوم آخر أكثر اتساعا هو مفهوم التناص intertextualité كما هو عند الناقدة البلغارية جوليا كريستيفا. ذلك أن هذه الآلية تعتبر قانونا جوهريا لأية كتابة، على اعتبار أن كل واحدة ليست سوى امتصاصا لأجزاء من كتابات أخرى قد تكون سابقة عنها أو معاصرة لها. وكما ألمحنا فإن هذا المفهوم أعم وأشمل من مفهوم التداخل على اعتبار أن ” التناص يقع بين نصوص مختلفة التجنيس، كما يقع بين نصوص من جنس أو نوع أدبي واحد. ففي الحالة الأولى نكون أمام تناص أجناسي أو تداخل الأنواع بينما نكون في الحالة الثانية امام تناص عادي لا يحدث فيه اختراق حدود النوع الأدبي “[5].
إن تداخل الأجناس فيما بينها لا يجعلها تتجدد و تتطور فقط، و إنما يبعث على ابتداع أجناس أخرى، وذلك بالسماح لها بهذا الامتزاج الذي لم تبحه لها النظرية الكلاسيكية. لذلك تأتي نظرية الأجناس الحديثة التي ” تفترض أن الأنواع التقليدية يمكن أن تمزج و أن تكون نوعا جديدا مثل التراجيكوميديا ( المأسملهاة (tragiomedy“[6]. كما أنها ” ترى أن الأنواع يمكن أن تقام على أساس الشمولية أو ” الثراء “، و أيضا على أساس من ” النقاء “[7] و علاوة على ذلك فإن هذا التداخل ينقلنا من الأجناس الأدبية إلى ( أجناس أخرى ) يمكن تسميتها بـ ” أجناس الخطاب ” كما سيأتي.
من هنا، تصير مسألة تحطيم الحدود بين الأجناس ضرورة ملحة، لما فيها من إثراء للأجناس الأدبية بوجه خاص و الأدب بوجه عام. و لا شك في أن جنس الرواية باعتباره شكلا تلفيقيا منظما، يعيش على حساب أجناس أخرى. و يحاول من ذلك المنطلق تأسيس وجوده الخاص. وهنا لابد من إثارة سؤال هام هو : لم جنس الرواية هو الأكثر تمثيلا لمقولة التداخل؟.
كمشروع جواب عن هذا السؤال ننطلق من زعم يفيد أن الرواية تشكل عوالم مختلطة . وهي مؤهلة أكثر من غيرها لأن تضم في رحمها كل شيء. ثم لا ننسى أنها محكومة بالتاريخ و المجتمع، و هي إذا في تحول مستمر مادام الواقع و التاريخ كذلك. و بصيغة أوضح فــ ” الجنس الأدبي مقولة اجتماعية و تاريخية” [8].
بشأن اجتماعية الرواية و ارتباطها بالتاريخ نشير إلى الدور المركزي الذي لعبته تنظيرات هيجل و بعدها تنظيرات جورج لوكاتش في مؤلفه الشهير ” نظرية الرواية ” دون نسيان ما قدمه الرومانسيون الألمان، وانتهاء بميخائيل باختتين الذي لم يهمل هو الآخر إسهامات سلفه لكنه عمد إلى تطويرها و الإضافة إليها. و قد جاءت تطويراته هاته في سياق ثقافي عام ” عرض فيه باختين مفهوم الحوارية في إطار اهتمامه بتحولات الرواية الأوروبية و مظاهر اشتغال خطابها “[9]. إلا أنه وكما أشرنا ” بخلاف للمنظرين الذين سبقوه يتخلى عن الربط المألوف بين الرواية والطبقة البورجوازية المعتمدة على إبراز الفردية، و قيمها، محاولا أن يجد لها جذورا في أحضان الثقافة الشعبية ( خاصة طقوس الكرنفال ) “[10].
صحيح أن باختين اهتم أكثر بـالحوارية و بـ la polyphonie أو ما يصطلح عليه ” تعدد الأصوات ” داخل الرواية، إلا أنه أشار أيضا إلى ميسم هذا الجنس الأدبي المنفتح، الذي يسمح بضم خطابات أخرى موازية وكل الأشكال التعبيرية الإنسانية المتاحة. وهو ما يمنحها هذا التعدد؛ أي تعدد الأصوات و اللغات و الخطابات داخل الجنس الواحد. إن الرواية في نظر الروسي باختين هي ” التنوع الاجتماعي للغات و الأصوات الفردية، تنوعا منظما أدبيا “[11]. فضلا عن أنها تتعالى باستمرار على حدود مقولة الجنس، و تسمح باحتواء ما يمكن تسميته بـ” بالأجناس المتخللة.[12]
لقد أصبح متاحا الحديث عن طبيعة العلاقة بين ” الجنس الأدبي ” و ” الخطاب ” أو بين ” الأجناس الأدبية ” و ” أجناس الخطاب “. و قد كان ميخائيل باختين واعيا بهذه العلاقة الوطيدة الممكنة بينهما. و يتجلى ذلك في ” إيمانه بالعلاقة بين مفهوم الجنس الأدبي و مفهوم الخطاب، و نعني بالمقاربة التي في الرواية، أو أي جنس أدبي آخر مقطعا من الثقافة، من المجتمع، ومن الذاكرة الجماعية “[13]. وقد مثلت الرواية هذه التركيبات على مختلف الأصعدة.
