الصعود إلى الهاوية
حل الفيلسوف الفرنسي إدغار موران ضيف شرف على المعرض الدولي للنشر و الكتاب في دورته 17 بالدار البيضاء ،و في إحدى اللقاءات الصحفية سأله صحفي شاب و على محياه نوع من الغبطة الزائدة: باعنباركم من آخر المفكرين و الفلاسفة الأحياء في القرن العشرين و من أبرز المهتمين بقضايا الفكر و المعرفة ،ما رأيكم في هذا الحراك الجماهيري الذي تعرفه مختلف الدول العربية خصوصا تونس و مصر ، و الذي بسببه أصبحت وسائل الإعلام تتحدث عن ثورة عربية- إسلامية ؟؟ فأجابه الفيلسوف الفرنسي :” أعتقد أن ما تشهده هذه البلدان هو حراك ذو طابع ثوري وطني يسعى في عمقه إلى العمل على زعزعة نظام قديم ثم إحداث نظام جديد لا أحد يدري كيف سيكون شكله،إن كل ما يحدث اليوم هو دليل على طموح الانسان العربي إلى تحقيق الحرية بل هو رد فعل من أجل مواجهة الفساد و كل أشكال الإستبداد …هذه الطموحات قد نجد لها جذورا و مبادئ إبان ما حدث في فرنسا و اقتحام قلعة الباستيل كرمز للسلطة الملكية في البلاد سنة 1789 ثم سينجح الفرنسيون بعد ذلك في إقامة نظام جمهوري بدل الملكية المطلقة …”
إذن فرنسا بعد أزمات و تراكمات اقتصادية و سياسية بل و دينية نجحت أخيرا في القضاء على النظام القديم و تم الإقرار بفصل السلط و فصل الدين عن الدولة ، أضف إلى ذلك إلغاء كل الإمتيازات المجانية و العمل على تحقيق العدالة الإجتماعية… كل هذا منذ أواخر القرن 18 و بداية القرن 19؟؟ و اليوم أفاقت الشعوب العربية من سباتها الشتوي الذي طال إلى حد الرتابة أو أصبح يندرج ضمن العادات و التقاليد العربية الموروثة أبا عن جد، لكن للأسف الشديد استيقظت متأخرة و قامت ب-ثوراتها- و كأنها تمشي خلال النوم ،فعندما يتمعن المرء بعين المنتقد للمشهد السياسي الذي آلت إليه مختلف الدول العربية بعد -وسأقولها بتحفظ- ثورات الربيع العربي سواء في تونس الاغتيالات و مصر الانتكاسات و أيضا سوريا الخراب الشامل…قد يفهم أو لن يفهم مطلقا حقيقة المرحلة و لا العقلية العربية المتأسلمة التي تنضح بما ليس فيها ، فاليوم اتضح بالملموس أن ما بعد -الثورة- أصعب و أعمق بكثير من الثورة ذاتها ما دام الأمر متعلقا لشعوب لازالت تعاني من توترات إديولوجية عقيمة و تطاحنات سياسية اقتصادية غير بريئة يتم فيه تغييب الوعي من خلال إيقاعات رتيبة داخل عالم عربي/غابة زاخر بالأكاذيب و التزييف و أيضا الخطابات السياسية و حتى الدينية الناشفة التي تكرس جهلا على جهل و غباء فوق غباء إلى حد يصبح فيه الأحمق هو ذاك الذي يرى الأمور على حقيقتها.
كل الأحلام و الطموحات العربية اليوم يتم خنقها على يد شرذمة من زناة المبادئ و ممارسي الدعارة السياسية داخليا و خارجيا ،و التي تؤمن إيمانا راسخا بأنه ” لا بديل لدول العالم العربي من نظام ديكتاتوري ، بوليسي عسكري أو تيوقراطي ديني” كما يعتقد بذلك الكثيرون في أوربا على حد تعبير إدغار موران . و إذا كانت البلاد العربية تعرف تفاعلات بين ظواهر سياسية ،اقتصادية، اجتماعية ودينية فذلك لا يعني البتة الوقوع في براثن هذه الفوضى غير الخلاقة و إنما بات من الضروري تحقيق التصالح مع الذات و توضيح الرؤية: من نحن؟ و ماذا نريد؟ بعيدا عن الشعارات الخاوية العالقة بين مد القيم الحداثية التقدمية و جزر الحركات الإسلامية الرجعية التي تعمل بكل ما اوتيت من قوة على شرعنة الإسلام السياسي من داخل بلدان و حكومات لا تعتبر اللإسلام سوى مطية أو جسر العبور نحو السلطة فوق ظهور و أكتاف السذج بل و لا تنظر إلى السياسية إلا كلعبة قائمة على المراهنة و الخداع في سبيل تجسد البرغماتية الواقعية الماكيافلية” الغاية تبرر الوسيلة”.
يجب البدء من تنظيف الدواخل و إصلاح الفكر المأزوم الملوث بإرث كبير من المفارقات و الفصامات التي تطبع الهوية العربية الإسلامية ، و الحامل أيضا لمكبوت سلطوي لا يرى عن العنف محيدا و لا بديلا…للأسف ما هكذا تجري الأمور و ما هكذا يتحقق التقدم في التاريخ أو صناعته حتى، و ما فرضت الديمقراطية يوما أو مورست بالعنف و إنما : “c ‘est par la démocratie qu’on apprend la démocratie” كما عبر عن ذلك المناضل العملاق عبد الرحيم بوعبيد، و ما نعيشه اليوم هو فعلا وضع وضيع موجزه عند نزار قباني:
خلاصة القضية
لبسنا قشرة الحضارة
و الرووووح جاهلية….
محمد أبرباس