جدلية العدالة والديمقراطية
كثيرا ما حير موضوعُ العدل والعدالة فقهاءَ القانون بكل درجاتهم ، وذلك لارتباط العدالة الوثيق بالمصالح الخاصة والعامة ولتوقف اكتساب بعض الشرعيات عليها . ومرد هذه الحيرة أن المجال ” زئبقي ” يستعصي على الحصر و الإحاطة ، لذا غدت كلمة إصلاح العدالة مطلبا يوميا لكل الشعوب والأمم ، مطلب يتداوله القانونيون في جلساتهم الاكاديمية ، ويرفعه السياسيون شعارا براقا في حملاتهم الانتخابية ، وقد يضعونه على رأس أولوياتهم ، حتى إذا وصلوا الى سدة الحكم أدخلوا تعديلات على القوانين السائدة ، ولكنها لا تلبث بدورها أن تتعرض للبِلى والتجاوز لتتجدد المطالب في حلقة جدلية لا تحدد هدفا فتصل اليه أو تؤسس مُثلا تطمئن إليها . من هذا المنطلق تُطرح مجموعة من الأسئلة المثيرة من قبيل : هل يمكن للعقل البشري أن يصل باجتهاده الى وضع قوانين لتحقيق العدالة في المجتمع ؟ هل يمكن ضمان استقلالية حقيقية للعدالة في ظل نظام غير ديمقراطي ؟ ما هي الجهة المؤهلة لفرض العدل بين الناس ؟ ما هي الموازين / القوانين المستعملة لتحقيق هذا العدل ؟….
أسئلة وأخرى تثيرها الوقائع الغريبة التي نعيشها ونراها في شتى أصقاع العالم ، خاصة في وطننا العربي ، حيث توضع العدالة في قفص الاتهام ، بسبب الشبهات التي تحوم حول بعض أحكامها ، ذلك أن العدالة كما يدل على ذلك اسمها كل لا يتجزأ ، ولا يمكن القناعة بنصفها أو ربعها أو أقل من ذلك أو أكثر ، إما أن تتحقق ويخضع الكل لمطرقتها ، فنقول هذا عدل أو تنعدم وقد تنتـقي ، فنقول هذا ظلم وجور .
حينما يرتكب شخص ما جريمة ما ثم تثبت الإدانة بالأدلة القاطعة التي لا تدع مجالا لتشكيك المشككين أو حتى شبهات المغرضين ، فيتم الحكم على الجاني بعقوبة قد ترضي الأطراف المتضررة وقد لا ترضيهم ولكنها على العموم تثبت أن العدالة قد أخذت مجراها الطبيعي بناء على نصوص قانونية ، عندها نحس بشكل فطري أن سلطان العدالة ما زال متربعا على عرشه ، لأن العبرة في نهاية المداولة هي أن يُدان المجرم وينالَ العقوبة . غير أن الامتيازات و الصلاحيات التي تعطى لرؤساء الدول في العفو عن المحبوسين والمُدانين أو التخفيف من عقوباتهم ، غالبا ما تُفقد بعض الأحكام قدسيتها والغاية التي من أجلها أُقيمت العدالة ، عندها تتهاوى العدالة من عرشها وتعطي صورة مشوهة للعدل ، وتُفقد المواطنين كل ثقة في التقاضي عندها . وهذا حتما من شأنه أن يؤثر على كل مجالات الحياة بما في ذلك السِّلم الاجتماعي .
