النخب المحلية، المجتمع المدني والديمقراطية التشاركية
1. النخب المحلية: فعاليات حزبية وإدارية أم أدوات تنموية؟
2. المجتمع المدني: جمعيات تناضل من أجل صناعة الأمل.
3. مسار تحديث: من الديمقراطية التمثيلية إلى الديمقراطية التشاركية
ازداد وعي الشعوب كما ازداد تعاطيها للشؤون العامة على المستوى الإداري والتنفيذي بطريقة لا تقف على مجرد المشاركة في اختيار الحكام، بل تحتكم إلى المساهمة بصورة أو بأخرى في ممارسة الديمقراطية، ومن الممكن تعاملها مع هذه الظاهرة الجديدة من خلال تحمل المسؤولية الكاملة في إدارة كل ما يتصل بحياتها اليومية من مشروعات. مما دفع بالدولة المعاصرة (أي الدولة الليبرالية الجديدة) سواء منها المتقدمة أو النامية إلى أن تتجاوز حدود الدولة الحارسة المقيدة بالمرافق العامة التقليدية المسماة بالوظائف الأصلية السيادية العمومية التي تديرها الدولة وتظهر فيها صاحبة السلطة والأمر والنهي، وتتجاوز أيضا حدود الدولة المتدخلة، والعمل على تقنين هذا التدخل الذي يختلف من دولة إلى أخرى لإدارة المشروعات العامة الاقتصادية والاجتماعية ، بقصد تحقيق التنمية الفعالة من جهة ومن جهة ثانية تحقيق قدر من التضامن الاجتماعي على أساس من العدالة والمساواة.
من أجل ذلك، فقد عمدت الدولة في البداية إلى التخفيف من حدة أسلوبها المركزي، باتباع أسلوب عدم التركيز الإداري، متنازلة عن بعض اختصاصاتها إلى هيئات أنشأتها تلبية لمصالح محلية أو لاعتبارات فنية، وتحت تأثيرات الاتجاهات الديمقراطية تنازلت عن بعض تلك الاختصاصات لهيئات منتخبة من الوحدات الإدارية الترابية في الدولة لتباشر إدارة أمورها ومشاكلها بنفسها متبعة بذلك النظام المحلي، والخضوع للسلطة الإدارية الوصية في إطار نوع من اللامركزية سواء في مدلولها السياسي الهادف إلى توجيه السياسة التنموية وفق مقتضيات الصالح العام وإعطاء الهيآت المحلية حق اتخاذ القرارات بشكل انفرادي، أو في مدلولها الإداري المتمثل في تقريب الإدارة من المواطنين وإسناد حل المشاكل المحلية إلى سلطات منبثقة عن جماعات معينة لمساندة السلطات المركزية بالوسائل التقنية والفنية.
إن ممارسة الجماعات المحلية لاختصاصاتها يفرض، بالإضافة إلى توفر الموارد المالية، وجود الموارد البشرية، حيث إن تدبير الشأن العام المحلي يتأثر بعقلية مسيريه وبالأسلوب الذي ينهجونه في ذلك. ومن هذا المنظور، فإن تحقيق الأهداف المسطرة لبلوغ التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية يستدعي باستمرار بعض المؤهلات، لأن للمنتخبين المحليين صلاحيات هامة ومتعددة ترتبط بكل مجالات التسيير المحلية، دون إغفال دور الموظف العمومي المحلي، باعتباره المنفذ لقرارات المجالس المحلية، مما يفرض طرح السؤال التالي: هل الوسائل البشرية مؤهلة لتفعيل اختصاصات الجماعات المحلية، وقادرة على مواكبة متغيرات تدبير الشأن العام المحلي؟
لقد أصبح مفهوم الجماعة المحلية يحدد انطلاقا من البعد الاقتصادي، الأمر الذي يتطلب تكريس ثقافة التدبير التي تؤسس على أسلوب «التدبير المقاولاتي» بهدف إعطاء فعالية أكبر للعمل المحلي، غير أن هذا النوع من التدبير يتطلب توفر المسيرين على مؤهلات وإمكانيات معينة لتساعدهم على ضمان التسيير الجيد للشأن المحلي لتحقيق المردودية المطلوبة، لكن الممارسة المحلية أثبتت أن مهام التسيير المحلي تعترضها مجموعة من الصعوبات
ويظل أبرز هذه الصعوبات ضعف المستوى التعليمي والثقافي للمنتخبين المحليين، إضافة إلى غياب التكوين، فعلى الرغم من أهمية التعديلات الجديدة والإصلاحات الواردة في القوانين المتعلقة بتنظيم الجماعات المحلية والتي أقرت النظام الأساسي للمنتخب المحلي، بما يتضمنه من معطيات جديدة تهدف إلى تحسين وضعيته وتدعيم مكانته للدفع به قدما نحو تدبير أفضل للشأن المحلي، فإن اشتراط التوفر على مستوى نهاية الدروس الابتدائية للترشيح لمهمة رئيس المجلس، وأن يكون كاتب المجلس ومقرر الميزانية من بين الأعضاء يحسنان القراءة والكتابة، يبقى دون مستوى التطلعات.
