ثقافةُ المنْعِ في الخِطَاب الدِيني

0 461

يعتبر الإسلاميون أن الممارسة الدينية هي سليلة النص الديني، القرآني منه والحديثي، ومن ثم فممارسة الدين، هي صورة طبق الأصل عن الإرادة الإلاهية، وما يشرعه الإسلاميون هو تشريع إلاهي في الحقيقة وليس بشريا، ومن هنا تكتسب الاجتهادات البشرية والتأويلات الدلالية للنص القرآني طابعا إلاهيا، تنأى بنفسها عن الشك والقصور.
في هذا السياق يتحدث الإسلاميون عن الحلال والحرام، ويعتبرون مصدرهما إلاهيا رغم أن لغة النص القرآني هي مجرد عبارات مجازية قد تقبل من التآويل ما تقبل. ووفقا لهذا التصور، سيحتاج الاختلاف في هذه التآويل بين علماء المسلمين إلى تبرير منطقي، قد يجعل بعض المسلمين يعتقد أن للأمر علاقة بتعدد الذات الإلاهية أو بأفكار لم تُضبط قبل فعل القول الإلاهي. لهذا يدعو كثير من المفكرين المستنيرين إلى ضرورة الفصل بين القرآن من جهة، وفهمه من جهة ثانية، باعتبار أن الأول كلام الله، والثاني كلام البشر.
ترتبط إذن ثقافة المنع والمصادرة بالشريعة والممارسة الدينية وليس بالقرآن في حد ذاته، باجتهادات بشرية لا بالدلالات القرآنية الواضحة. لهذا فكل تحريم وكل منع أو مصادرة قابل للدحض والتفنيد، كما هو قابل للتأكيد والإثبات. ففي مصر منعت رواية “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ، ومنعت كذالك رواية “مسافة في عقل رجل” لعلاء حامد، ومسرحية “الإلاه يقدم استقالته” لنوال السعداوي. وفي دول إسلامية كثيرة منعت رواية “الآيات الشيطانية” للكاتب الهندي الأصل سلمان رشدي. وفي المغرب منعت سيرة محمد شكري الذاتية التي كان عنوانها “من أجل الخبز وحده”، والتي نشرت في طبعتها العربية بـ”الخبز الحافي”، كما منعت “كان وأخواتها” لعبد القادر الشاوي وغيرها من النصوص.
إن قمع الخطاب الديني لكل اجتهاد جديد يجعل المسلمين يعتقدون أن الإسلام يخاف من “رواية” كما في حالة سلمان رشدي أو نجيب محفوظ. ونضيف أن علي عبد الرازق الذي حاول البرهنة على أن هنالك فصلا بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية في التاريخ الإسلامي القديم من خلال كتابه “الإسلام وأصول الحكم” أحرق الإسلاميون كتابه وطورد في أصقاع الأرض. وهذا النوع من القمع للذين خرجوا عن النسق العام المرسوم من لدن المجتمع وأشكال الفهم الديني طال أيضا اثنين من القضاة في العصر العباسي بسبب احتجاجهما على بعض القراءات، كما ذكر ذلك محمد أركون في كتابه “تاريخية الفكر العربي الإسلامي”.
وقد ذكر أحمد أمين في “ضحى الإسلام” أن المعتزلي بشر المريسي عندما قال بخلق القرآن، قال عنه هارون الرشيد: “والله إن أظفرني الله به لأقتلنه”، لهذا عاش متخفيا طوال حياته. كما يذكر أن رجلا من أهالي النهروان حج إلى مكة في أيام الهادي ووصف طواف الناس بـ”بقر تدوس في البيدر” فقتله الهادي ثم صلب. ونحن لا نورد هذه الأمثلة إلا لنؤكد على فكرة سديدة لها ما يثبتها في التاريخ الإسلامي وهي أن المنظومة الدينية تقمع التفكير. وقد أكد “برتراند راسل” على هذه الفكرة قائلا إن “وظيفة الدين لم تكن تساعد على ممارسة المغامرة العقلية” (حكمة الغرب، ص.28).
إننا لا نقول إن ثقافة المنع تتوقف على الخطاب الإسلامي ، ذلك أن الأديان الأخرى لها نصيب من ذلك أيضا. لكن الفرق يكمن في أن فهوم الدين الإسلامي ما زالت تمارس رقابة على الأفكار الجديدة لا تضاهيها في الحدة والصرامة سوى الخطوط الحمراء التي ترسمها الدولة وتوبخ توبيخا حادا كل من فكر في تجاوزها. وفي هذا الصدد يذكر “بول جونسون” أن “الذين كانوا يبيعون الكتب الممنوعة آنذاك، كان يمكن أن يقضوا عشر سنوات في التجديف على السفن الشراعية كنوع من العقاب، وفي يوليو 1949 ألقي القبض على “ديدرو” ووضع في الحبس الانفرادي في قلعة “فانسان” لأنه نشر كتابا يدافع عن الإلحاد” (دار شرقيات، المثقفون ص.14). وأضاف أن “مجلس النواب الفرنسي اعترض بشدة على العواطف والأفكار المضادة للكاثوليكية التي جاءت في “إميل”، وقام بإحراق الكتاب أمام قصر العدل وأصدر أمرا بالقبض على “روسو”.. وظل هاربا لعدة سنوات”(16).
لهذا فالخطاب الديني سيظل رهين حساباته التقليدية ما دام مصرا على امتلاكه، دون غيره، للوصاية الدينية على ضمائر الناس، ولن تتوقف رقابته على الإبداع والفكر ما دام يعتبر تآويله للنص القرآني من صميم الدين وليس مجرد تأويلات وفهوم بشرية للنص الديني. وأظن أنه آن الوقت لتشكيل صحوة نقدية لغربلة التراث اعتمادا على الأدوات المنهجية الحديثة، لإغلاق الميتافريقا التقليدية على غرار المبادرات التي قام بها نيتشه وهوسرل، ودريدا من بعدهما، لعله يتشكل لدى الناس وعي نقدي بديل للسمع والطاعة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.