في الحاجة إلى طرح الأسئلة الحقيقية

1 522

      اتفق مفكرو الأمة منذ العصور السابقة على أهمية التربية و الفكر و الثقافة في مسيرة النهضة ، وأفنوا  في سبيل ذلك حياتهم و تناقلوه جيلا بعد جيل من الأفغاني و الكواكبي محمد عبده ، و رشيد رضا و ابن باديس و علال الفاسي إلى الجيل المعاصر جيل القرضاوي و الجابري و طه عبد الرحمن و الريسوني و العروي و غيرهم .  هؤلاء الذين وضعوا بصماتهم في سماء الفكر و الثقافة ، و جاهدوا بأقلامهم من أجل صنع مجد هذه الأمة المكلومة انطلاقا من التربية و الفكر و الثقافة .

    و الحال أن أهمية التربية و الفكر و الثقافة تكمن فيما  تضمنه من عمق و امتداد للقضايا المدروسة ، دون الوقوف عند ظواهرها ، و قشورها إنها تغوص في جوهر القضايا و تنفد إلى أعماقها سواء من حيث الفهم و التفسير ، أو من حيث المعالجة و التحليل ، خاصة أن عددا من المتتبعين لحال الأمة اليوم يتفقون على أن ثمة تغولا و إفراطا للسياسة على باقي المجالات الأخرى ، فقد علا صوت رجل السياسة و لمع نجمه ، وساد معه التعاطي السياسي و أحيانا السياسوي الجاف مع العديد من الملفات و كأنه المدخل الوحيد للعلاج الذي لايزيغ عنه إلا هالك ، فضيعت الأمة وقتا غير قليل في الجدل بين هذا الفريق السياسي و ذاك (البولميك) ،  و يا ليته كان نقاشا بناء يؤسس للحوار و الإنصات ، فقد أحدث شقوقا غائرة في جسدها ، صنع في نسيجها طوائفا و مذاهبا ، ولم يعد من اليسير رتق هذا الفتق الحاصل في بنيانها .

         إنه لواقع مؤلم يعتصر له القلب و يندى له الجبين ، فما أن تهدأ حرب حتى تنقشع مشاهب حروب أخرى ،  حيث غاب صوت العقل و الحكمة و بزغ بوق الجزع و الهلع و التهور و التعصب الذي  نقلنا من التنابز بالألقاب إلى التناحر بالأسلحة الثقيلة الأكلاف في الشوارع و الطرقات ، فلا أهواء الفرق و الطوائف تحققت و لا الأوطان بقيت.

   أمام فداحة المشهد هذا  و كرنفاليته تتناسل عديد الأسئلة التي أملاها دافع البحث عن أسباب هذا الحال و مسبباته.  وعند استجماع الأنفاس و التفكير بهدوء نتوصل دون عناء إلى استنتاج أولي مفاده:  أن كل أمة نسيت قيمها و أخلاقها و طمست فكرها و أبادت ثقافتها لن يكون حصادها إلا الاقتتال و الحروب الأهلية، و المعالجات السطحية.

     ففي التربية يتجلى العمق  الذي يرسخ القيم البانية التي تربي النشء على المسؤولية و الانضباط و الاحترام و الواجب و الحق…

     وفي الثقافة نتلمس عناصر الوحدة و التلاحم حيث نجد اللغة الواحدة و الدين الواحد و القبلة الواحدة و التاريخ الواحد وكلها مقومات تعزز تماسك الأمة.

 وفي القيم نجد كل المثل العليا  التي عاش تحت  ظلالها السلف و استطاعوا خلق لوحة للعيش المشترك عز نظيرها.

  و في  الفكر يبرز الحس الذي لا يسلم بالخرافات و يحارب السذاجة و يخضع المواضيع و القضايا لحمام النقد السليم ، و يضمن التفكير الهادئ و التفسير المنطقي  و التحليل الرصين بعيدا عن ضجيج السياسيين و فرقعات الإعلاميين.