وغير بعيد عن باختين، نجد عند الناقد تزفيطان طودوروف موقفا مؤيدا، يدعو إلى تحطيم الحدود بين الأجناس الأدبية من جهة، ثم التفكير في بدائل الأجناس من جهة أخرى. أو بصيغة أوضح تلك الأفعال الكلامية التي لم ترق بعد إلى مصاف الأجناس. في هذا الإطار، يستحضر ثلة من الكتاب الذين رفضوا مقولة التجنيس. فقد ” كتب موريس بلانشو عن كاتب حديث هو هيرمان بروخ : ” تلقى، مثله مثل الكثير من الكتاب الآخرين في عصرنا، ذلك الضغط العنيف من الأدب الذي لم يعد يطيق التمييز بين الأجناس و يريد تحطيم الحدود “[14].و يضيف بلانشو ” إنما الأهمية للكتاب وحده، على ما هو عليه، بعيدا عن الأجناس و خارج حدود العناوين، من نثر وشعر و رواية … إذن سيجري كل شيء و كأن الأجناس تبددت، فتأكدت حقيقة الأدب وحيدا “[15]. وفي موضع ثالث أخير أشار إلى بروخ ” الذي لم يعد يحتمل التمييز بين الأجناس “[16]. واستنادا إلى ما سبق، يمكن القول إن حياة الأدب بشكل عام، هي حياة متجددة و منفتحة، تحب التقعيد مثلما تمارس الخرق، الخرق الذي يضمن بقاء الجنس و استمراريته على حد سواء.
و يعقد طودوروف شأنه شأن باختين صلة بين مفهوم الجنس الأدبي و مفهوم الخطاب. و إذا كانت الأجناس الأدبية متواجدة بالضرورة التي أجازها لها التاريخ و مؤسسة الأدب الرسمي، فإن التساؤل الهام الذي يصادفنا هو : ” ما الذي ينظم ميلاد جنس ما في كل وقت؟ و هل في اللغة، على نحو أكثر دقة، ( مادام المقصود هنا أجناس الخطاب )، من أشكال، ليست بعد بأجناس فيما هي تبشر بأجناس “[17]. إن هذا القول الأخير ما فتئ يعود بنا إلى العلاقة الممكنة بين الأجناس الأدبية و أجناس الخطاب، و أن الأجناس الأدبية على حد تعبير طودوروف تعثر على أصلها و بكل بساطة في الخطاب الإنساني.
نخلص من الأراء/ المواقف الواردة أعلاه أن مبحث الأجناس الأدبية نال حظا وافرا من العناية و الاهتمام – قديما و حديثا -. و قد كان ولا يزال مثار جدل بين الدارسين. إلا أننا نميز هنا بين موقفين : الأول يرى ضرورة فصل الأجناس الأدبية عن بعضها البعض، و اعتبارها عوالم منفصلة و قائمة بذاتها و هنا تحضر مقولة نقاء/ صفاء الجنس. أما الموقف الثاني فيسمح بخرق مقولة التجنيس، لما لهذا الخرق من إثراء للأجناس الأدبية تعميما و كيان الأدب تخصيصا. على اعتبار أن كل جنس أدبي – شاء أم أبى – إلا و يقطع مع أجناس أخرى، إن الأجناس جُعلت هجينة. و يبدو أن الموقف الأخير ذاع صيته و اكتسب أتباعا كثر.
1 فضيلة مادي : دور عالمية الأدب و مذاهبه في تطور الأدب و ظهور أجناسه الأدبية، ص 26. نقلا عن باديس فوغالي : السرد الروائي وتداخل الأنواع رواية ( جسر للبوح و آخر للحنين ) لزهور ونيسي نموذجا، ص 171.
رينيه ويليك، أو ستن واريين : نظرية الأدب، ص 324.[2]
ميخائيل باختين : الخطاب الروائي، ص12.[3]
تزفيطان طودوروف : الأدب في خطر، ص 9.[4]
فضيلة مادي : دور عالمية الأدب و مذاهبه في تطور الأدب و ظهور أجناسه الأدبية، ص27.[5]
رينيه ويليك، أوستن واريين : نظرية الأدب، ص 326.[6]
بسمة رحومة التشكيلي و آخرون : مقالات في تحليل الخطاب، ص 105.[8]
البلاغة و النقد الأدبي، العدد 4/5، ص 284.[9]
الخطاب الروائي : ميخائيل باختين، ص 15.[10]
ينظر ” ميخائيل باختين: الخطاب الروائي، ص 28.[12]
رحومة الشكيلي و آخرون : مقالات في تحليل الخطاب، ص 108.[13]
14 تزفيطان تودوروف : مفهوم الأدب و دراسات أخرى، ص 21. و نلفت الانتباه إلى أن مترجم الكتاب وضع اسم ” سفيتان ” و نأمل أن يكون إدراج اسم المؤلف في أعلى الكتابة على الصيغة السابقة – سفيتان – سهوا لا عمدا.