فصل المقال فيما بين العربية و الحداثة من الاتصال

1 563

   من الأفكار السخيفة التي دأب بعض التغريبيين على نشرها منذ سنوات ، فكرة أن اللغة العربية قد شاخت ولم تعد قادرة على مسايرة التطورات المتسارعة التي تفرضها حالة التمدن والعولمة ، وأن الحاجة ماسة الى استعمال بدائل تواصلية أكثر نجاعة في مدارسنا ، هذه البدائل ليست سوى الدارجة المغربية ، نستعملها في المراحل الابتدائية ثم اللغات العالمية الحية ( كما يسمونها ) في المراحل العليا ، وقد بلغ ببعضهم الغرور الى حد الجزم بأن هذه الوصفة هي العصا السحرية التي يمكن أن نفتح بها خزائن الدنيا والآخرة ، وأن غيرها من الوصفات لا يمكن أن يلحقنا بركب الدول المتقدمة .

هذه الفكرة لم تكن وليدة اليوم أو مقتصرة على المغرب ، بل سبقتها دعوات تشكك في قدرة اللغة العربية على التوليد ، فهي بهذا الوصف عقيمة ومحنطة في نظرهم ، وقد سجلت قصيدة حافظ ابراهيم : ” اللغة العربية ” صدى تلك الحرب التي خبت نارها وبقيت العربية شامخة يزداد المتكلمون بها يوما بعد يوم . ولم يغب هذا الصراع عن مدارسنا ، إلا أنه كان يأخذ شكلا مهذبا ويسمح لكل طرف بالدفاع عن وجهة نظره بالحجة والدليل دون استئثار بالرأي أو مصادرة للرأي الآخر ، حيث يقدم الموضوع في حصة الانشاء / التعبيرعلى شكل حوار (الاتجاه المعاكس ) بين طرفين : واحد محب للعربية والآخر مغرم بالفرنسية ، ويحاول المتعلم من خلال ميوله أن يظهر مهاراته الدفاعية والهجومية دون مساس بأدبيات النقاش .

ورغم أن هذا التصنيف : عربية / فرنسية ينطوي على كثير من التخصيص والتعميم في الآن نفسه ، فان الأصل فيه لم يقم لا على الإقصاء و لا على الانتقاء – كما يسعى الى ذلك دعاة التغريب – فالكثير ممن انتسب للغات الأجنبية لم يكونوا موفقين في جميع شعبها وعلومها توفيقا تاما ، كما أن المنتسبين للغة العربية لم يكن رصيدهم من كل ما هو أعجمي صفرا ، إنما كان تفوق أولئك في مجالات العلم والتكنولوجيا لظروف تاريخية تهيأت فيها التربة لنمو أفكارهم وإزهارها، وكان تخلف هؤلاء بفعل ظروف تاريخية عصيبة تعطلت فيها ملكاتهم الابداعية .

إذا فهم هذا ، فإنني سأذكر أصدقاءنا المُدرِّجين والتغريبيين بمعطيات تاريخية فاضحة إن كانوا ينعمون بأعين مبصرة ، علهم يستفيقون من غفلتهم أو يتنبهوا لأنانيتهم التي جعلتهم ينظرون الى المسألة من زاوية واحدة :

أولا : إن اللغة العربية – بشهادة الأعداء – كانت وما تزال لغة العلم والثقافة ، فهي الجسر الذي عبرت منه العلوم اليونانية إلى المجتمع الأوربي حين كانت أوربا غارقة في ظلام الجهل والحروب الدينية . فكان تعلم العربية عنوانا لكل تحضر ومفتاحا سحريا للانفتاح على العلم والأدب ، واشتهرت في العالم العربي أجمع منارات للعلم والمعرفة : بغداد /القاهرة / حلب / القيروان / فاس … ولم تكن في شهرتها أقل من شهرة الجامعات المعروفة اليوم . وقد رحل سلفستر الثاني إلى فاس ولازم مقعد الدرس بالقرويين مدة من الزمن يتعلم العربية وأصولها والفقه الإسلامي ومذاهبه .