من خلال هذه التعديلات، يطرح السؤال: ما مدى مساهمة منتخبين بهذا المستوى التعليمي والثقافي الهزيل في تحقيق تدبير جيد للشأن المحلي؟ خاصة أمام الدور الجديد الذي أصبحت الجماعات المحلية مطالبة به، حيث يفترض في المستشارين توفرهم على مستوى يؤهلهم للتأقلم مع شروط الإدارة المحلية والاستيعاب المحكم للاختصاصات المسندة إليهم.
لكن على الرغم من اشتراط توفر مستوى تعليمي أعلى في المنتخبين الجماعيين، فإن ذلك يظل تطورا دون المستوى المطلوب، وهذه الوضعية تساهم في تهميش المؤسسة التمثيلية وتدخل السلطة المحلية في تدبير الشؤون المحلية، بحجة تجاوز العجز وعدم كفاءة المنتخبين المحليين.
فنظرا إلى تنامي الاختصاصات الموكولة إلى مختلف الوحدات المحلية، يتحتم على المنتخبين إدراك أهمية المسؤولية الملقاة على عاتقهم، وارتباط مباشرة اختصاصاتهم بعدد من الإجراءات والمساطر التي تتدخل فيها عناصر أخرى تلزمهم بالمعرفة الدقيقة بالدور المنوط بهم وبحقوقهم وواجباتهم، وكذا بالقوانين التي تؤطر العمل المحلي.
كما أن التعقد الذي أصبح يطبع العمل المحلي والإكراهات التي تواجهها الجماعات المحلية في سعيها إلى تحقيق شروط التنمية، أضف إلى ذلك الصعوبات الأخرى التي تعرفها الجماعات المحلية، كالوصاية المفروضة عليها، وضعف الموارد المالية،…، يحتم على المنتخبين توفرهم على الخبرة والكفاءة اللازمتين واتخاذ كافة التدابير التي تمكن من التغلب على هذه الصعوبات وتحقق التنمية
المحلية، الأمر الذي يتطلب تكوين وتأهيل المنتخبين المحليين للنهوض بالأعباء الملقاة على عاتقهم، فحتى لو توفرت الإمكانيات المالية فلن تستطيع تحقيق شيء دون مرافقتها بمسيرين في المستوى المطلوب. أما المستوى التعليمي فيظل غير كاف لإدارة الشؤون المحلية، وخصوصا في الجماعات الكبرى التي يتعقد تسيير شؤونها ويتطلب كفاءة ومؤهلات عالية.
كما أن المشرع لم يعط مسألة تكوين المنتخب أية أهمية تذكر، وذلك على خلاف ما قامت به العديد من التشريعات المقارنة ( )، إضافة إلى ذلك نجد غياب مؤسسات متخصصة في مجال تكوين المنتخبين، وكل ما نجده هو مراكز للتكوين الإداري والتقني إلى جانب المعاهد والمدارس الوطنية، وهي مؤسسات متخصصة في تكوين الأطر، سواء على المستوى الوطني أو المحلي.
