في الحاجة إلى طرح الأسئلة الحقيقية
اتفق مفكرو الأمة منذ العصور السابقة على أهمية التربية و الفكر و الثقافة في مسيرة النهضة ، وأفنوا في سبيل ذلك حياتهم و تناقلوه جيلا بعد جيل من الأفغاني و الكواكبي محمد عبده ، و رشيد رضا و ابن باديس و علال الفاسي إلى الجيل المعاصر جيل القرضاوي و الجابري و طه عبد الرحمن و الريسوني و العروي و غيرهم . هؤلاء الذين وضعوا بصماتهم في سماء الفكر و الثقافة ، و جاهدوا بأقلامهم من أجل صنع مجد هذه الأمة المكلومة انطلاقا من التربية و الفكر و الثقافة .
و الحال أن أهمية التربية و الفكر و الثقافة تكمن فيما تضمنه من عمق و امتداد للقضايا المدروسة ، دون الوقوف عند ظواهرها ، و قشورها إنها تغوص في جوهر القضايا و تنفد إلى أعماقها سواء من حيث الفهم و التفسير ، أو من حيث المعالجة و التحليل ، خاصة أن عددا من المتتبعين لحال الأمة اليوم يتفقون على أن ثمة تغولا و إفراطا للسياسة على باقي المجالات الأخرى ، فقد علا صوت رجل السياسة و لمع نجمه ، وساد معه التعاطي السياسي و أحيانا السياسوي الجاف مع العديد من الملفات و كأنه المدخل الوحيد للعلاج الذي لايزيغ عنه إلا هالك ، فضيعت الأمة وقتا غير قليل في الجدل بين هذا الفريق السياسي و ذاك (البولميك) ، و يا ليته كان نقاشا بناء يؤسس للحوار و الإنصات ، فقد أحدث شقوقا غائرة في جسدها ، صنع في نسيجها طوائفا و مذاهبا ، ولم يعد من اليسير رتق هذا الفتق الحاصل في بنيانها .
إنه لواقع مؤلم يعتصر له القلب و يندى له الجبين ، فما أن تهدأ حرب حتى تنقشع مشاهب حروب أخرى ، حيث غاب صوت العقل و الحكمة و بزغ بوق الجزع و الهلع و التهور و التعصب الذي نقلنا من التنابز بالألقاب إلى التناحر بالأسلحة الثقيلة الأكلاف في الشوارع و الطرقات ، فلا أهواء الفرق و الطوائف تحققت و لا الأوطان بقيت.
أمام فداحة المشهد هذا و كرنفاليته تتناسل عديد الأسئلة التي أملاها دافع البحث عن أسباب هذا الحال و مسبباته. وعند استجماع الأنفاس و التفكير بهدوء نتوصل دون عناء إلى استنتاج أولي مفاده: أن كل أمة نسيت قيمها و أخلاقها و طمست فكرها و أبادت ثقافتها لن يكون حصادها إلا الاقتتال و الحروب الأهلية، و المعالجات السطحية.
ففي التربية يتجلى العمق الذي يرسخ القيم البانية التي تربي النشء على المسؤولية و الانضباط و الاحترام و الواجب و الحق…
وفي الثقافة نتلمس عناصر الوحدة و التلاحم حيث نجد اللغة الواحدة و الدين الواحد و القبلة الواحدة و التاريخ الواحد وكلها مقومات تعزز تماسك الأمة.
وفي القيم نجد كل المثل العليا التي عاش تحت ظلالها السلف و استطاعوا خلق لوحة للعيش المشترك عز نظيرها.
و في الفكر يبرز الحس الذي لا يسلم بالخرافات و يحارب السذاجة و يخضع المواضيع و القضايا لحمام النقد السليم ، و يضمن التفكير الهادئ و التفسير المنطقي و التحليل الرصين بعيدا عن ضجيج السياسيين و فرقعات الإعلاميين.
