سليمان والجن
مازالت ذاكرتي تحتفظ لي بمجموعة من الأحداث خلال فترة طفولتي ، أحداث عادية بسيطة لم أكن أعيرها أي اهتمام ، من ذلك أنني عندما كنت تلميذا بالسلك الابتدائي ( القسم الثاني) ، دخل علينا ذات يوم رجل بملابس أنيقة ونظارات شديدة اللمعان وفي يده اليمنى محفظة ضخمة من الجلد الأحمر وفي يده اليسرى مجموعة من المفاتيح … سلم على المعلم وحياه بكلمات مقتضبة لم نفهم منها نحن – الصغار – أي شيء ثم دلف بخطوات هادئة الى المقعد الخلفي للقسم حيث أخرج مجموعة من الدفاتر والأوراق . ظلت عيوننا تراقب حركاته وسكناته ، ولم يثننا عن ذلك غيرُ صوت المعلم الصارم : انتبهوا الى السبورة … وفي حركة واحدة كانت العيون كلها مُسمرة الى اللوح الأسود ، بدأت حصة ” الأشياء ” التي أصبحت تسمى ” النشاط العلمي ” ، كان الأستاذ يطرح السؤال فيقفز الكل من طاولاتهم رغبة في الجواب ، تحول القسم الى خلية نحل نشيطة ، وكنا نرى علامات الارتياح على وجه المعلم ( الأستاذ) فنزداد حيوية ونشاطا ، وقد زاد من حماسنا تلك المعاملة المثالية و الحنان الذي يفيض من قلب المعلم مجسَّدا في ابتسامته الحلوة التي لم تفارق شفتيه طوال الحصة وكلامه اللطيف حتى مع الذين لم يوفقوا في الجواب ، كانت كلمات الثناء وأوسمة الجِد تُنثر هنا وهناك : “حاسن” ، ممتاز ، لا يا بني ، عظيم ، رائع ، أحسنت ،… وكنا نتسابق لسماعها وتَقلُّـدها ، اعتقدنا ذلك اليوم أننا قد قطعنا مع مرحلة ” العقاب ” وأن يوما جديدا قد انبلج صُبحه عن عهد لا نرى فيه تلك “العصا ” ممددةً على مكتب المعلم ، تزيغ الأبصار لرؤيتها وتبلغ القلوب الحناجر عندما تصير بيد المعلم .
وأطوي صفحا لأجد نفسي أنا – ذلك التلميذ الشاهد على هذه الوقائع – في نفس موقف ذلك المعلم ، وكأن التاريخ يعيد نفسه ، كان الوقت صباحا عندما زارني موظف أنيق قدم لي نفسه على أنه مفتش تربوي ، رحبت به ، شعرت للحظة بنوع من الدهشة ، أنا ” العَرضِي ” الذي لم يسبق لي أن تلقيت تكوينا في الميدان خلا تلك التجربة المتواضعة التي راكمتها بالاحتكاك مع زملائي في المهنة ، استجمعت قواي وفي قرارة نفسي أن هذه فرصتي للاحتفاظ بوظيفتي ومستقبلي ، شرعت في الدرس ، وكم كانت دهشتي كبيرة عندما رأيت التلاميذ كلَّهم بمن فيهم تلك الفئة المداومة على الكسل والتهاون ، قد هبوا بحماس يريدون المشاركة في الدرس ، كانوا يختطفون السؤال من فمي فيجيبون بكل أدب ونباهة ، ووجدتني – على غير عادتي – أوزع الاستحقاقات و أقوم الهفوات والأخطاء بلغة مهذبة رقيقة كالتي سمعت من قبل ، مع بعض المستجدات : أحسنت ، عظيم ، ما شاء الله عليك ، مدهش ، ماذا دهاك اليوم يا ولدي؟… كان كل شيء يسير بوثيرة أثارت إعجابي ، و خرج من جُبَّـتي ما لم أكن به عليما ، والحق يقال أنني أنجزت حصتي دون تكلف أو تصنع باستثناء تلك الطاقة المتفجرة والتي زرعها في أعماقي حضور ذلك الضيف ” الثقيل “.
