معلمة الجبال و المعاناة في صمت
تبدو شاحبة و مستخفّة بنفسها الشّابة الوديعة..لكنّها لم تأت لهذا المكان بمحض الصدفة، أو بكامل إرادتها و قواها العقلية و الوجدانية، بل باختيارها، ذات احتياجٍ لشظف العيش.
رمى بها القدر من الحضر إلى البدو، مرغمةً على تكييف محيطها الجديد مع نفسٍ لازال متّقدا بحيوية المجال الحضري و خصوبة الأمل في حياةٍ أفضل..و على عكس العادة تجد نفسها في سجن إجباري من اختيارها هي؟
حينما أسمع تشنجها مع المتعلمين و صراخها العميق، الذي ترتج له جدران الصّمت، محاكية معاناتها اليومية و وحدتها و عزلتها المقيتة بين جبال الأطلس…أحزن لمثيلاتها الكثيرات في هذا الوطن، حيث لم يلتفت لهن أي عاقل مثقف أو مسؤول و لو بالإشارة.. !
هي معلمة مثل باقي معلمات الجبال، حيث اثرتُ الكتابة عن معاناتهنّ، التي تكاد تنبثقُ للوجود و تُعْرَف، في وسطٍ لا يعترف بهن و لا بمجهوداتهن كالباقي، فقد اثرن النّحيب في صمتٍ، و لا أحد يلتفت لهنّ و لا لمكانتهن في المجتمع .. و هل هنّ أيضا روح تستحق التكريم؟ أم أنّهن مجرّد ذوات زائلة يستنفذ الوطن دمهن ثم يلقي بهن إلى القاذورات؟؟
كنت طوال سنوات اشتغالي الخمس بالمجال القروي أسأل عنهن و عن ظروف اشتغالهن، بهذا المجال المنسي في منظومة التربية و التكوين ببلادنا، حيث عثرت على مشاكل و عراقيل يندى لها الجبين، بل و تحول ضد تطور هذا القطاع الهام..فمعلمة الجبال تشترك مع المعلم زميلها في بؤرة الاشتغال في الهموم و العزلة و عدم اكتراث المسؤولين “السّمناء” للعراقيل التي تحفّ وسط اشتغالهم، فمن وعرة المسالك إلى انعدام ظروف الاشتغال الهامة، كالمسكن و توفر الكهرباء و الماء الضروريين و أقسام في المستوى المطلوب و تغطية شبكة الإنترنيت فتحس و كأن المغرب فيه مغربان، مغرب أدنى بالجبال و مغرب أقصى بالوسط و الشمال و المجال الحضري؟؟ فرق شاسع حينما أزور الشمال لحضور إحدى الأمسيات الشعرية ثم أعود لمرتعي بنيابة تارودانت؟؟
هذه المفارقة العجيبة لم أجد لها أي جواب شاف عند أي من مسؤولينا الأفاضل..فالمعلمة المنسية و المطمورة عن الحياة تجد نفسها في الغالب دون مأوى و عليها تدبّر ذلك، و هكذا فهي تصادف مطلع كل سنة دراسية مشكل التأقلم بعدم وجود سكنيات بالفرعية و إن وُجدت فإنّها تكون في أحسن حالاتها هشة و لا تليق حتى مقرّا أو حظيرة للحيوانات و حاشا هذا اللفظ، رغم أنه كائن كما هو معروف و لا حاجة لنا بنطق حاشا ..
تتعرض معلمة الجبال لأبشع النعوت و الأوصاف القدحية إن لم تلتزم بلباس أهل القرية، و خصوصا التي ألفت اللباس العصري كالسروال و الشعر المنسدل على الكتفين..فيؤدي ذلك إلى تحرش شباب المكان بها و أصحاب النقل المزدوج و كم عهدنا من حالات كان أبطالها في الابتزاز هم أصحاب النقل المزدوج، و أحيانا و للأسف الشديد، المقدم أو الشيخ أو حتى قائد رؤساء بعض الجماعات، مما يضطر المعلمة للرضوخ للأمر الواقع، و لكن المتساهلات الساذجات منهن، أما العفيفات و العاقلات فلم يكن أحد من هؤلاء قادر على ابتزازها لأنها تعرف الطرق القانونية لمقاضاته أيضا، و الزجّ به حيث يربّى من جديد على أسس المواطنة الحقيقية و احترام المنصب الذي يمثّله و يمثل السلطة التشريعية فيه و به.
تعاني معلمة الجبال من الوحدة الإجبارية و الخوف المستمر، و قد أدى ببعضهن للموت الفجائي، بسسب سكتة قلبية جرّاء توافد الخنزير قرب المسكن، و هذا أمر شائع بجبال تارودانت التي تعرف غزوا مستمرا لقطيع الخنازير المتواجد بهذه البقاع منذ سنوات عديدة و يأتي على حقول الفلاحين الصغيرة كذلك، فيفسد كلأها و عشبها و ما زرعوه فيها.
تعاني معلمة الجبال من تسلط أختها بالمدينة، حيث تتفرّد الأخرى بالمناصب في الحركات الانتقالية، لقربها من دوائر القرار و كذا الأحزاب أو النقابات.. بينما تبقى هي حتى أرذل العمر ثم يندمل الأمل لديها تدريجيا في نهاية المطاف، في الانتقال، فتفكر في هجران المهنة بتاتا، و قد حدث هذا في نيابة تارودانت بالخصوص، حيث أقدمت العديدات على هجران مهنة التعليم باتجاه أوربا إما لغرض العمل أو الزواج، و هذه كارثة في حد ذاتها في ظل نوم المسؤولين و عدم معالجتهم الظاهرة بالطرق العقلانية، بما يليق لضمان ظروف ملائمة لاستقرار المعلمات بالجبال و تحفيزهن مثلهن مثل أقرانهن من المعلمين الذكور.