عاشوراء .. الإتلاف في الاختلاف

0 516

         من المعروف أن عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر محرم، عند المسلمين، وبالرغم من الاختلاف حول سبب التسمية، وطرق، وأساليب،ومظاهر الاحتفال، من دين إلى دين، ومن ثقافة إلى أخرى، فإن حضور عاشوراء في الموروث الثقافي المغربي، لم تؤثر عليها عوامل الزمن، ولا حدود المجال. لندع جانبا الأحداث التي قيل أنها وقعت في هذا اليوم (ولم تجمع عليها المصادر التاريخية) ، ونركز اهتمامنا على الحدثين البارزين، في الفكر الإسلامي، أولهما له امتداد ديني ورسوخ عقائدي واستحقاق حقوقي، وهو ما رواه ابن عباس رضي الله  عنهما قال: “قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال: ما هذا؟ قالوا:هذا يوم صالح هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، قال: فأنا أحق بموسى منكم فصامه صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه“. متفق عليه .أما الحدث الثاني فله اليوم تجليات سياسية، وعواقب اجتماعية، وأمارات قومية، وانتصارات طائفية، تلك هي وقعة كربلاء، التي قتل فيها سنة 61هـ/680م، الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب بن فاطمة ‘الزهراء”، بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخامس الخلفاء الراشدون، هذه الفاجعة التي كفانا الله تعالى همها، مزّقت الأمة إلى سنة وشيعة، وكرست الطغيان والاستبداد السياسي، حيث:ألغت الطائفة الباغية الشورى، واغتصب الملك الوراثي العاض الخلافة الراشدة، وغيب الاجتهاد، واستعبدت الأمة.

       بين الحدثين تضارب في المعنى، وتباين في المبنى، وإتلاف في الموضوع، واختلاف في المضمون، لان الماء الذي انقد الله تعالى به اليهود أغرق به فرعون، والنار التي اشتعلت في كربلاء ما زادها الزمان إلا توهجا واشتعالا في الأمة. فما سر الإتلاف، والتوافق، والتناغم، والانسجام، والمزج ، والتلاحق الثقافي، الواقع في “عاشوراء المغربية”، بين الماء والنار، وبين “زمزم” و”الشعّالة”؟ وكيف نصقل “العقل المسلم” من رواسب الخرافية، ومن هيمنة  الشعوذة، وسيطرة الجهل؟ وكيف نداوي أسقام “البدن المسلم”، لنجمع بين أصقاع “البلد المسلم”؟

ظاهرة “زمزم” موروث يهودي :