فقد أبانت الآليات المعتمدة في تكوين المنتخب المحلي عن قصورها في تحقيق ذلك، حيث صاحب تجربة اللامركزية تنظيمُ مجموعة من المناظرات الوطنية للجماعات المحلية، وبعض التظاهرات المحلية، كآليات إعلام وتكوين وتأهيل المنتخب المحلي.
وعلى ضوء هذا الخصاص الذي يشكو منه العمل المحلي في مجال تكوين وتأهيل المنتخبين، يتعين وضع استراتيجية لتكوين المنتخب المحلي تحدد معيقاتها وترسم غايتها وتضبط مصادر تمويلها، على أساس توزيع المسؤولية ما بين الدولة والجماعات المحلية والجماعات والهيئات المعنية.
وإذا كانت تطرح مجموعة من الإشكاليات المرتبطة بالمنتخب المحلي، فإن الموظف المحلي بدوره لم ينج منها، وذلك نظرا إلى الدور الهام الذي يلعبه على مستوى تدبير الشأن المحلي، حيث إن أي خلل يمس النسق العام المحلي يؤدي إلى عرقلة التنمية المحلية.
ومن اجل تسيير امثل للشأن المحلي نصت المادة 36 على أن المجالس المحلية لا بد لها من وضع مخطط جماعي للتنمية ،الذي يعد حسب ما جاء في دليل المنتخب الذي أصدرته المديرية العامة للجماعات المحلية هو” آلية تشاوريه تسعى إلى دفع الفاعلين المحليين إلى تحديد أهدافهم التنموية التي يتطلب تنفيذها تعبئة الموارد المحلية أولا ، ثم موارد الشركاء ثانيا ” وهو “تخطيط استراتيجي ، لان الأهداف المسطرة نابعة من القرار السياسي المحلي الذي يتخذ خيارات ذات طبيعة هيكلية ترهن مستقبل الجماعة و تحدد السبل الواجب إتباعها و الوسائل الواجب إعمالها لتحقيق تلك الأهداف ..”.
إن أهم شيء ينبنني عليه المخطط الجماعي للتنمية هو المقاربة التشاركية التي تهدف إلى إشراك كافة المؤسسات التقليدية والعصرية في رسم إستراتيجية تنموية ناجحة بواسطة التشخيص التشاركي الترابي العميق الذي يؤدي إلى بيان المشاكل الحقيقية التي يعاني منها مجال معين تمكن ذات الفاعلين من رسم استراتيجية للخروج من المشاكل عبر وسائل محددة وحقبة زمنية محددة، و فق رؤية استراتيجية واضحة قابلة لإنتاج مشاريع حقيقية قابلة للنجاح و للحياة .
بالإضافة إلى المادة 36 السالفة الذكر وضع المشرع المادة 14 التي تنص على تكوين اللجان المكلفة بتكافؤ الفرص ، تتكون أساسا من ممثلي المجتمع المدني، فعلى الرغم من أنها آلية تشاوريه اقتراحيه، فإنها تعزز تكافؤ الفرص التنموية داخل الجماعات المحلية بعيدا عن التجاذبات القبلية، و السياسوية الضيقة ،بحيث جعلها المشرع وسيلة لخلق التوازنات التنموية في الجماعات الحضرية والقروية … . أضف إلى ذلك الدور المهم الذي خوله المشرع إلى اللجان الدائمة بالمجالس، وفق المادة 14 السالفة الذكر، خصوصا اللجنة المكلفة بالتخطيط و الشؤون الاقتصادية ،و التعمير و إعداد التراب و البيئة و الميزانية و المالية ،و اللجنة
المكلفة بالتنمية البشرية و الشؤون الاجتماعية و الثقافية و الرياضية ، إن لهذه اللجان أهمية كبيرة في خلق دينامية، و حركية داخل الجماعات.
