مكر اللغة

0 675

هي التي تجر أحاسيسنا لتضع لنا قوالب جاهزة، نحدث بها الآخر ونعطيه من خلالها بالدرس و النصيحة كيف يواكب هذه الحياة التي على بساطتها ما فتئت تبقينا فوقأشواكها.بها، نصور لهذا الآخر كم هذا  العالم جميل جدا، و لو على وخزاته المكثارة.و من خلالها نطمئن أجسادا؛ نطمئن الأصدقاء و الأحبة أن الحياة من هنا دبت و لا زالت.من وراء تلك العلامات نجدد جرس النبض، إشعارا بالبقاء رغم أن أتعس ما في هذه البسيطة هجر و غياب متكرر و فراق لا يبرأ إلا بمفرقة الروح للجسد، حيث لا جدوى من اللغة ذاتها…

     في أسمى تجليات الحياة، ما جدوى أن تكون أمانيك معطلة مؤقتا؟ أن تخبر صاحب العمامة البيضاء أن الأيام زائفة أكثر من اللازم، بشخوصها ودبيبها و مكرها الذي يطاوعنا على الإنسلاخ تارة، و الارتماء في أحضان اللاجدوى تارة أخرى.كيف نوصل للآخر بأنا معلقون في علكة انتهت صلاحية مضغها؟ وكيف يمكن أن نحافظ على ذلك الصرح من الأمالي التي مر عليها عمر بأكمله؟ وهل يكون بائع الورد ساذجا عندما يسلم للعشاق وردة بيضاء بدل وردة حمراء ؟ وهل الأبيض رديف للأحمر أم أن لغة الألوان تختلف باختلاف النبض ؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف يحقق قوس قزح كل هذه الهالة؟ هل نحن الذين نختار الأشياء مثلما اللغة أم أن اللغة هي التي تختارنا وفق سلطة الأشياء التي تريد أن تنكتب؟

     تمكر اللغة أكثر عندما تحرك فينا أوجاعا دفينة، نرفض – مؤقتا – أن يشاركنا إياها الآخر، هذا الآخر المختلف عنا و القريب منا في الآن نفسه.هذا الآخر الذي ينعته سارتر ب ” الجحيم ” هذا الآخر الذي وإن كان جحيميا فلا غنى لنا عنه، فجحيميته و مكره هما اللذان يزرعان فينا نوتة النبض و الكتابة.

     كيف تفلح اللغة في رأب جراحنا؟ و أين منبت كل هذه الجراح ؟ متى ابتدأت و متى ستقفل راجعة إلى موطنها الأصل؟ هنا،تنجح اللغة بمكرها، تنجح في هزيمتها لنا، عندما تطرحنا بعنفوانها و عفويتها أمام ورق أبيض جامد، و عندما ننفخ فيه، يصير المكتوب بحمولاته الكثيرة أكثر وقعا و أقل وجعا.هل صحيح أننا نلجأ إلى الكتابة عندما لا نجد من نسرد له تفاصيل عابرة من محطاتنا على هذه البسيطة؟ هل لا بد للآخر أن يحضر في مكتوبنا ليمنحها كل ذلك الفيض؟ ليمنحها تأشيرات المرور، ليصادق عليها، ليتصالح معها، أو يطردها بقسوة …أليست اللغة في الأخير مجرد ” مكر ” ينضاف إلى مكرنا؟

     نخاطب الآخر بهذه اللغة التي تضمر وراءها الكثير، هي المبدأ و المعاد، بها نخبره أنا سعداء، وبها نضعه على الصامت حتى لا ينفجر، وبها نشعره بالحياة مثلما الموت.بجرة قلم طائشة نعبر له بها ومن خلالها عن رفضنا، حبنا و مقتنا، آمالنا و أمالينا، في بواطن اللغة حيوات تكبرنا بقرون، لا نتمكن منها إلا بعد أن تتمكن منا.إنها اللغة، مكروا و بقيت اللغة خير الماكرين.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.