سياسة للفن، وفن للسياسة
بقلم: سعيـد بوخليـط
خلال كل سنة،من مثل هذه الأيام،نلاحظ حضورا قويا للحس الفني،وتداوله العمومي بين مختلف طبقات المجتمع. فأينما حللت وارتحلت،إلا وصادفت نقاشا يساجل نقديا،ماتعرضه القنوات الوطنية،من بضاعة إنتاجية،حتى لانجازف بالقول منتوجا فنيا.وغالبا،ماتتصف هذه الأحكام،بشعور الانزعاج والتبرم.مادام المواطن،يألف نفسه في مثل هذه المناسبة،مشدوها أكثرا نحو الصندوق الأسود،دون أن يشفي غليله.
بدورهم،اعتاد القائمون على صناعة الذوق الفني،تزامنا مع المناسبة ذاتها،كي يمارسوا لعبة القط والفأر،ويفصحوا عن سادية مرضية زائدة جرعاتها،لايمكن حقيقة عزلها عن مايجري سياسيا واقتصاديا.
الأسئلة التي تطرح بهذا الخصوص،عديدة،أهمها :لماذا حتما رمضان والفرجة؟هل،يجدر بالفرجة أن تكون كوميدية،يعني أن نضحك من أعماق باطننا،حتى يختلط ظهرنا بصدرنا،وتقفز قلوبنا من بين ضلوعنا؟مامعنى الكوميديا؟هل، يتحتم أن نصدح بأفواهنا ضاحكين،كي نخبر الجميع أننا فرحون،وسط هذا الشقاء الذي يلفنا من كل جانب؟هل ،تتحقق لحظتها سعادتنا؟ماجدوى، أن تكون سعيدا؟مالمحددات،الماهوية للسعادة من عدم السعادة؟من هو “الفنان” المغربي،الذي يمتلك حاليا مؤهلات كوميدية خاصة،وموهبة نوعية،وحضورا مشعا، تمنحه القدرة على جعلنا نتصالح مع ذواتنا للحضات،دون أن يعجن كثيرا من الترهات؟.
استفسارات،ستبدو فقط بمثابة الشجرة التي تخفي الغابة :هل، نعيش باستمرار حياة فنية راقية ، أثناء رمضان وغير رمضان؟هل، دأبنا في يومياتنا،على إشباع الذائقة الفنية،مثلما نفعل مع باقي الاحتياجات ؟كم ننتج على امتداد السنة،من مسرحيات وأفلام سينمائية وقطع موسيقية،جديرة بأن تنمي منظورنا الجمالي؟كم عدد المجلات العلمية الرصينة وليس التجارية السوقية،التي تهتم بتكريس القيم الجمالية؟أي حضور للمغرب،في المنتديات الفنية الدولية؟من هو الموسيقي أو الممثل السينمائي أو المسرحي،الذي يعرفنا العالم من خلاله؟ماهي، مستويات مساهمتنا في الفن المعاصر؟ثم،هل نحن شعب مهذب فنيا؟… .
استطرادات لغوية،لاتنتهي،لأنها مترابطة حد الاشتباك،قد نتبين فقط خريطة ممراتها الدقيقة،عبر طريقين وعرين :هل، يملك النظام السياسي القائم،منظورا فنيا ومشروعا جماليا؟هل، ما يلقى أمام وجوهنا حاليا من أسماء تنط هنا وهناك،تقبل فعل أي شيء، فارتقت بجرة تسيب وغيبوبة فكرية إلى الواجهة الإعلامية،تستحق فعلا وصفها بالفنية؟ النعت هائل، ولا أظن، أن الأمر يتحقق بين عشية وضحاها،وبأي وصفة كانت؟بالتالي،لا يمكن لأي كان،وبالسهولة التي يتصور،منح نفسه الحق في تمثل جماعته فنيا ويصير فنانا،إلا إذا أبان عن وجود استثنائي وتمتعه بقدرات نفسية وذكائية وتأثيرية وتعبوية ،تزيد طاقتها عن باقي الخلق،مما يؤهله مباشرة كي يتبوأ مكانة الصفوة التي تقود وتوجه المجتمع نحو القيم الكونية المثلى.
هكذا،تقدم لنا الدول المتقدمة،صورة خلاقة تجمع السياسي بالفنان،وقد تقاسما بينهما الدور عينه،كلاهما بخطابه وآلياته الإقناعية، يشتغلان معا وسط العمق المجتمعي من أجل تفعيل منظومة ،تزاوج بين النظرية والبراكسيس،العقل والخيال،الذكاء والحس،العقل والحدس،القائم والممكن،النسبي والمطلق،الحاضر والأبدي،… .
في المغرب،لاأفق من هذا القبيل، ولا هم يشرئبون.أضحى الجميع متفقا،الطفل قبل الشيخ،والأبله قبل العاقل،أن السياسة انتهت إلى مستنقع تشع منه أبخرة النتانة،تزكم الأنوف،لا يمكن للمقترب منها لاسيما من أبقى على حواسه شفافة نقية،إلا أن يصاب بالحمى والقيء،والدوار والغثيان.تتقطع أحشاؤك مخاضا،جراء وقع الرائحة العفنة.لأنها،سياسة لاتشبه، سياسة أخرى في العالم.