ان الإشكالية المعقدة التي تطرح نفسها، وهي مدى تأهل العنصر البشري المنتخب لتسيير الشأن المحلي على العموم وتفعيل هذه اللجان على الخصوص لكي تقوم بدورها الحقيقي الذي أراده المشرع، فمعظم أعضاء المجالس المحلية ، وهذه المسالة ليست مطلقة بالطبع ، أميون أو شبه أميين ، وحتى المتمدرسون منهم أو الحاصلين على الشهادات العليا ناذرا ما يكونون ملمين وعارفين بطرق التسيير، أو طرق وضع استراتيجيات ناجحة تمكنهم من اقتراح مشاريع فعالة و ذات جدوى ،تجعل من الجماعة المحلية قاطرة حقيقية للتنمية ، وهذه المسالة وحدها تحتاج الى نقاش سياسي وطني عميق من لذن كل الشركاء التنمويين .
إن النيات الحسنة وحدها لا تكفي لتدبير وتسيير الشأن المحلي ، فلكل لعبة قواعدها وأسسها، فبعض الجماعات لم تجتمع فيها لجانها الدائمة بالكيفية المطلوبة من اجل وضع استراتيجياتها الآنية أو المستقبلية، وبعضها لم يرفع أي توصية أو مقترحات إلى مجالسها من اجل عرضها للتداول أثناء الدورات ، وهناك من رؤساء المجالس المحلية القروية منها أو الحضرية من توجس وتحفظ على تأسيس لجنة تكافؤ الفرص بجماعته،خشية أن يخلقوا لأنفسهم أجهزة تقترح عليهم أو تلاحظهم من الداخل … و هذا بالطبع مخالف لروح ما أراده المشرع في المادة 14 من الميثاق الجماعي.
المجتمع المدني والبناء الديمقراطي
ينص الفصل 12 من الدستور على أن المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية تؤسس وتمارس أنشطتها بحرية.
كما تساهم الجمعيات المهتمة بالشأن العام والمنظمات غير الحكومية في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية.
كما ينص الفصلان 14 و15 على الحق في تقديم ملتمسات في مجال التشريع، وكذا الحق في تقديم عرائض إلى السلطات العمومية.
وينص الفصل 139 على تيسير مساهمة المواطنات والمواطنين والجمعيات في إعداد برامج التنمية وتتبعها.
ولقد شكل المجتمع المدني محورا أساسيا في الخطابات الملكية، وذلك من خلال:
1) تفعيل دور المجتمع المدني.
2) المسؤولية الجماعية بما في ذلك الجمعيات؛
3) المواطنة المسؤولة والكاملة والإيجابية والكريمة والتضامنية.
4) تكريس مكانة المجتمع المدني والمعارضة البرلمانية.
وقد كرس البرنامج الحكومي هذا الاختيار انطلاقا مما يلي:
• التدبير الحكومي؛
• الديمقراطية التشاركية وتطوير العلاقة بالمجتمع المدني.
• التشاور مع المجتمع المدني
• دعم الجمعيات النشيطة؛
• تشجيع التشغيل في الجمعيات؛
• دعم الجمعيات الداعمة للنساء في وضعية صعبة؛
• تعزيز مكانة المجتمع المدني.
وفي علاقته بالقطاعات الحكومية، ركزت الأمانة العامة في حصيلة نشاطها لسنة 2011 على أنها تلقت تصاريح 352 جمعية بما توصلت به من مساعدات أجنبية، حيث ناهز المبلغ ما يفوق 145 مليون درهم. وأكدت نفس المراجع أيضا أن الجمعيات المتمتعة بصفة المنفعة العامة قدرت بـ194.
كما تتوفر الأمانة العامة على مديرية تهتم بالسهر على تطبيق النصوص التشريعية المتعلقة بتأسيس الجمعيات، ثم منح رخص التماس الإحسان العمومي، ودراسة طلبات الاعتراف بصفة المنفعة العامة…
ومن المراجع المعتمدة في هذا الإطار نذكر ظهير 1958 الذي ينظم تأسيس الجمعيات العادية والمعترف لها بالمصلحة العمومية والجمعيات الاتحادية والجامعات.. وهناك القانون رقم 04/71 المتعلق بالتماس الإحسان العمومي.