يرجع استعمال الماء أو “زمزم” في عاشوراء، إلى الموروث الثقافي اليهودي، لما حرر الله تعالى بني إسرائيل من فرعون الطاغية، بعصا موسى عليه السلام، ففي السياق القرآني قال تعالى :”وأوحينا إِلَىٰ مُوسَىٰۤ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِىۤ إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ، فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِى ٱلْمَدَآئـِٕن حَـٰشِرِينَ، إِنَّ هَـٰۤؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ، وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئـِٕظُونَ، وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَـٰذِرُونَ، فَأَخْرَجْنَـٰهُم مِّن جَنَّـٰتٍ وَعُيُونٍ، وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ، كَذَٰلِكَ وَأَوْرَثْنَـٰهَا بَنِىۤ إِسْرَٰۤءِيلَ، فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ،فَلَمَّا تَرَٰۤءَا ٱلْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَـٰبُ مُوسَىٰۤ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ، قَالَ كَلاۖإِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ، فَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰۤ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَۖفَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ، وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ ٱلاخَرِينَ، وَأَنجَيْنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُۥۤ أَجْمَعِينَ ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا ٱلاخَرِينَ”(الشعراء 52ـ66 )، وأحسن حوار للأديان هو الذي قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث صام مع اليهود وأمر أصحابه بذلك، وحتى يكون الزيال بين اليهودية والإسلام، وحماية وتحصين الدين من الانحراف، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مخالفة اليهود فعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لئن بقيت إلى قابل، لأصومن التاسع“. رواه مسلم. لن ننصب أنفسنا قضاة، لنحكم على نوايا الناس، ولا شرطة مرور على عقائدهم، بقدر ما نؤكد أهمية التأصيل، وعبادة الله عن علم لا عن جهل وهوى، وصقل العقول ونفض الغبار عليها، وتصفية النفوس من الكدر والشحناء والبغضاء، فلا نشك في مظاهر الفرحة التي تغمر المجتمع، ولا يجب أن تنسنا هذه الفرحة، اغتنام بعض المشعوذين من السحارة، ودجال السياسة، وجهال المصلحة، فرصة انشغال الناس برش القبور وأفنية البيوت والتبرك “بزمزم” لأجل طلب الزواج أو الإنجاب و تكثير الرزق، لتمرير الخطابات المغلوطة، وعرض الشعارات الملغومة، ودعم الاحتفالات المشبوهة: التي تشوبها التشوهات الأخلاقية وضبابية في الفهم، وتعطيل العبادة وتشغيل العادة، إزالة الحق وإحقاق الباطل. كما أن هذه الفرحة لا يجب أن تتجاوز الحد الذي “نستفز فيه” الجرح الغائر في نفس إخوتنا الشيعة، نعم إخوتنا لأنهم من المسلمين، الذين يبيتون هذا الحقد الدفين، الذي لا ناقة لنا فيه ولا جمل.

            عاملان سالبان عطلا رجوع الأمة إلى دينها، عبر التاريخ، أحدها الجهل والأخر الهوى، فأما الجهل فهو سوء تدبير العقل، وأما الهوى فهو سوء تدبير النفس .. سوء التدبير: معضلة مشينة وخصلة دميمة أبتلي بها الفرد وعطل الأمة،لأن سوء التدبير هو الشغل الوحيد الذي أحسنت الجبرية توظيفه وتكريسه .أما وقد بطل العجب ووضح السبب ،فمتى تعود الأمة إلى رشدها؟ بل من يحررها من الهوى الجاثم على أنفاسها ؟

ظاهرة “الشعالة” موروث شيعي؟

مظاهر الحزن الشديد، تغمر ليلة عاشوراء، على نقيض الفرحة الصباحية ب”زمزم”، حيث يتم اللجوء إلى إشعال النيران “الشعالة”، وما يصاحب ذلك من التعاسة والغضب والتغني بالأشعار الثورية والتنابز بالألقاب، وجلد الذات بالسلاسل وزُبَر الحديد، ويا كآبة المنظر وهذه المظاهر تعكس على شاشة التلفاز، تنقل عبر الأثير من الحسينيات الشيعية، التي تعد خشبة المسرح الذي تعاد فيه تمثيل فتنة وواقعة كربلاء، لتكريس العداوة والبغضاء في أذهان الأجيال اللاحقة، لتوسيع الهوة وترسيخ الخلاف بين الشيعة والسنة. في الموروث الشعبي المغربي يعبر المغاربة عن التوترات والصخب وعدم الاستقرار بلفظة “القربلا” الواردة من كلمة “كربلاء”… على هامش الانشغال ب”الشعالة” ينتصب عرش الشيطان وأعوانه من المشعوذين والسحارة والجهال، لممارسة الخرافات والبدع وتهيج الأهواء، إشعال النيران عادات جاهلية وطقوس وثنية، لا نجد لها محلا في العقيدة الإسلامية، ولا قبولا عقلي، ولا استحسانا وجدانيا، و لا استمتاعا لدى المجتمع الحداثي. وأشد تشبثا بهذه المعضلة إخوتنا الشيعة، فيما يقومون به من السياحة الروحية التي يحجون فيها إلى “الحسينيات المقدسة” في النجف وكربلاء في العراق، وتلك الطقوس الدموية والظواهر الحزينة، وتصفية حسابات سياسوية ضيقة بين الفصائل، حيث تتسرب العنصرية، والقبلية، والحقد، كالزيت الذي يزيد النيران شعلة. قال تعالى:” تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ”.
 نيران اليوم متنوعة كتنوع ألوان الطيف، تنعت أحيانا ب”القاعدة” وأحيانا أخرى ب”داعش”… لعبة اسمها “الإرهاب” صمّمها بوش الابن مند أحداث 11 سبتمبر2001م، وجعلها سرابا ألهى بها العالم برمته، فلا نحن حاربنا إرهابا حقيقا، و لا نحن أرسينا الاستقرار الواقعي، ولا نحن نشرنا الآمن ولا الأمان، إنما نحن تبعية مقلدة، وتلميذ بليد، نجري خلف السراب نظنها الماء الذي سنطفئ به النيران التي أوقدها عدونا بيننا…  