وعندما يحتكم طرفان سياسيان أو مجموعة من الأطراف الى صناديق الاقتراع ، ويُفسح المجال أمام الجميع لعرض برنامجه الانتخابي بكل حرية وبدون ضغوط ، ثم تتوق النفوس إلى طرف محايد لمزيد من الشفافية والنزاهة فيتم الاتفاق دون إكراه على لجان دولية متمرسة في تتبع مثل هذه النِّـزالات … وبعدما تتمخض الصناديق فتلد مولودا ” شرعيا ” ، تتعالى الأصوات المهزومة والنافدة في مفاصل الدولة معلنة وجود اختلالات وعوار وتزوير ، ثم تلجأ الى القضاء الذي يحشر من النصوص قديمها وحديثها ليبث في القضية معلنا في نهاية المداولة أن الانتخابات تتناقض مع مادة معينة من القانون . فهل نصدق هذه العدالة أم نصدق عدالة أصوات الشعب التي رضيت حزبا أو شخصا ليكون ممثلا أو قائدا ؟ ألم يكن هذا القاضي الذي أصدر هذا الحكم والذي أشرف على هذه الانتخابات ، عالما بجميع المواد التي ينبغي احترامها لتكون مشروعة ومقبولة ؟
مثل هذه الحالات حدثت في مجموعة من الدول العربية قبل الربيع العربي وأثناءه : (الجزائر وفلسطين وتونس ومصر والسودان … ) وتبين كيف يتواطأ القضاة المؤمَّنون على تطبيق عدالة الله في أرضه ، مع فئة من السياسيين الذين لا يرون العدالة عدالةً الا عندما تحمي وجودهم وتؤمن مستقبلهم ومستقبل أبنائهم لقيادة هذه الدول المغلوبة على أمرها .
ففي الجزائر ، حدثت انتفاضة شعبية بسبب أزمة الخبز خلال التسعينات وخرج الشعب الى الشوارع في البوادي والمدن بعدما عانى ويلات ” الحُكرة ” كما يسميها الجزائريون و الحرمان والقهر الذي حكم به العسكر أمةً تمشي على نهر من البترول والغاز . كان المطلب الاول هو توفير الخبز للمواطنين ثم تطور الى مطالب سياسية بزعامة حزب مغمور ومقموع وغير معترف به هو حزب “الجبهة الاسلامية للإنقاذ ” الذي انتزع عدة مكاسب انتهت بإجراء انتخابات جماعية وبرلمانية اكتسحها بإرادة شعبية منقطعة النظير في انتظار إجراء انتخابات رئاسية . غير أن مطرقة العدالة التي يحركها العسكر، ضربت بقوة وألغت جميع الاستحقاقات السابقة بحجج ودفوعات عرف القاضي قبل غيره ، أنها باطلة ، وجرَّمت زعماء الحزب وصنفتهم في خانة الارهابيين ثم ألقت بهم في غياهب السجون ، فطويت صفحة من صفحات النضال السلمي للحرية والانعتاق ليُفتح كتاب مُوقع بالدماء ، دماء الأبرياء من المواطنين والأهالي الذين صدقوا قصة الانتقال السلمي للسلطة من يد العسكر الى الحكم المدني .
وفي فلسطين ، حنَّ أبناء الوطن المحتل الى عبير الديمقراطية وتدبير الشأن العام بواسطة انتخابات يعبر فيها الشعب عن إرادته ، بعدما اقتُطعت لهم قطع أرضية ( غزة وأريحا ) ، فنظموا استحقاقات نزيهة أبهرت العدو قبل الصديق ، ولكن الصناديق أفرزت فصيلا مغضوبا عليه من دول الجوار ومن دول الاستكبار العالمي ، هو حزب حركة حماس ، الذي شكل حكومة وحدة وطنية في إشارة قوية منه الى الرغبة في لمِّ شمل المتنافسين أبناء الوطن الواحد . غير أن عدالة ” الدولة العبرية ” تحركت في كل الاتجاهات ، وعملت على شيطنة هذه الحركة التي استعصت على التدجين ورفضت كل أشكال المساومة ، ثم انخرط “عباس” في اللعبة القذرة فأقال الحكومة المنتخبة معتمدا على “عدالة ” نصوص قانونية صاغها على مقاس سلطته المحتلة وما يمليه الهوى والمصالح الشخصية ، فكان العقاب الجماعي وتشتيت الوحدة ثم الحصار الذي ما زال مستمرا الى غاية كتابة هذه السطور .