ونظرا إلى الأهمية التي أصبحت توليها الحكومة للمجتمع المدني بمنطق الدستور، فقد ضمت في هيكلتها وزارة مكلفة بالعلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني.
وقد أكد المرسوم رقم 45/12/2 المتعلق باختصاصات الوزارة على التنسيق بين الحكومة وجمعيات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية، إضافة إلى تعزيز حكامتها وتتبع ومواكبة نشاطها في إطار تفعيل الديمقراطية التشاركية.
غير واقع جمعيات المجتمع المدني يظل “كئيبا” خاصة اذا استحضرنا خلاصات دراسة قامت بها المندوبية السامية للتخطيط «2007». ويمكن أن نوجزها في ما يلي:
• أكثر من نصف الجمعيات لا يتوفر على مقر؛
• 78 لا تنتمي إلى أي شبكة للتعاون؛
• 1 من أصل 5 ميزانيتها السنوية لا تتعدى 5000 درهم سنويا؛
• 1 من أصل 3 تقل ميزانيتها عن 10000 درهم؛
• 54 تفوق 50000 درهم.
ومن أجل تقوية الفعل التطوعي يتم التشاور حاليا بين كل القطاعات من أجل الوصول إلى خطة موحدة للتعاون مع المجتمع المدني. وقد قدمت بعض معالمها أثناء مناقشة مشروع القانون المالي 2012، والتي يمكن إيجازها في ما يلي:
1) المساهمة في تنمية الوعي لدى المواطنات والمواطنين في علاقتهم بصناعة السياسات العمومية.
2) مناظرة وطنية حول المجتمع المدني ومأسستها
3) منظومة مؤشرات حول حكامة المجتمع المدني.
4) لقاءات وطنية ومحلية وأجنبية.
5) لقاءات أكاديمية تأطيرية.
6) إعداد مشاريع قوانين ذات صلة
7) مراجعة وتعديل الإطار التشريعي للجمعيات والمراسيم وتقديم العرائض.
8) وضع مشاريع قوانين تهم ملتمسات التشريع وإعداد القرارات والمشاريع لدى المؤسسات المنتخبة.
9) إحداث مرسوم ينظم الحكامة المالية للجمعيات؛
10) وضع قانون متعلق بالعاملين في المجال التطوعي.
11) تقرير سنوي أمام البرلمان قبل نشره يهم المجتمع المدني في علاقته بالمجتمع المدني.
مسار تحديث: من الديمقراطية التمثيلية إلى الديمقراطية التشاركية
ومع تزايد النداءات الرامية إلى ضرورة فتح مجال أوسع أمام مكونات المجتمع المدني، خصوصا السكان و الجمعيات التي تمثلهم، للمشاركة في صياغة القرار العمومي، يبقى التساؤل متعلقا بالكيفية التي تتم من خلالها هذه المشاركة. يدفعنا هذا إلى طرح السؤال المحوري التالي : أي دور للمجتمع المدني في تفعيل آليات الديمقراطية التشاركية ؟
حددت الديمقراطية في ثلاث مبادئ ؛
أولا، أنها مجموعة من القواعد (règles) محددة من طرف السلطات وذلك من أجل اتخاذ القرارات التي تهم الحياة الجماعية ؛
ثانيا، مشاركة الأفراد بشكل مباشر أو غير مباشر في اتخاذ هذه القرارات ؛
ثالثا، يجب أن تكون القرارات واقعية(réels)
يستنتج من ذلك أن مشاركة الأفراد في اتخاذ القرارات التي تعنيهم هو جوهر الديمقراطية، وهذا يتأتى عن طريق المشاركة المباشرة أو غير المباشرة. والمقصود بذلك، أن الديمقراطية تنقسم إلى قسمين : تمثيلية و تشاركية. فالديمقراطية التمثيلية تعني اختيار الأفراد لممثليهم عن طريق انتخابات مباشرة، كمثال الانتخابات الجماعية. أما الديمقراطية التشاركية، عندما يتم استدعاء الأفراد للقيام باستشارات كبرى تهم مشاريع محلية تعنيهم بشكل مباشر و ذلك لإشراكهم في اتخاذ القرارات مع التحمل الجماعي للمسؤوليات المترتبة عن ذلك.