عاشوراء موروث إسلامي:

          الدلالة الرمزية للماء كانت كناية عن الغرق، والدلالة الرمزية للنار كناية عن الفتنة، كلاهما عادات من اليهودية والشيعة، إلا أن الإسلام انتقل بهما من العادة الجائرة على عباد الله، إلى العبادة المأجورة من الله لعباده، ومن أعظم العبادات الصيام حيث جاء في  حديث  أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه ، أن رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال : “صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ“، رواه مسلم، وهذا يدخل في عموم الحديث الذي رواه أبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ“، الصيام رفيق الصبر في ضبط النفس، وحملها على الفضائل، والذي بواسطته يتم التضييق على مجاري الشيطان في جسم الإنسان بالجوع والظمأ، والصيام رمز الرزانة والثبات، ومن مقاصده محاربة الهوى.

        كلما حل المحرم قام عثمان رضي الله عنه بتذكير الناس بإخراج الزكاة, التي تجتمع فيها حقوق الله وحقوق العباد، وهي من الصدقات التي يُذهب الله بها البأس، وهي طهارة للنفوس وإبراء للذمم، من شروطها النصاب وحاول الحول، فلا يشترط إخراجها في عاشوراء المحرم كما اعتاد العديد من المغاربة فعله، نترك هذه الفتوة لأصحابها لأنه لا محل لذلك في موضوعنا، إن الزكاة كفالة اجتماعية، وتضامن اقتصادي، ومقاربة تدبيرية سواء زكاة الأموال أو زكاة الأبدان، والتي تحارب حب المال وتجدّره في القلب؛ وتمت بها معالجة الأزمات الاقتصادية و تكديس الأموال أو تضخمها أو احتكارها، فهي  تجاوزت التبرع على الفقراء إلى ثمانية أصناف، حيث قال الله تعالى:﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ، فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ،وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم﴾( التوبة:60)، تظهر معالم العدالة الاجتماعية، والتوزيع العادل للمال، كي لا يكون دولة بين الأغنياء، فهي أدالة فعالة في السياسة المالية، وفي الاقتصاد السياسي. حيث أنها تحارب شح النفس من جهة، وأنانية المجتمع من جهة أخرى.

        الصيام ناجع في إطفاء لهيب الهوى، والشهوة، والأنانية، التي تجدّرت في النفس والكامنة فيها، والزكاة هي الدليل والعربون الظاهر… الصيام صبر والزكاة صدق، الزكاة هي صرف صحيح لمخزون الصيام، الصيام رهان، والزكاة برهان… الماء طهارة، والطهور شطر الإيمان؛ النار.. نستعذ بالله من ذات اللهب، ونعوذ بالله من حال أهل النار… نسأل الله تعالى أن يجعل نارنا بردا وسلاما علينا وعلى غيرنا، “يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم“، ونحن على ملة إبراهيم، إنه سميع مجيب.        

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.