ومازالت إلى الآن تحظى العربية بمقعد في كل الجامعات الأوربية والأمريكية المعروفة .فهل كانوا يدرسونها حبا في سواد أعيننا أم حفاظا على لغتنا من القتل على يد العاقين من أبنائها كما تفعل العناكب بأمهاتها ؟

ثانيا : إن اللغة كيفما كانت هي الوعاء الذي يحمل الأفكار ، ويحمي الأمة من الانهيار. وكل أمة فرطت في لغتها دب إليها المسخ ثم الذوبان ، ولنا في التاريخ عِبر كثيرة للأمم التي سادت بسيادة لغتها ثم بادت لأنها انصهرت في بوثقة الدولة المستعمرة / الغازية . اللغة هي الهيكل الذي تلتحم إليه عناصر الأمة فيشكل منها قوة لا تقاوم ، تفعل وتتفاعل مع كل ما هو جديد ولكنها لا تسلِّم وتنقاد وراء الأفكار التغريبية / التخريبية التي تختفي خلف قناع العلمية والحداثة . نعم للعلم ، نعم للتقنية ، نعم للتنوير …ولكن لا للإمَّعية ، لا للآلية ، لا للتزوير …

   لقد أدرك الصهاينة – وهم العدو الأكبر للأمة – أهمية اللغة ، فأصروا على إحياء لغتهم العبرية وجعلوا تدريسها إجباريا ، ورصدوا لعلومها ميزانيات هامة ، واعتبروها اللغة الرسمية للدولة في دستورهم … رغم أن أغلب اليهود من المتكلمين بلغات أوربية ، ويجدون صعوبة للتواصل بهذه اللغة (العبرية) التي يُراد لها أن تحيا وتترعرع وتنافس غيرها من أعرق اللغات . وحتى تفهم أنت – التغريبي ثاقب النظر – إلى أي حد يتعصب العالِم للغته ويحصنها ويصونها من الاندثار ، إليك هذه القصة التي يرويها أحد الفلسطينيين ألخصها لك لأن انشغالك في المختبرات والبحث العلمي لا يعطيك الفرصة لقراءة هذه الخرافات : زار هذا الفلسطيني طبيبا يهوديا ، فوصف له الدواء بلغة انجليزية ، وبينما المريض يغادر العيادة ، ناداه الطبيب وأخذ منه الوصفة ومزقها ثم أعاد كتابتها بالعبرية ، وحينما استفسر المريض عن السبب ، أجابه الطبيب بكل خِسة ومكـر : عليك أن تتعلم العبرية لينفعك الدواء .

انظر إلى الطبيب / العالم كيف يدافع من موقعه عن لغته وثقافته وحضارته وعلمه ، وكيف تحطم أنت – المفكر – لغتك وثقافتك وحضارتك …لعمري لقد صدق من قال :”حاميها حرميها “

ثالثا :إن المسؤول الذي يحترم نفسه ، مهما كانت خلفياته الإيديولوجية لا يجدر به أن ينزع رداء الواجب المهني ويشهر لسانه / سيفه الثَّــلِم يذبح به الحلال والحرام ، متنكرا للغته التي أرضعته وزرعت في عروقه بذور الانتماء لدين العربية ، فهذا الفعل لا يقدم عليه إلا شخصان :

إما شخص تحركه نزعة عنصرية ، ويستغل سذاجة المخاطبين لينفث سمومه من حيث لا يدري . ولا يخفى على أحد ما يمكن أن تؤدي إليه هذه التصرفات من عواقب وخيمة على المجتمع وتماسك الأمة. فدعاة التغريب والتدريج بهذه النظرة الدونية الى العربية يحطمون الركيزة التي تلتحم إليها مجموعة من الثوابت والقيم .

وإما شخص ضعيف الشخصية ، اختلط عليه الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، فشرع ينسج في الغبش رداء عله يستر به عورته التي افتضحت أمام الأصدقاء قبل الأعداء . فهل اللغة العربية بقدسيتها وبراعة لفظها فقيرة وعقيمة إلى الحد الذي يجعل البعض يطيل لسانه كالحرباء ليمس كرامتها ؟ وهل العربية حقيرة وضعيفة حتى يستشعر البعض الحرج فيرفض الحديث بها ؟

   إن اللغة العربية لغة قديمة والساعون الى تعلمها في ازدياد مستمر . صحيح أن قوتها مرتبطة بالشعر والأدب بشكل عام أو هكذا يخيل إلينا ، لأننا لم نطلع على أعمال العلماء الكبار وما أبدعوه بهذه اللغة في مجالات الطب والفلك والفلسفة ، فالعيب ليس في العربية وإنما العيب في الصورة النمطية التي تقدم بها الى الجمهور من خلال المسلسلات التاريخية التي تقدم العربية كلغة شعرية تستمتع بسماعها وتعجز عن التعبير بها … فاسألوا ابن رشد وابن سينا والفارابي و… بأية لغة يفكرون ، لقد كانوا كلهم فقهاء في الدين والأدب وكانوا نوابغ في البحث العلمي ولم يضِرهم يوما أن وسيلتهم لذلك هي العربية أو يرفعوا صوتا للتقليل من شان شاعر أو كاتب .