من خلال الجمع بين الديمقراطيتين التمثيلية و التشاركية، يمكن القول أن الأفراد يساهمون على المستوى المحلي في المشاركة في تدبير الشأن العام. فالمواطنون يختارون ممثليهم لتمثيلهم و السهر على تدبير شؤونهم العامة، وفي الوقت نفسه يشاركون في صنع القرار من خلال المشاركة في النقاشات المحلية المتعلقة بالبرامج التي تهدف إلى تحسين ظروف حياتهم.
و يرى البعض أن الديمقراطية تكون ناقصة عندما تكون تمثيلية فقط، معنى ذلك، لكي تصبح الديمقراطية كاملة يلزم إضافة مشاركة السكان في تدبير الشأن العام عبر استشارات كبرى قبل البدء في انجاز المشاريع، و كذا القيام باجتماعات عمومية معهم، و غير ذلك من الآليات. وبذلك يمكن القول أن الديمقراطية التشاركية مكملة للديمقراطية التمثيلية.
وانطلاقا مما تقدم، نقدم مجموعة من التساؤلات لها ارتباط بدرجة مشاركة السكان في تدبير الشأن المحلي في إطار الديمقراطية التشاركية : إذا كانت مشاركة المجتمع المدني (جمعيات، سكان…) في تدبير الشأن المحلي هي أساس الديمقراطية التشاركية، كيف تتم هذه المشاركة ؟ هل يكفي فقط القيام باستشارات كبرى مع السكان قبل صياغة القرارات للقول بأن الديمقراطية التشاركية تحققت ؟ نفس التساؤل يهم الإجتماعات الدورية مع السكان و مع ممثليهم المدنيين. لنفترض أن هناك فعلا استشارات و اجتماعات تنظم مع السكان بصفة منتظمة و دورية، هل مطالب الساكنة المعنية بمشروع ما تأخذ بعين الاعتبار؟ وكيف ينظر ممثلو السكان الذين اختيروا عن طريق الاقتراع إلى مطالب السكان من خلال الاستشارات و الاجتماعات معهم؟ ألا يتخوف هؤلاء على مواقعهم من خلال تنامي المطالب المنادية بضرورة توسيع مشاركة السكان في تدبير الشأن العام المحلي؟
وفيما يخص النوع الثاني من المشاركة – مشاركة السكان في مساعدة السلطات −، نقدم نموذج البرامج التنموية بالدول السائرة في طريق النمو، كمثال “المبادرة الوطنية للتنمية البشرية”، إذ يساهم المجتمع المدني، من خلال الجمعيات التي تمثل السكان، في تفعيل الخطوط العريضة للبرامج على المستوى الميداني دون أن يشارك، أو على الأقل أن يستشار، في مسلسل صياغتها.
ويدفعنا هذا إلى التساؤل عن دور الفاعل الخاص (سكان، جمعيات، مقاولات…) في صياغة السياسات العمومية بالبلدان السائرة في طريق النمو، و كذا التناقض بين الخطاب و التطبيق في تفعيل المبادئ الأساسية للديمقراطية التشاركية
ومن خلال النموذجين السالفين الذكر، يتضح أن مشاركة المجتمع المدني في تدبير الشأن العام المحلي قد تكون أتناء صياغة القرار أو في التنفيذ أو هما معا، و في الحالة الأخيرة يتحقق، حسب اعتقادنا، الهدف الأساسي للديمقراطية التشاركية، بمعنى المشاركة في الصياغة والتنفيذ معا.
ويمكن القول، أن المجتمع المدني بالدول المتقدمة (فرنسا كمثال) يشارك في تدبير الشأن العام المحلي، إلا أن تلك المشاركة تبقى محدودة، و هذا راجع إلى تخوف المنتخبين من تراجع دورهم في الحكم المحلي.
