شعراء بالقـوة

0 464

دأبت مؤسستنا عند نهاية كل أسدس دراسي على توزيع بعض الجوائز الرمزية على المتفوقين ، تحفيزا لهم على المزيد من الجد و الاجتهاد وإذكاءً لروح المنافسة بين المتعلمين . وهي جوائز عادة ما تكون على شكل قصص لبعض عمالقة الأدب العالمي ، أو معاجم مناسبة للمستوى الدراسي أو كُتيبات في شتى المجالات …. هذه السنة استقر رأي اللجنة المكلفة باختيار هذه الجوائز على أن يكون للأدب المغربي المعاصر حظ وافر في هذه الاختيارات ، وقد كان لهذه الخطوة هدفان نبيلان :

الاول تعريف التلاميذ بأسماء أدباء و مفكرين مغاربة ساهموا في إغناء خزانة الادب والفكر المغربي المعاصر خاصة ، والفكر الانساني بشكل عام .

الثاني الترويج للكتاب المغربي ونشرُه بين الناشئة لتنمية روح الاعتزاز والافتخار بالوطن وبما يحمله هذا الكتاب من فكر أو رأي أو وجهة نظر .

بعد أسبوع من حفل التكريم ، جاءني تلميذ من السنة الثالثة إعدادي ، وبين يديه جائزته ، يطلب مني أن أساعده على فهم قصيدة من قصائد ( الديوان الشعري ) “رصيف القيامة ” لصاحبه القاص والصحفي ، ياسين عدنان في طبعته الثالثة 2010 . حاولت في البداية أن أضع التلميذ في الاطار العام للشعر الذي يسمونه حرا ، بكونه – حسب ما قيل لنا – يَخرق الحدود اللغوية ويحطم كل القيود والضوابط التي تعرفها اللغة المستعملة الى حد ” الاغتصاب العنيف ” وأنه يلجأ الى توظيف الرموز واستحضار الآلهة القديمة : سيزيف وعشتار وفينوس ويعوق ونسرا … رغبة في رسم صورة تقرب أحاسيس ومشاعر الشاعر من القارئ . كانت غايتي من هذا أن أدفع التلميذ الى إعادة القراءة حتى لا تنطبق عليه مقولة أبي تمام ” لماذا لا تفهمون ما يُكتب … ” ، وكم كانت دهشتي كبيرة عندما أخبرني أنه كان يقرأ المقطع الواحد أكثر من عشر مرات فلا تزيده القراءة إلا غموضا وتيهاً بين الكلمات و المقاطع وأضاف : ” كانت فرحتي كبيرة عندما تسلمت الجائزة ، وشعرت أنني أجالس صحفيا أديبا يُطل علينا من نافذة القناة التلفازية من خلال برنامجه الأدبي “مشارف” كان يبدو لي كنجم يسبح في الفضاء مع بقية الأدباء النجوم ، وعندما بدأت في قراءة “أشعاره” كان صدى صوتِه يتردد في أعماقي كأنني أقرأ بلسانه ، وما إن أطوي صفحات الديوان لاستخلاص معنى من المعاني حتى يُخيل إلي أنني أمضغ كلمات جافة لا زبدة فيها ولا لبن ، كانت كل قراءة لشعره تبعده عني أميالا وتطفئ توهجه في قلبي … ”      

كان صديقي التلميذ يتحدث بمرارة شديدة عن الغموض الذي يلف هذا الشعر، وذكرني بعشرات القصائد من مثله والتي أصبحت تملأ الصفحات وواجهات المكتبات ، فخشيت أن يكون حكمُه عاما على كل الدواوين الشعرية ، فطلبت منه قراءة مقطع شعري علَّنا نقف معا على الجواهر الثمينة التي تركد تحت تلك الألفاظ العنيدة التي تُصر على الاستعلاء والتمنع ، فتلى المقطع التالي من قصيدة ” بحيرة العميان ” :

   هناك قرب بحيرة العُمْيان

   حيثُ كنا نلتقي

   نبتت

   زهرةٌ سوداءْ .

     *****

   لنكن صُرحاءْ

   فالحب الذي كنا نحكي عنه

   في فندق البستان

   ليس هو ما نفعله اليومَ بأجسادنا

   المنهكة

   بعد أن ينامَ الاطفال .