وفي تونس ، مهْدِ الربيع العربي ، فازت حركة النهضة بأغلبية مقاعد المجلس التأسيسي الذي أنيط به تشكيل حكومة انتقالية وتهيئة الأجواء لإعداد دستور حداثي يرضاه الشعب ، تليه انتخابات تقطع مع عقود من التزوير وانتهاك الارادة الشعبية … غير أن الضغوط الداخلية والخارجية كادت من شدة تشويهها لصورة هذه الحركة أن تعصف بآمال التونسيين في التخلص من المستبدين ، وقد انخرط القضاء بكل “هِمة ” في هذه المهزلة بالصمت أحيانا وبأحكام مسيَّسة أحيانا أخرى . صحيح أن هذه الحملة الشرسة قلبت الموازين وأضعفت من الزخم الذي حصدته إبان الثورة ولكن ما حدث بمصر أنار الطريق أمام زعماء هذه الحركة وجنبهم الوقوع فيما لا تحمد عقباه ، فكان الحوار وكان التنازل وانتهت الأزمة بقليل من الخسائر وكثير من الأرباح هي أن الوطن على الطريق الصحيح ولكن بعدالة ما زالت تترنح بين أعمدة قصر ” قرطاج ” .
وفي مصر ابتهج العالمُ كلُّه لانتصار ثورة الكادحين تحت شعار واحد : عيش ، كرامة ، عدالة اجتماعية ،… وانتظر الكل ما ستؤول اليه الأمور بعد المخاض العسير ، والمد والجزر بين الثوار الذين وجدوا أنفسهم وجها لوجه أمام خصم عنيد ومتمرس ، تجدرت عروقه في كل مفاصل الدولة . سيطر على الجميع ذهول ما بعد النصر ولم يدركوا أنهم يعيدون وقائع معركة ” أُحُد” التاريخية حيث انطلق المسلمون وراء الغنائم ولم ينتبهوا إلا وقد داهمهم العدو من خلفهم فجرعهم كأس هزيمة كاد على إثرها أن يتبدد جيش الاسلام . كذلك تشتت الثوار المصريون وانقسم الحزب الواحد الى أحزاب وبدأت العملية السياسية بانتخابات لا تكاد تعلن نتائجها حتى يصدر عن المحاكم التي يصفونها بالشامخة حكم بإلغائها ليبدأ من جديد شوط آخر من اللغط واللغو ينتهي بالمزيد من التشتت والضعف .
وتنتهي الدراما المصرية بانقلاب قاده ” القضاء الشامخ ” على أول رئيس منتخب ديمقراطيا في تاريخ مصر ، سلَّم بموجبه مفاتيح القيادة لعسكري نشأ وتربى في أحضان الدولة العميقة ، ولكنه مطيع وفيٌّ لآلهة “العدالة الشامخة ” لذا رُفعت الأقلام وطويت الصحف وتزوجت “الدبابة” ب”الميزان” في محراب إبليس . ومنذ ذلك اليوم أصبحت كل القرارات ، حتى التي تتناقض مع المصالح العليا للبلاد ، أصبحت قرارات شجاعة شرعية تبوئ صاحبها منزلة الأبطال الفاتحين . ثم توالت أحكام الاعدام بالجملة على الثوار ” المتمردين ” وأحكام البراءة لصالح القتلة المعتدين .
هذه أمثلة حية عن حالة العدالة في أوطاننا ، وما خفي عن أعيننا أقوى من أن يتحمله قلبُ إنسان ، ذلك أن ما تموج به السجون والزنازين التي تشرف عليها هيأة العدل ، من اغتصاب وانتهاك لحرمات الآدميين أعظم هوْلا مما يتم الكشف عنه بين الحين والآخر (أبو غريب / النطرون / تازمامارت … ) . فهل بعد كل هذه الانتهاكات والتجاوزات وانخراط القضاة في السياسة نصدِّق مقولة ” استقلالية القضاء ” ؟ وهل يمكنك – أيها المظلوم – أن تحمل مظلوميةً تنوء بقلبك الضعيف الى ظل قاضٍ يخفف عنك من وطأتها ؟
إن تطبيق العدالة كسلطة حامية للحقوق وضابطة لشرعية المؤسسات في المجتمع ، لا يمكن أن يتحقق على الوجه الأمثل حتى في أقوى الأنظمة إيمانا بالديمقراطية وحقوق الانسان ، و ذلك راجع – في رأيي – لثلاثة أسباب :
1 – إن الكثير من النصوص القانونية بقدر ما يسعى واضعوها لتكون قاعدة مثالية للكثير من القضايا ، بقدر ما تتميز بالتمطيط مما يفسح المجال أمام المتحاكمين لتأويلها تأويلات براغماتية متعددة ، هذا إضافة الى كونها منبثقة عن مجالس ومؤسسات غير منتخبة ، وبالتالي فمضامينها لا يمكنها أن تتنافى مع إرادة وتوجهات الحاكم الذي عين هذه المجالس والمؤسسات .