أما بالنسبة للدول السائرة في طريق النمو، فمشاركة المجتمع المدني تتحقق في مرحلة التنفيذ، وفي الوقت نفسه يعتبر هذا الفاعل (المجتمع المدني) مقصي أثناء صياغة البرامج. يدل ذلك، على أن التخوف من المجتمع المدني لازال قائما بهذه الدول رغم أن التجارب أتبثت أن الثقة بين الدولة و هذا الأخير تعد مسألة حاسمة في تحقيق التنمية المنتظرة.
ومن جهة أخرى، يعتبر القاسم المشترك بين الدول المتقدمة و نضيرتها النامية من خلال مشاركة المجتمع المدني في تدبير الشأن العام المحلي هو “الخطوط الحمراء” القائمة بين الديمقراطية التمثيلية و الديمقراطية التشاركية، إذ التخوف نابع من التأثير الذي قد تلعبه هذه الأخيرة على مستقبل الأولى.
والواقع أن النقاش حول الديمقراطية التمثيلية والديمقراطية التشاركية نقاش فلسفي قديم، حيث سبق للفيلسوف جون لو ك أن ألمح إلى محدودية الديمقراطية التمثيلية عندما اعتبر أن لا أحد يمكنه أن يضفي الشرعية الديمقراطية على سلطة سياسية غير المواطنين أنفسهم.وأنه لا يكفي بالنسبة للمواطنين التعبير عن اختياراتهم، عبر التصويت لفائدة “ممثلين”، بل ينبغي أن تكون لديهم القدرة على مراقبة نشاط هؤلاء الممثلين.و يعتبر جون جان روسو المدافع القوي عن “الديمقراطية التشاركية”.ففي نظره لكي تكون الإرادة عامة، لا ينبغي تمثيل الشعب.فهو يؤاخذ على الانجليز على الخصوص وعلى نموذجهم التمثيلي التخلي عن حرية المشاركة السياسية بواسطة التصويت الانتخابي. يقول روسو “يعتقد الشعب الانجليزي أنه حر، فهو مخطئ كثيرا، فهو ليس حرا إلا في فترة انتخاب أعضاء البرلمان، فما أن ينتخبوا، حتى يصير عبدا، ولا شيء.ففي الفترات القصيرة لحريته، الاستعمال الذي يقوم به لحريته يجعله يستحق فقدانها.” وينتقد روسو بشكل عام كل تنظيم لا يأخذ بعين الاعتبار الاختلافات القائمة بين الأفراد، ويعتبر ذلك استهدافا للإرادة العامة.ومع ذلك فنموذج الديمقراطية المباشرة الذي يطالب بها روسو تم استبعاده تاريخيا في الديمقراطيات الحديثة، لصالح سيادة الديمقراطية التمثيلية التي يعتبر بنجمان كونسطان من أبرز منظريها .بل يمكن القول إن تصور بنجمان كونسطان للديمقراطية التمثيلية، انتصر لدرجة انه يصعب اليوم تخيل ديمقراطية لا تكون تمثيلية.