ثم رفع رأسه بهدوء ونظر إلي وعيناه تتساءلان ببراءة : هل فهمتَ شيئا مما سمعت يا أستاذ ؟ فأمسكت منه ” الديوان ” وأعدت القراءة ثم ألقيت نظرة على الغلاف علني أعثر على دليل ينير لي الطريق الى حيث الجواهر المكنونة والدرر المصونة ، ثم قرأت ما ورد في صفحتيه الأخيرتين من شهادات تحت عنوان “إضاءات” وهي عبارة عن مقتطفات من مقالات منشورة بمجلات “نقد” و “الحياة” و”السفير” والأخبار” لكتاب مشارقة ، فخُيل إلي أنني ألهث وراء السراب ، ذلك أن هذه الشهادات جاءت فضفاضة مليئة بالألغاز والغموض وكأنها تُدلي بشهادة في حق ديوان آخر غير الديوان الذي يمثل أمامي ، وخوفا من التجني وإصدار أحكام متسرعة ، وانبهاراً بما ورد في حق الديوان من شهادات “إشهارية” فقد وجدتني أنتقل من قصيدة الى أخرى حتى بلغت نهاية “رصيف القيامة” وهي القصيدة الأخيرة من الديوان ، فأيقنت أن التسلح بترسانة من علم التأويل وفك الألغاز لمواجهة مثل هذا الشعر لن تكون إلا كما قال الاعشى :

كناطح صخرة يوما ليُوهنها (===) فلم يضِرها وأوهــى قرنَه الوعل

فأعدت صياغة السؤال الذي ختم به شاعرنا ديوانه :

” لم أعد أعرف … هل وردة الرمل أم زهرة الكهرباء ؟ “

هكذا :” لم أعد أعرف … أهذا شعر إحساس أم شعر الكهرباء ؟ “

لقد قرأت بعض القصص للصحفي ياسين عدنان : “فرح البنات بالمطر الخفيف”، فوجدت أسلوبه رقيقا مسترسلا يغرف من الأساليب الأنثوية ، يتميز بدقة الوصف أحيانا والاشارات الخفيفة أحيانا أخرى ، كما أنه بارع في توظيف المفردات المناسبة في المكان المناسب ، يحتفل كثيرا باللغة مما يجعل القارئ في بعض الاحيان يتيه في ثنايا السرد ، لذا فما ورد في الشهادات التي أشرت اليها سابقا في حق الكاتب تصدق على هذه الكتابات ، أما عن “شعره” فإنني أرى أنه اقتحم ميدانا لم يُخلق له – كما يفعل غيرُه من الشعراء الجدد – فالرصيد اللغوي من المصطلحات الفخمة ، والمعرفي من الأساطير القديمة لا تصنع شاعرا . وأعتقد أن شهرة عدنان في الصحافة أولا ثم القصة ثانيا قد غررت به وقادته الى السقوط في مصيدة الاحساس بالعالمية المزيفة ، ولا يمكن لعاقل أن يخطئ هذه الاشارة من خلال الاصرار على ختم الديوان وغلافه الخارجي بشهادات “مزيفة” لا تنطبق إطلاقا على الديوان ، وقد تكون نتيجة صفقة سرية أو محاباة ، وهي عادة أصبحت تميز الساحة الأدبية منذ أن أصبح الناقد شاعرا والشاعر ناقدا سواء في الشرق مع أدونيس أو في الغرب مع محمد بنيس ، فقد حدث تواطؤ وتآمر بين الطرفين أدى الى التستر على الرداءة ، إن لم نقل مباركتُها ، و الضحية هو الشعر الرصين والقارئ المتذوق .

