زمن الاصلاح المهدور

عبد الكريم أيت علي

2 766

بعد سنوات من التعيين ،وبعد جولات من البحث المضنى والتقصي الدقيق لجيش من “الخبراء” المحليين والأجانب في المجال التربوي توصلت “مديرية الهيأة الوطنية لتقييم منظومة التربية والتعليم ” وهي مديرية تابعة للمجلس الوطني للتربية والتعليم بالمغرب الى استنتاجات تقدم تعليمنا كجسد بلا روح يجب التسريع بدفنه إكراما له وليس خوفا من انتشار رائحته لأن هذه الحالة ،حالة التعفن والتحلل ، لم تعد خافية على أحد ،وقد فهم من التقرير أن حالات الانعاش والعمليات الجراحية المتوالية لم تسعف تعليمنا لاسترجاع قوته ونشاطه.

ما يثير الانتباه في التقرير هو الطريقة التي قُـدم بها للصحافة الوطنية وعبرها لعموم المواطنين، فقد عرضه عمر عزيمان في شبه ندوة صحفية وكأنه يقدم سبْقا صحفيا إعلاميا لاكتشافات علمية ستملأ الدنيا وتشغل الناس ،أو سرا لم يطلع عليه أحد من العالمين … ثم قدمته رحمة بورقية رئيسة “الهيأة الوطنية ..” عند استضافتها بالقناة الثانية في نشرة إخبارية بطريقة لا تخلو من إثارة وتشويق ، ولكنها أيضا تثير وتجلب عليها وعلى المجلس برمته الكثير من الشفقة والرثاء… ذلك أن الاستنتاجات /المصائب التي توصلوا إليها ،أو بالأحرى اعترفوا بها أخيرا ،تم رصدها قبل أزيد من عشرين عاما :

  • من منا لم ير بأم عينيه الوضع الكارثي لتعليمنا من خلال المنتوج ؟
  • من منا لم يلاحظ أن اكتساب اللغات حتى العربية والتمكن منها قد عرف تراجعا خطيرا ؟
  • من ينكر أن المواد العلمية خاصة الرياضيات تشكل عقبة أمام السواد الأعظم للمتعلمين ؟
  • من ينكر أن نتائج الفتيات في جميع المستويات أفضل بكثير من نتائج الذكور ؟
  • من ينكر ظاهرة التسرب الدراسي في جميع الاسلاك؟

هذه هي أهم الخطوط العريضة لتقرير بورقية وهي ملاحظات لا تحتاج الى كل هذا الوقت الذي استغرقه المجلس للتوصل اليها ، فتقارير المجالس التعليمية والتربوية بجميع المؤسسات طافحة بهذه الخلاصات وغيرها فما على المجلس الموقر إلا التواضع والاطلاع عليها ،فهي مركونة في رفوف المديريات ،وسيربح الكثير من الوقت والكثير من الجهد .

لقد نـبَّه الحسن الثاني الى المشكل في إحدى خطبه ووعد المغاربة بإيجاد حل للوضعية التعليمية واعتبار التعليم القضية الثانية بعد قضية الصحراء …وشُكلت لِجن اشتغلت في مكاتب مكيفة بالرباط وسيلتها للتواصل مع العالم الخارجي ،الهاتفُ أو ما يأتي من تقارير أجنبية عن “التعليم بالمغرب”… وخرجت بتوصيات لم تعرف طريقها الى التطبيق لسببين :

أولا :لأن استنتاجاتها كانت فوقية وجاهزة منذ اليوم الأول كما جرت العادة مع مثل هذه اللجن التي يراد أن تكون تقاريرها رجْعا لصدى ولي نعمتها ، عليها أن تثمن وتبارك الرؤية الثاقبة واختيارات الحاكم وتوجه أصابع الاتهام للفئة المستضعفة .

ثانيا : لأنها لم تشرك الفاعل الأساسي في المنظومة وهو الأستاذ في كل أماكن تواجده ، وبكل درجاته ،سواء كان مدرسا في الفصل أو مكلفا بأعمال الادارة التربوية أو في سلك التوجيه و الاستشارة… بل نظرت إليه كما يُنظر الى القاصر المحجور عليه ،وطوقته بمراسيم ومقررات ومذكرات مختلفة ومتباينة ينسخ بعضها بعضا .. .وتراجع التعليم خطوات أخر .

ثم شُكلت لجنة أخرى فصاغت دستورا لإصلاح المنظومة التربوية سمته “الميثاق الوطني للتربية والتكوين” وأضفت عليه صبغة القداسة والاجماع الوطني (من خلال العنوان) وحددت لتنزيله أفقا مداه عشْر سنوات :2000-2010