لكن هذا لا يمنع كون مفهوم الديمقراطية التشاركية بدأ يفرض نفسه شيئا فشيئا في الخطاب السياسي منذ عدة سنوات، لدرجة أن المفهوم أصبح أشبه ب”موضة”، وهو يشير إلى نموذج سياسي “بديل”.يستهدف زيادة انخراط ومشاركة المواطنين في النقاش العمومي وفي اتخاذ القرار السياسي. وتستهدف الديمقراطية التشاركية “دمقرطة “الديمقراطية، وذلك بتعزيز دور المواطن الذي ينبغي أن لا يقف عند حدود الحق في التصويت و الترشح والولوج إلى المجالس المنتخبة محليا ووطنيا ، بل أن يمتد ليشمل الحق في الإخبار وفي الاستشارة، وفي التتبع و التقييم.أي أن تتحول حقوق المواطن من حقوق موسمية تبدأ مع كل استحقاق انتخابي وتنتهي بانتهائه، إلى حقوق دائمة ومستمرة ومباشرة، تمارس بشكل يومي وعن قرب ، لدرجة أن هناك من يسمي الديمقراطية بهذا المعنى التشاركي، بالديمقراطية “المستمرة” أو “المباشرة” تمييزا لها عن الديمقراطية التمثيلية التي هي ديمقراطية غير مباشرة، تمارس عبر واسطة المنتخبين الذين قد يتخلون عن دور الاقتراب من نبض المواطن، فيعيدون إنتاج مركزية الإدارة أو الدولة. والواقع أن المؤسسة الحزبية ببلادنا، مطالبة بإعادة هيكلة ذاتها و أدوارها و برامجها وأنشطتها، بل وبنياتها التحتية(المقرات والتجهيزات وكل الوسائل المادية المتاحة لديها) من أجل الاضطلاع بدورها الطبيعي في تأطير وتأهيل المواطنين باعتبارهم شركاء حقيقيين في بناء المشاريع السياسية وفي تنفيذها وتقييمها، والإقلاع بالتالي عن تلك العادات القبيحة، التي تحولها إلى دكاكين تفتح في موسم الانتخابات، ثم تغلق بمجرد ما تظهر النتائج !! وهذا يقتضي من الأحزاب السياسية الاشتغال على آليات التواصل التشاركي، والارتقاء بثقافة الإنصات، التفاعل، التشارك واقتسام المسؤولية والمعرفة مع المواطنين، مع الانفتاح على اختلاف المجتمع وتنوعه.
الديمقراطية التشاركية اليوم لم تعد تلك اليوطوبيا التي داعبت أحلام الفلاسفة والسياسيين منذ قرون عديدة، بل صارت واقعا فعليا، يتجسد في العديد من التجارب المجتمعية ، لعل أهمها تلك التجارب التي شهدتها بلدان أمريكا اللاتينية، في خضم دينامية المنتديات الاجتماعية، وبشكل خاص تجربة مدينة بورتو ألغري، والتجربة الفينزويلية التي بلغت حد “دسترة ” الديمقراطية التشاركية، وحيث تقوم المجالس الجماعية على مشاركة الأسر في تدبير السياسة العمومية التي تهمها(صياغة، تنفيذ ومراقبة وتتبع).وفي أوربا تظل بعض الدول الاسكندنافية رائدة في التأسيس لتجربة الديمقراطية التشاركية، علاوة سويسرا التي تتوفر على ، صندوق لدعم مشاركة السكان في لجن مجالس أحياء، وفي الجمعيات …
لكن مع ذلك فالديمقراطية التشاركية لها سلبياتها أيضا، فهي تخلق ما لا نهاية له من أقطاب القرار، مما يحول أحيانا دون القدرة على اتخاذ القرار.و بتعبير ريمون بودون: يمكن أن ينحرف تدبير الاختلاف بين هذه الأقطاب، إلى صراع متواصل حول السلطة.بل الأكثر من ذلك، فمن الصعب معرفة ما إذا كانت آراء الأشخاص المشاركين في صنع القرار، تتأسس على اعتبارات موضوعية أو أنها تعبير فقط عن مصالح شخصية أو فئوية. هذا إضافة إلى أن الانخراط المتزايد والمكثف للجمعيات في مسلسل الديمقراطية التشاركية، يؤدي إلى تحجيم دور الفاعلين التقليديين (المنتخبين وممثلي الإدارة)، بل ويخفي أحيانا التأثير غير المباشر للمنظمات الدولية ، إذا أخذنا بعين الاعتبار التمويل الكبير الذي تتلقاه الجمعيات من هذه المنظمات، والنتيجة هي استهداف السيادة الوطنية وتقليص سلطة الدولة والمؤسسات المنتخبة.وهناك في الأخير خطر تحول الديمقراطية التشاركية إلى نوع من الشعبوية السياسية: فهناك من يعتبر أن الرجوع إلى الشعب بدون الوساطات التي تمنحها الديمقراطية التمثيلية (الانتخابات والتصويت والمؤسسات المنتخبة)، ينطوي على صعوبات وتعقيدات ومخاطر.
رضوان لحميدي مندوب المركز الوطني للتنمية و الوحدة الترابية _ باقليم زاكورة