     لذلك نعتقد جازمين  أن القيم التربوية و الثقافية كفيلة بإعادة الوهج المفقود و تقليص هوة الخلاف بين أفراد الأمة ، و إرجاع الثقة و اللحمة و ترميم الشقوق و الفجوات التي تخترق جسدها ، لاعتبارين رئيسين:

أولا: أنه قد مر على هذه الأمة أحيانا من الدهر عانت فيه الفرقة  والتفكك وصل حد الاقتتال،  فاستطاعت أن تتجاوزه وتستعيد المبادرة و تمسح تلك العيوب من جديد.

ثانيا: أن ثمة قيما ومثلا – كما أشرنا – مركوزة في تراث الأمة  الديني و الثقافي و الفكري قادرة على تحريك مياهها الراكدة و تثوير طاقاتها و إعادة إقلاعها ،  تحتاج إلى استنهاض و تفعيل .

     نحن إذن في حاجة إلى إعادة طرح الأسئلة الحقيقية المفتاحية و عرض أنفسنا على مرآة الأمم  لطرق أبواب النهضة دون أي مركب نقص لكي نرى ملامح وجهنا دون مساحيق و لا ديكور.  لأن المدخل الحقيقي للإصلاح يتجلى في طرح الأسئلة التي يجب أن تطرح لا التي يمكن أن تطرح،  بشكل صريح و صحيح.

      حينئذ لا يهمنا هول الوضع الذي ستكشف عنه ولا حجم المشاكل و الأزمات التي سنقف عليها، بل الأهم أن نبدأ من حيث ينبغي البدء.

    ومن ذلك سؤالين أساسيين : كيف؟  و لماذا؟

    أي:  كيف وصلنا إلى هذا  الحال؟  وكيف نتجاوزه؟ و لماذا وقع ما وقع؟

   وهي سلالة من أسئلة تهدف إلى محاكمة اللحظة التاريخية التي نعيشها ، لترجع كل مشكل إلى أسبابه ، و كل سبب إلى علله ، و ها هنا نكون أمام إحدى المحطات الرئيسة التي كانت مغيبة لزمن طويل ،  و هي محطة المحاسبة و المكاشفة التي طالما حلمنا بها ، و التي نحسبها لحظة ذهبية  لتحاسب كل ذات نفسها : أفرادا و جماعات ، و ليست البثة مجالا لتصفية الحسابات و إعادة إشعال لهيب الانتقام و الدم.

     سنقف دون شك أيضا و نحن نستعرض كشف حسابنا على حجم التهميش و التجاهل المقصود الذي طال التربية و  المربين ، الفكر و المفكرين ، و الثقافة و المثقفين .

    سنقف على معالم المقاربة الأحادية التي أخفت عنا الكثير من التجاعيد و الثغرات لتغرقنا في دهاليز السياسة  في بعدها السلبي البئيس  كحلبة للصراع الدموي على السلطة ، و كفضاء للتنابز و الهمز و اللمز  والقذف المتبادل بأغلظ الألفاظ ، وأمعنت في إظهار المنحى التسطيحي التبسيطي  في تناول القضايا .

       وقتها سيعض كل منا على أنامله من الغيض ، و سنشعر جميعا بقطرات الندم تتصاعد من بين عروقنا على الزمن الضائع و الوقت المهدور المقتطع من حياتنا ، و سنقف على حقيقة مرة هي ” أننا جميعا  خاسرين ولا يظنن أحد انه قد انتصر لأن الوطن كان الخاسر الأكبر” .

    إن أمتنا في هذه اللحظة الحاسمة من تاريخها تحتاج إلى جميع طاقاتها و مقدراتها ، و لن يكتمل لها عز إلا إذا وقف كل فرد على ثغره : المثقف على ثغر الثقافة ، و المفكر على سفينة الفكر ، و السياسي على  شأن العامة،  ممتطين جميعا صهوة النبل و معتصمين بحبل القيم و الأخلاق و الحوار.

تعليق 1
  1. القبابي يقول

    شكرا االاخ المفكر رشيد.اثمن تاملاتك و اشاطرك الالم و الامل لكن يبدو ان عقل الامة الان غير قادر على طرح الاسئلة الحقيقية..في الانتظار

    الامة في حاجة الى اجوبة حقيقية عن اسباب تاخرها تعليميا اولا و فكريا أخيرا…

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.