في نهاية الحصة خرج المفتش وهو يعبر لي عن إعجابه بطريقتي في التعامل مع تلامذتي ، مع بعض الملاحظات تهم كراسات التلاميذ … عدت الى بيتي وفي نفسي عهد غليظ لهؤلاء الأبطال أن أعاملهم بنفس اللطف والرقة .
في اليوم الموالي شرعت في إنجاز الحصة وفي دمي ما زالت تسري تلك الحيوية وذلك النشاط ، كنت أطرح السؤال مرة ومرات فلا أرى إلا بضعة أصابع ترتفع هادئة صامتة ذابلة ، خيم صمت عجيب على القسم حاولت تفجير أفكارهم ببعض القصص كما فعل معنا ذلك المعلم ، ولكن لا حياة لمن تنادي ، صِحت في وجوههم كما صاح في وجوهنا ذلك المعلم : ما الذي تغير بين الأمس واليوم ؟ ، فبدأ هدير الـدم في العروق يعلـو ، وبدأت نبضات القلب ترتفع ، وامتدت اليد تلقائيا الى ” العصا ” وتململ القسم قليلا قليلا وطوينا صفحة الأمس كما طواها ذلك المعلم في انتظار زيارة أخرى .
واليوم وقد راكمت من التجارب في الحياة ما يسمح لي باستنتاج خلاصات ، فإن ما حسبته أحداثا بسيطة في طفولتي لم يكن كذلك ، بل هي أحداث عظيمة ومشاهد تاريخية أبدية ما زالت تتكرر في كل المجالات ، ولكن في قوالب متنوعة وشخصيات مختلفة . بل استطيع أن اقول : إن ما يتحقق من منجزات ثقافية واقتصادية وسياسية ، وكل طفرة فكرية أو حضارية ما كانت لتتحقق لولا ذلك ” السلطان القهري ” الذي يوقد جدوة الخلق والانتاج بداخلنا ، فتحدث تفاعلات كيميائية تفضي الى ما يسميه علماء التربية ” الزوبعة الفكرية ” أو ” الزوبعة العضلية “.
هذا السلطان القهري يتخذ أشكالا عديدة بحسب المجال . ففي المجال الاقتصادي المرتبط بالأشغال والبناء أو الأعمال الفلاحية ، يكون حضور رؤساء الأشغال والمديرين الى الورشة ، فزاعة للعمال والعاملات ، فتراهم منهمكين في أشغالهم بكل جد وإحسان ، لا يلتفتون لا الى اليمين ولا الى اليسار وكأنهم آلات من حديد لا تشعر بالنصَب ولا باللغوب ، يجهدون أنفسهم ، يبدعون في تجسيد معنى الاخلاص في العمل ، بل ترى المحترفين منهم يشجعون المتدربين والمبتدئين على التفاني من أجل ” لقمة الحلال ” … فإذا غاب ذلك ” السلطان ” ارتفعت من بين جدران المعمل أو بين الأشجار المثمرة تنهيدة عميقة أن ” أووووف ” ، و عاد العمال والعاملات الى حالة التراخي والكسل في انتظار عودة غير مرحب بها ” للسلطان القهري ” .