هذه “الخطة العشرية” التي جاءت على شكل فصول وأبواب سميت دعامات وركائز ،بقدر ما أبهرت المعنيين والمشتغلين في المجال ببريقها ولمعانها بقدر ما أدخلتهم في حيرة من طريقة التنزيل فالخطة في مضمونها ومثالياتها ترسم إصلاحا لدولة أخرى أغنى مالا بكثير من المغرب وأرسخ قدما في الديمقراطية من المغرب…وهذا ما يفسر الاضطراب الكبير في تنزيل جل الدعامات والمضامين خاصة المتعلقة بالبرامج التعليمية التي تنقل المدرسة المغربية من مدرسة الكم الى مدرسة الجودة حتى أوشكت العشرية على الانتهاء ، وبقي “الميثاق” يترنح فتم إنعاشه بالمخطط الاستعجالي الذي جاء على شكل أبواب موشومة بحروف لاتينية (EP1– EP2…)حيث انتعش كبار المسؤولين من الصفقات بشتى أنواعها :(الحواسيب/ تسوير المؤسسات/ التكوينات…) وتحول المدَبر التربوي الى منعش عقاري بفضل “الأموال” التي رُصدت للمخطط فاستفادت بعض المؤسسات من الترميم/التسوير، وبعضها من “منحة” استُغلت في تهيئة الحدائق … ومات التعليم لأن ما سمي إصلاحا في المجمل تمت صياغته من “خلطات” و توابل بعضها أوروبي وبعضها أمريكي ولكن أفرغ في قالب مغربي وظل الفاعل الأساسي (الأستاذ) مغيبا ولم يُستشر مرة أخرى بل تفننت كاتبة الدولة في التعليم آنذاك في ‘توشيحه’ بصك الاتهام: أنه لم ينخرط بشكل إيجابي و فعال في الاصلاح !

إن أزمة التعليم بالمغرب اليوم هي نتيجة طبيعية لسوء تدبير مسؤولينا وسوء تعاملهم مع  المتغيرات الدولية والوطنية ،فقد كان هاجس الاصلاح ينوء بثقله على الجميع ،وكانت التقارير الدولية المتتالية عن تعليمنا تؤرق المسؤولين أكثر مما يؤرقهم وضع المدرسة المغربية ،لذا كان يتم تشكيل اللجن على عجل أو الاستعانة بمكاتب دراسات غربية يُعهد إليها بوضع خطة للإنقاذ (كما حدث مع بيداغوجيا الادماج وغيرها من البيداغوجيات) ، فلا يتم الشروع في التنفيذ حتى يتغير “المدرب” فيُبهرنا بخطط جديدة تلغي السابق وتعيد التعليم الى المربع الاول .

إن الارتجالية والخطوات غير محسوبة العواقب هي السمة الطاغية على قرارات المتعاقبين على أمر تعليمنا بــدءً من سياسة التعريب والمغربة الى اليوم ، فالمرتكزات الوطنية وفلسفة حقوق الانسان وسياسة محاربة الأمية والتعليم للجميع … كلها أسس تم التعامل معها بطريقة “بليدة” جلبت على التعليم الخراب والدمار اللذين نتخبط في مستنقعهما اليوم ، فالتعريب أثبت فشله وبدأنا نفكر بجد في كيفية التراجع عنه دون خسائر ،كما أن رفْع حواجز المعدل (10/5 أو 20/10 ) بين المستويات بدعوى تعميم التعليم ومحاربة الهدر والأمية  هو ما أثر بشكل مباشر على درجة اكتساب المعارف ، فالخريطة المدرسية هي ما يحدد نسبة النجاح وليس ما اكتسبه التلميذ من معارف مما أدى الى اغتيال روح المنافسة لدى المتعلمين …. ثم إن فلسفة إرجاع المفصولين ، وإن كانت تحمل في طياتها نية إعطاء فرصة ثانية للمفصول  لإنقاذ مستقبله الدراسي، فإنها شكلت ،الى جانب مذكرات تجريد “مجالس الانضباط” من بعض صلاحياتها ، شكلت السند القانوني لتنامي العنف المدرسي وانتشار مظاهر التسيب والـلا أمن في فضاء لا يضاهيه في القداسة والأجر إلا المسجد .

إن أي إصلاح يحدد رضى المؤسسات الدولية هدفا وغاية سيكون مآله الفشل الذريع ، ذلك اننا نحاكي ونتماهى مع ما حققه الآخرون ولكن بإمكانيات ضعيفة ، مما يؤدي الى هدر فظيع لزمن الاصلاح وخير مثال على ذلك ، خطة تعميم التعليم فقد تم تبني هذا “الحلم” ولم تواكبه بنية تحتية من المؤسسات ولا موارد بشرية من الموظفين مما أدى الى اختناق العديد من المدارس واللجوء الاضطراري الى سد الخصاص بفئة جديدة من الموظفين “المتعاقدين” تضاف الى فئات الخدمة المدنية والعرضيين و03 غشت والتوظيف المباشر والمتدربين… وهذا وجه آخر من وجوه الارتجال .

2 تعليقات
  1. مهتم يقول

    تحليل عميق و تشريح دقيق …الكل يعلم كيف تتم التجديدات البيداغوجية بشكل فوقي يضمن الاستفادة للمسؤولين من الميزانيات المرصودة :جيني .مسار,,,مسير المناهج ,,,,,, مما يدفع بكل العاملين في المجال التربوي بالشعور بالاغتراب حيث يقوم بتطبيق أشياء لم يساهموا في صياغتها مما يؤدي إلى عدم النجاعة في تطبيقها .و حتى بعض الاستشارات التي تقوم بها وزارة التربية من حين إلى آخر فهي مسرحيات لإضفاء مشروعية على الخيارات المحددة مسبقا.

    1. ملاحظ يقول

      للاسف الشديد تضيع الاموال والفرص والمجهودات ويضل التعليم على حاله

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.