لذلك نعتقد جازمين أن القيم التربوية و الثقافية كفيلة بإعادة الوهج المفقود و تقليص هوة الخلاف بين أفراد الأمة ، و إرجاع الثقة و اللحمة و ترميم الشقوق و الفجوات التي تخترق جسدها ، لاعتبارين رئيسين:
أولا: أنه قد مر على هذه الأمة أحيانا من الدهر عانت فيه الفرقة والتفكك وصل حد الاقتتال، فاستطاعت أن تتجاوزه وتستعيد المبادرة و تمسح تلك العيوب من جديد.
ثانيا: أن ثمة قيما ومثلا – كما أشرنا – مركوزة في تراث الأمة الديني و الثقافي و الفكري قادرة على تحريك مياهها الراكدة و تثوير طاقاتها و إعادة إقلاعها ، تحتاج إلى استنهاض و تفعيل .
نحن إذن في حاجة إلى إعادة طرح الأسئلة الحقيقية المفتاحية و عرض أنفسنا على مرآة الأمم لطرق أبواب النهضة دون أي مركب نقص لكي نرى ملامح وجهنا دون مساحيق و لا ديكور. لأن المدخل الحقيقي للإصلاح يتجلى في طرح الأسئلة التي يجب أن تطرح لا التي يمكن أن تطرح، بشكل صريح و صحيح.
حينئذ لا يهمنا هول الوضع الذي ستكشف عنه ولا حجم المشاكل و الأزمات التي سنقف عليها، بل الأهم أن نبدأ من حيث ينبغي البدء.
ومن ذلك سؤالين أساسيين : كيف؟ و لماذا؟
أي: كيف وصلنا إلى هذا الحال؟ وكيف نتجاوزه؟ و لماذا وقع ما وقع؟
وهي سلالة من أسئلة تهدف إلى محاكمة اللحظة التاريخية التي نعيشها ، لترجع كل مشكل إلى أسبابه ، و كل سبب إلى علله ، و ها هنا نكون أمام إحدى المحطات الرئيسة التي كانت مغيبة لزمن طويل ، و هي محطة المحاسبة و المكاشفة التي طالما حلمنا بها ، و التي نحسبها لحظة ذهبية لتحاسب كل ذات نفسها : أفرادا و جماعات ، و ليست البثة مجالا لتصفية الحسابات و إعادة إشعال لهيب الانتقام و الدم.
سنقف دون شك أيضا و نحن نستعرض كشف حسابنا على حجم التهميش و التجاهل المقصود الذي طال التربية و المربين ، الفكر و المفكرين ، و الثقافة و المثقفين .
سنقف على معالم المقاربة الأحادية التي أخفت عنا الكثير من التجاعيد و الثغرات لتغرقنا في دهاليز السياسة في بعدها السلبي البئيس كحلبة للصراع الدموي على السلطة ، و كفضاء للتنابز و الهمز و اللمز والقذف المتبادل بأغلظ الألفاظ ، وأمعنت في إظهار المنحى التسطيحي التبسيطي في تناول القضايا .
وقتها سيعض كل منا على أنامله من الغيض ، و سنشعر جميعا بقطرات الندم تتصاعد من بين عروقنا على الزمن الضائع و الوقت المهدور المقتطع من حياتنا ، و سنقف على حقيقة مرة هي ” أننا جميعا خاسرين ولا يظنن أحد انه قد انتصر لأن الوطن كان الخاسر الأكبر” .
إن أمتنا في هذه اللحظة الحاسمة من تاريخها تحتاج إلى جميع طاقاتها و مقدراتها ، و لن يكتمل لها عز إلا إذا وقف كل فرد على ثغره : المثقف على ثغر الثقافة ، و المفكر على سفينة الفكر ، و السياسي على شأن العامة، ممتطين جميعا صهوة النبل و معتصمين بحبل القيم و الأخلاق و الحوار.
شكرا االاخ المفكر رشيد.اثمن تاملاتك و اشاطرك الالم و الامل لكن يبدو ان عقل الامة الان غير قادر على طرح الاسئلة الحقيقية..في الانتظار
الامة في حاجة الى اجوبة حقيقية عن اسباب تاخرها تعليميا اولا و فكريا أخيرا…