وفي مجال التدبير الاداري بكل سلاليمه وأنواعه ، من الوزير الى أصغر خلية إدارية ، فالمذكرات ورؤساء المصالح والمفتشون واللجان ، وفي بعض الأحيان المكالمات الهاتفية تلعب دور هذا السلطان . حيث ترى المدينة قد تحولت بين عشية وضحاها من مقبرة للأحياء الى عروس في هودجها ، فقط لأن شخصية هامة ستقوم بزيارة لتلك المدينة ، فتُعبد الطرقات وتبلط الممرات ويعاد صباغة الجنبات والواجهات وتربط شبكات الماء الصالح للشرب وتستنبت المناطق الخضراء وتزود المؤسسات بالكهرباء وتصلح المصابيح العمومية المعطلة وتنظف المستشفيات وتهرول سيارات الإسعاف بحثا عن المرضى ، ويتواطأ المسؤولون المحليون فيَحجبون أحزمة الفقر ودور الصفيح خلف جدار عازل قد يكلف ميزانية بناء عمارة أو مدرسة أو مستشفى … كل هذا ” ينجز” في ظرف قياسي بأموال محجوزة في صناديق تدعى ” صناديق الكوارث ” . فإذا انتهت الزيارة بسلام تنفس أكبر مسؤول محلي الصعداء ولجأ الى أخذ حمام ساخن يُـدلِّك به عظامه قبل أن يستقبل الهيآت المسؤولة عن تدبير الشأن المحلي من موظفين ومنتخبين ليتلقى منهم التهاني والتبريكات على نجاح الزيارة ، إذ لم تخلف وراءها “ضحايا ” أو فضائح ، بعدها يشرع في التأشير على مصاريف الزيارة وتكاليف التنقلات التي قد تصل الى أرقام خيالية ، ثم يقتطع لسعادته إجازة مفتوحة للتخلص من الرُهاب والحمى اللذان لازماه طوال فترة الاستعدادات …
فهل كان الصبية الصغار في حاجة لحضور مسؤول غريب عنهم ليتنافسوا منافسة شديدة شريفة ، ويبدعوا في الإجابات على الوجه الذي جعل زائرنا المحترم يغادر المؤسسة وقد اطمأن الى أن البرامج الدراسية تنفذ وفق ما هو مرسوم لها ؟ وهل كنا نحن – المعلمين – نجهل طرق التدريس السليمة ( البيداغوجيات ) التي من بينها استعمال الأساليب اللطيفة الرقيقة ونبذ بعض أنواع العنف كما تدعو الى ذلك شتى المذكرات ؟ وهل كان العمال والعاملات في شتى القطاعات يجهلون عواقب الغش والتهاون في العمل ؟ ثم هل كان المسؤولون عن تدبير شؤون الناس ، كبارا وصغارا ، في غفلة عما يموج في المؤسسات العمومية والادارات من فساد وارتشاء وتسلط وسوء تدبير ؟ أليست أحزمة الفقر و” البراريك ” التي تنمو كالفطر على أطراف المدن الكبرى من زراعتهم ؟
الجواب في نظري نعم وبلى ، كلنا نحتاج الى سلطة فوقية ، تحفزنا أو تدفعنا لإنجاز واجباتنا بما يخدم مصلحة العباد والبلاد ، وقد لبثت الجن في العذاب الأليم والأشغال الشاقة قبل أن تدرك أن السلطان القهري ، سليمان عليه السلام قد سلم الروح لباريها كما جاء في القصص القرآني . غير أن انعدام المحاسبة مع المتهاونين وهروب المفسدين الكبار من يد العدالة ، بل تغوُّلهم على هذه العدالة يبعث برسائل سلبية الى ضعاف النفوس ، فينغمسون في وحل الفساد فتنتقل عدواهم الى كل القطاعات ، وهكذا انعكست القيم و غدَت البطولة الحقيقية ، هي البراعة في الغش مع إخفاء آثار الجريمة . ومن يدعي أن تدبير شؤون الناس قد تغيرت أساليبه وأننا في عصر الأنترنيت والكاميرا الخفية ، وأن الدول الغربية قد نجحت في جميع المجالات دون حاجة الى هذا السلطان القهري نقول : إن الغرب قد وصل الى ما وصل إليه عبر كفاح ونضال مريرين ضد الطبقية المتوحشة واستغلال النفوذ ، فنصبوا سلطانا قاهرا فوق الجميع ، هو سلطان العدالة ، يقدسونه ويلجؤون الى رحمته ويحذرون عذابه ، فأصبحنا نرى رؤساء الدول يَمثلون أمام قوة هذا السلطان الى جانب مواطنين لا يؤبه لهم . وهكذا يحس كل مواطن من مواطني تلك الدول ، بقيمته داخل بلده وخارجها فيسعى جاهدا للمساهمة في بنائه . ولَعمري لو اشتغل كل مسؤول منا بصدق وأمانة لا يُحركه إلا سلطانُ الضمير وهمُّ الوطن والمواطنين ، برُبع المجهود الذي يبّذله تحت قوة تأثير ” السلطان القهري ” لربح رضى الله أولا وثقة الناس ثانيا وراحة الضمير ثالثا .