إذن، بخصوص هذا الجانب،ربما حسم الجميع حكمه عليه،إلا أهله ومن تبعهم،الذين يرتدون في اللحظة ذاتها عشرات الأقنعة ،بغية تنميق وترميم الأكذوبة، فقد امتلكوا ما يكفي من مواهب الصراعات الدنيئة،ما يعجز المادة الرمادية لأي خبير في خطط حرب العصابات،على تمثله واستيعابه.
أما، المنحى الثاني،والمتعلق بالحشود التي ازدهر توافدها،نحو أرضنا الفنية اليباب،أو الفوضى التي يتوخون منها ربما بمنطق المربكة، أن تغدو خلاقة ذات مساء، مبلورة كائنا بملامح مقبولة. السؤال الذي يطرح نفسه أيضا في هذا المقام،يتعلق بنوعية الأشخاص المؤهلين ،كي يندرجوا ضمن الزمرة الفنية،ومربعهم الخاص،بمعاييره المعرفية والروحية والوجودية والسلوكية.
لكني أتدارك،كي أظل منسجما مع قناعاتي،أن مستويات التأويل تتجاوزني كفرد،ويقتضي اختبارات سوسيولوجية، بروائز مهيكلة ومبنينة، تمنح بدليل حقا كهذا،أو تأخذه وفق خطاطات بيانية عامة،بالتالي، من باب احترام الفردانية والاختيارات والمرجعيات والتطلعات الذاتية،أن لا يتم تعميم ما هو محض وجهة نظر شخصية.
إذن،على ضوء التأويل السابق،أعتقد بأن الفنان من استند على ركائز،تعتبرفي مجملها بديهيات : 1-التكوين المعرفي والأكاديمي2.-دراية واسعة،باجتهادات العقل الجمالي ،في أبعاده المتعددة. 3-إشعاع، نوعي لشخصية الفنان،نظرا لكينونته الاستثنائية،قياسا للجماعة التي ينتمي إليها 4-مواقف واضحة من كل أشكال التبخيس والضحالة التي تمس البشر،فالفنان من يستشرف التاريخ،بعقله الباطني. 5-ترفع، وتسامي، طموحاته الحياتية والعملية،عن المقتضيات المبتذلة للأفراد العاديين،لأنه شخص أنوف، وروح حرة دائمة التحليق والرحيل، تجترح فضاءات مختلفة6.-الفنان،هوالإبداع، نقطة إلى السطر.مثلما أن المثقف، هم معرفي، وليس ألقابا توزع هنا وهنا. الإبداع، ليس تقليدا ولا إعادة توضيب وإخراج بطريقة أخرى.الإبداع ،يعني ببساطة أن تخلق من العدم،كيانات لم يسبق إليها غيرك. إنه ريادة.
حينما،تنعدم مداخل أساسية من هذا العيار،يصعب التفكير في الكلام عن الهالة الفنية،إن صح التعبير،فالفنان أيقونة تلهم رمزيا وحسيا،باقي الذوات معاني الحياة والموت معا.
عندنا في المغرب دائما،وعلى شاكلة السياسة، فلانحن نتطلع ولاهم يريدون.هكذا،سنحتاج إلى سنوات طويلة من الاشتغال القاعدي الجاد، سواء على مستوى مؤسسات الدولة، أو الفضاءات المدنية كي نصل إلى مرحلة الإقناع الفني،وإمكانية الترويج للمنتوج محليا ودوليا.
لقد تغذت مخيلتنا منذ نعومة أظافرنا،على حكاية مفادها،أن الفن في هذا البلد يقتل إملاقا،بحيث علقت بذاكرتنا صورة “الفنان” المغربي،وهو يجسد صورة البؤس في كل مكان،باكيا ومتوسلا الدوائر العليا،كي تحن عليه وتغدق عليه من عطائها،لأنه لايمتلك من متاع الدنيا فلسا.وضع، أثار ويثير،الاشمئزاز والامتعاض،مادام يفترض في الفنان،تمتعه بغنى وزخم وجداني،يجعل منه نبراسا للمواطنة الحقة،حيث يحظى مثله مثل باقي المواطنين بحقوق يتحتم عليه الدفاع عنها،وفي نفس الوقت،التزامه المبدئي بتأدية واجبات،رافضا كل أشكال التسول والانبطاح.
ربما،تمثلت الأسماء الحالية،بحذر هذا المخيال السيئ الذكر،وإنقاذ ما يمكن إنقاذه معيشيا، فصارت الممارسة الفنية لديها مايشبه منطق الغنيمة، وفرصة ثمينة لأبناء القبيلة الواحدة، كي يظفروا بها ويعضوا بالنواجذ على الوزيعة،التي تصطحبها معها ما بات يعرف بالفرجة الرمضانية.
أقصد بالغنيمة،هاته الميزانيات الضخمة،التي ترصد كل سنة بهذه المناسبة،انطلاقا من شعار :”اضحك ،فلجسدك عليك حقا؟؟”. لكن الإشكالية،التي تترتب عن الأمر،أن الضحك يفقد بعده الوجودي الأساس،وتنمحي توابثه الأصيلة،ولانعرف : من يضحك، على من؟نحن أن هم ؟أم الواقع، يضحك عنا جميعا؟ بل، وملء شدقيه.