ولله ذرك يا حافظ ، فصدى صوت قصيدتك ما زال يتردد بيننا على لسان هذه اللغة التي تبتلى بين الحين والآخر ببعض الناكرين لفضلها :

رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي =*=*== وناديت قومي فاحتسبت حياتي

               رمـوني بعقـم في الحياة وليتني =*=*== عقمـت فلم اجزع لقول عداتي

تعليق 1
  1. زاكوري يقول

    رَجَعتُ لِنَفسي فَاتَّهَمتُ حَصاتي
    وَنادَيتُ قَومي فَاحتَسَبتُ حَياتي
    رَمَوني بِعُقمٍ في الشَبابِ وَلَيتَني
    عَقِمتُ فَلَم أَجزَع لِقَولِ عُداتي
    وَلَدتُ وَلَمّا لَم أَجِد لِعَرائِسي
    رِجالاً وَأَكفاءً وَأَدْتُ بَناتي
    وَسِعْتُ كِتابَ اللَهِ لَفظاً وَغايَةً
    وَما ضِقْتُ عَن آيٍ بِهِ وَعِظاتِ
    فَكَيفَ أَضيقُ اليَومَ عَن وَصفِ آلَةٍ
    وَتَنسيقِ أَسْماءٍ لِمُختَرَعاتِ
    أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌ
    فَهَل سَأَلوا الغَوّاصَ عَن صَدَفاتي
    فَيا وَيحَكُم أَبلى وَتَبلى مَحاسِني
    وَمِنكُم وَإِن عَزَّ الدَواءُ أَساتي
    فَلا تَكِلوني لِلزَمانِ فَإِنَّني
    أَخافُ عَلَيكُم أَن تَحِينَ وَفاتي
    أَرى لِرِجالِ الغَرْبِ عِزّاً وَمَنعَةً
    وَكَم عَزَّ أَقوامٌ بِعِزِّ لُغاتِ
    أَتَوا أَهلَهُم بِالمُعجِزاتِ تَفَنُّناً
    فَيا لَيتَكُم تَأتونَ بِالكَلِماتِ
    أَيُطرِبُكُم مِن جانِبِ الغَرْبِ ناعِبٌ
    يُنادي بِوَأْدِي في رَبيعِ حَياتي
    وَلَو تَزجُرونَ الطَيرَ يَوماً عَلِمتُمُ
    بِما تَحتَهُ مِن عَثْرَةٍ وَشَتاتِ
    سَقى اللَهُ في بَطنِ الجَزيرَةِ أَعظُماً
    يَعِزُّ عَلَيها أَن تَلينَ قَناتي
    حَفِظنَ وِدادي في البِلى وَحَفِظتُهُ
    لَهُنَّ بِقَلبٍ دائِمِ الحَسَراتِ
    وَفاخَرتُ أَهلَ الغَرْبِ وَالشَرْقُ مُطرِقٌ
    حَياءً بِتِلكَ الأَعظُمِ النَخِراتِ
    أَرى كُلَّ يَومٍ بِالجَرائِدِ مَزلَقاً
    مِنَ القَبرِ يُدنيني بِغَيرِ أَناةِ
    وَأَسْمَعُ لِلكُتّابِ في مِصْرَ ضَجَّةً
    فَأَعلَمُ أَنَّ الصائِحينَ نُعاتي
    أَيَهجُرُني قَومي عَفا اللَهُ عَنهُمُ
    إِلى لُغَةٍ لَم تَتَّصِلِ بِرُواةِ
    سَرَت لوثَةُ الإِفرِنجِ فيها كَما سَرى
    لُعَابُ الأَفاعي في مَسيلِ فُراتِ
    فَجاءَت كَثَوبٍ ضَمَّ سَبعينَ رُقعَةً
    مُشَكَّلَةَ الأَلوانِ مُختَلِفاتِ
    إِلى مَعشَرِ الكُتّابِ وَالجَمعُ حافِلٌ
    بَسَطتُ رَجائي بَعدَ بَسطِ شَكاتي
    فَإِمّا حَياةٌ تَبعَثُ المَيْتَ في البِلَى
    وَتُنبِتُ في تِلكَ الرُموسِ رُفاتي
    وَإِمّا مَماتٌ لا قِيامَةَ بَعدَهُ
    مَماتٌ لَعَمري لَم يُقَس بِمَماتِ

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.