2 – إن القُضاة ، بحكم النشأة والانتماء والمحيط … يستحيل أن تكون قراءاتهم لهذه النصوص متناغمة وموحدة ، ففي قضية واحدة يُحكم على مجموعة من المتهمين بأحكام مختلفة تتباين بين الإدانة والبراءة رغم أن الجُرم واحد ، وفي تعليل الأحكام يقرعون آذاننا بمصطلحات قانونية مثل : قرينة البراءة ، ليس في نيته إلحاق الضرر ، …
3 – عدم تنفيذ الأحكام : فالكثير من الأحكام القضائية التي يكون أحد طرفيها من الفئات الاجتماعية الضعيفة لم تعرف طريقها الى التنفيذ وقد مات أصحابُها ونسي الحفدة أن جدهم مات وهو يلهث جيئة وذهابا بين أروقة المحاكم . ومعلوم أن الأحكام لا تكتسب قوتَها ، كما يعرف ذلك أهل القانون ، إلا عند التنفيذ وهنا تتجلى أيضا قوة القضاء وهيبته ، قال عمر رضي الله عنه يوجه أبا موسى الاشعري الى حقيقة العدل : ” … إن القضاء فريضة محكمة ، وسنة متبعة ، فافهم إذا أدلي إليك ، وانفُذ إذا تبين لك ، فإنه لا ينفع تكلمٌ بحق لا نفاذ له …” هذا هو المفتاح الحقيقي لعدالة نسبية ” اُنفذ إذا تبين لك ” ، يقولها الحاكم للقاضي ويقوي عضده بقوة تنفيذية لا تتردد في التنفيذ بعدما يتبين الحق وينجلي . أما عندما تعلو سلطة أخرى ( مال أو جاه … ) على سلطة القضاء فالنصوص القانونية ، مهما بلغت من الدقة ، ستظل حبراً على ورق .
وخلاصة القول ، فإن العدل الذي نصبو إليه ونتمناه يستحيل أن يتحقق في غياب هياكل ومجالس منتخبة بشكل ديمقراطي ، وإذا حدث في التاريخ أن تم تسجيل بعض المواقف لبعض الشخصيات فإنها لا تعدو أن تكون فلتات ظرفية لا ترقى الى مستوى القاعدة . فثنائية الديمقراطية والعدالة مترابطان يكمل أحدهما الآخر ، فالعدل ينمو ويترعرع في تربة الديمقراطية ، حيث تحظي كلمة المواطنين بقدسيتها وقوتها وهيبتها . كما أن الديمقراطية تزداد صلابة وقوة في ظل وجود عدل مبني على التجرد من كل انتماء سياسي أو قبلي أو ثقافي . من هنا فإن ما حدث ويحدث من انتكاسات ورِدَّة على الثورات التي عرفتها أوطاننا في الآونة الأخيرة ، هو نتاج طبيعي لحالة المؤسسات التشريعية والقضائية التي ورثناها عن أزمنة الاستبداد التي تربينا في أحضانها . فالوعي العربي ، من شدة تدجينه لم يستوعب فكرة المنافسة بين الأحزاب ثم التسليم بالنتائج في انتظار نزال مقبل ، هو ألف أن يعيش مهرجان الانتخابات متقلبا بين الموائد ، وقلبُه على وليمة نقدية أو وعد بتوظيف أحد الأقارب ثم يرى الحزب المَرضي عليه فائزا بنِسب تفوق المائة بالمائة ساهم في تضخيمها حتى الأموات .