هذه هي حالة شعرنا العربي المعاصر منذ أن انطلقت حركة ما يسمى ” الشعر الحر ” مع نازك الملائكة وبدر شاكر السياب اللذين ناضلا بحق ، لرفع قيود الوزن والقافية عن القصيدة العربية ، لكنهما الى جانب شعراء أفذاذ ، في تجديدهم تشبثوا بالرسالة النبيلة للشعر في السمو باللغة والمعنى الى منزلة الخاصة ، لذا جاءت قصائدهم مليئة بالحيوية والصور الجميلة والكلمة الرقيقة والايقاع العذب والرؤية المعبرة عن هموم الانسان . غير أن هذه الحرية تلقفها انتهازيو الكلمة الرقيقة والفن الموهوب فشرعوا يرصفون الكلمات المتنافرة ليشكلوا منها مقاطع يسمونها “شعرا” ، وقد يجهدون أنفسهم ليُـنقِّبوا عن أسماء قديمة تحمل رمزا أسطوريا فيقحمونها في نسيجهم رقعةً قد تستر بعض عوراتهم في النظم أو الايقاع ، ثم بلغ بهم العبث الى حد توزيع الكلمات وعلامات الترقيم على الصفحة كيفما اتفق ، فأصبحنا أمام ” قصائد ” فريدة من نوعها وكأنها بضاعة مصنعة تحت الطلب تحمل من التكلف والصنعة ما لا يخفى على القارئ ، فمن قصيدة مشكلة من بضعة أسطر الى قصيدة ال ( mini) من ثلاث كلمات الى ، الى …، لا مكان هنا للنموذج أو المتعارف عليه الشاعر وحده يملك حرية الهذيان على الورقة ، هو القانون ومصدر التشريع ، هو حر فيما يفعل فلِم لا يتمتع بحريته الى أبعد الحدود ، ألم يكن الشاعر القديم يستغل الضرورة الشعرية فيرفع المنصوب ويجر المرفوع ؟ لِمَ نعيب على هذا ونتسامح مع ذاك ؟ هكذا حطم شاعرنا المعاصر كل القيود اللغوية و الثقافية بهذا الفهم المفرط والخطير للحرية ، مما أدخل الشعر العربي المعاصر من جديد في نفق الابتذال والتكلف والتعالي عن الواقع المر الذي يعانيه الانسان … على القارئ ، في نظرهم ، أن يعيد ضبط عقارب ذوقه الفني حتى يتذوق هذا الابداع الفريد وإلا اتُّهم بموت الاحساس .

إن الشعر سواء كان بالنظم التقليدي أو الحر ، بحسب علمنا ، هو كلام موزون له معنى ، رغم محاولة البعض تجريده من هذه الصفة ، وفهمنا لكلمة “موزون” لا يعني دائما الانضباط لوزن واحد كما تُبنى القصائد القديمة ولكننا نقصد تلك الايقاعات والتموجات الصوتية التي تستمتع بها الأذن عند الاستماع الى قصيدة ما ، وهذا لن يتحقق إلا بحسن اختيار الكلمات عند تدفقها وحسن تناسقها ثم البراعة في تفريغها في جمل شعرية و مقاطع ، الشيء الذي لا يكون إلا لشاعر موهوب . وفهمنا ل “له معنى” أي يحمل رسالة فردية ( رثاء ، غزل ، هجاء …) أو جماعية (قضية وطنية أو إنسانية …) وبهذا التعريف فالشعر يسمو عن الكلام التواصلي المباشر الذي يهدف الى تبليغ رسالة واضحة الى المستمع بخطاب مباشر. ومن هنا كانت العرب تحتفي بنبوغ فارس في الكلمة أو فارس بالسيف لأنها تعلم يقينا وقْع الكلمة حين تخرج من جوف الشاعر ودورها في الرفع من قيمة القبيلة والحط من قيمة الخصم ، ولو كانت ولادة القصيدة بهذا اليُسر الذي جعل الشعر اليومَ مطية سهلة لكل متشاعر ما سمعنا بحوليات زهير بن أبي سلمى ولا بهُيام الفرزدق في الأرض يعصِره ألمُ مخاضِ قصيدةٍ شعرية . ولو كان الشعر تلاعبا بالكلمات و الألفاظ ما بذل الأمراء والملوك الذهب والفضة لحفظ أعراضهم من لدغات الحطيئة والمتنبي وبشار بن برد … كما بذلها غيرهم لاستمالة حسان بن ثابت وأبي تمام و النابغة …

إن تاريخ الشعر العربي على مر عصوره عرف أفواجا هائلة من الشعراء غير أن ما تتداوله الألسن وتتناقله الكتب جيلا بعد جيل أقل بكثير مما هو موجود ، ذلك أن الذاكرة الجماعية للشعوب لا تحفظ إلا ما يفيض بالنزعة الانسانية المشتركة ، ومهما حاول البعض استغلال موقعه الاجتماعي أو الاقتصادي لتلميع سلعته وترويجها فإن ” الزبد يذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ” هذه هي الحقيقة التي لا تعرف المجاملة ، فالفن الرفيع يظل رفيعا ولا يمكنني مهما حاولتُ وأْدَك أن أفلح في مسعاي . لقد حقق الكثير من الأدباء بإبداعاتهم شهرة طارت في الآفاق ، فلما اعتقدوا أنهم ارتقوا الى مصاف المعصومين من الخطإ ، بدأوا يقذفون المفرقعات الفارغة في الهواء فهوت سمعتُهم وفقدوا بريقهم – وهذا حال الكثير من الفنانين – فالشعر كغيره من الفنون ، لا يُكتب تحت الطلب وإنما يهجم على صاحبه هجوما شرسا فيولد سالما معافى لا يحتاج لا إلى تجميل ولا إلى ترقيع .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.