هل فاز البابا، بشخصية 2013 ؟
[box type=”shadow” align=”alignright” width=”95%” ]
بقلم: سعيـد بوخليـط
[/box]
لم تمر وقتها تسعة أشهر، على انتخاب باراك أوباما، حتى أعلن معهد النرويج عن فوزه بجائزة نوبل للسلام.البعض، اعتبر الأمر،مجرد سخرية للتاريخ.غير أن البعض الآخر،رأى في سرعة التتويج،سعيا ضمنيا بهدف نسيان وطي صفحة السياسة الخرقاء لجورج بوش.
على نفس المنوال،انتخب الراهب الأرجنتيني “خورخي ماريو برغوليو”الذي اختار لقب فرانسيس- نسبة إلى فرانسيس الأسيري،أحد معلمي الكنيسة المدافع عن الفقراء والبساطة والسلام- يوم 13مارس2013 ،كحبر أعظم للكنيسة الكاثوليكية.بدوره ،لم تنقض غير تسعة أشهر،حتى ارتقت مجلة “تايم” الأمريكية،إلى مرتبة أهم شخصية دولية للسنة التي ودعناها،فأضيف اسمه إلى قائمة رموز دينية أخرى كبيرة،سبق لها أن حظيت بالتقدير ذاته مثل: مارتن لوثر كينغ،والخميني ويوحنا بولس الثاني.
هذا البابا الجديد،غير الأوروبي المنحدر من أمريكا اللاتينية،المعول عليه كي يصلح تركة سلفه بندكتس السادس عشر،فيعيد الثقة بين المسلمين واليهود ويحرك من خلال ذلك،عجلة الحوار بين الديانات الثلاث.أقول،بأن السند الموضوعي،لاختياره تمثل في كون اسمه، الأكثر ورودا على شبكة الانترنيت،بحيث بلغ عدد المتابعين له على التويتر، مايناهز عشرة ملايين فرد،فتجاوزت شهرته سنة2013،مثلا شهرة “إدوارد سنودن”عميل المخابرات الأمريكية الذي فضح إلى العالم،عمليات تصنت جهاز “السي أي أيه” على مكالمات مجموعة من القادة،أو وزير الدفاع المصري الفريق “عبد الفتاح السيسي”،بل حتى اسم اللاجئ السوري، الذي تتداول مختلف فضائيات الكون،وضعه البدائي وهو يتناول القاذورات لسد رمقه.
ابن مهاجر إيطالي،عمل موظفا بسيطا في قطاع السكك الحديدية،صار أول رجل دين لاينتمي إلى القارة الأوروبية،يشغل كرسي البابا منذ 1200سنة،بعد اسم ثان هو غريغوري الثالث المنحدر من سوريا الذي تولى هذا المنصب بين سنوات 731 و 741 .لقد تجاوزت مفاجأة فوزه،استقالة سلفه بندكتس السادس عشر،التي لازالت حقيقتها غائبة حتى الآن: استقالة حقا أم إقالة؟.
البابا الألماني، الذي اتسم مقارنة مع الحالي،بشخصيته الانعزالية منكبا فقط على قضايا مجردة دينية وفلسفية،وإبقائه على أفق الكنيسة،في ظل نفس نقاش القضايا الكلاسيكية، بالمواقف ذاتها،مثل الشذوذ الجنسي والإجهاض وزواج المثليين،بيد أنه سيشتهر أكثر،بخرجاته الإعلامية غير المحسوبة،لاسيما نحو الإسلام ونبيه محمد،مما تسبب في تأليب الرأي العام الإسلامي ضد الكنيسة الكاثوليكية،التي سبق لها أن حققت مستوى متقدما من الاحترام والتوقير،خلال حقبة البابا البولندي يوحنا بولس الثاني،بفضل حكمته ونضجه وتسامحه.كما أنه،مع عهد بندكتس،غدت صورة الكنيسة مرادفة للفساد الأخلاقي خاصة،وفي طليعته الإعتداء الجنسي على الأطفال.
لذا يقال،بأن دور البابا الجديد البالغ من العمر 76سنة،يكمن في إشرافه على عمليتي بيريسترويكا وغلاسنوست،شبيهتين بما فعله غورباتشوف فترة الثمانينات في الإتحاد السوفياتي،فتموضع في قلب النقاش المعاصر،يساجل الأسئلة والمستجدات المطروحة.كنيسة،تمتلك رسالة حضارية حقيقية،تنظر أبعد من حدودها إلى العالم بأسره،فتتلمس أكثر فأكثر جوهر فكر المسيح،أو ماعبر عنه البابا يوحنا بين طيات رسالته الموجهة إلى الكنيسة،بمناسبة الألفية الثالثة :((غوصوا إلى العمق)).
يرفض البابا فرانسيس،إدانة التطورات الاجتماعية،كما فعل السابقون عنه،مما يحدث حوله أحيانا جلبة ،نتيجة انتقاد الأوساط المحافظة.يخوض في مناقشة القضايا الآنية كالفقر والثراء والنزاهة والعدالة والشفافية ودور المرأة وتشجيع الحوار والتواصل بين الثقافات،بحيث بدا مختلفا،وأكثر استيعابا لسياقات العولمة،ثم انتباهه إلى الدور الحساس الذي تلعبه وسائل التواصل الحديثة.توظيف،يصبح فاعلا وناجعا زيادة،إذا علمنا أن هذا البابا،المرشح لتحيين خطاب الكنيسة،يتقن مايقارب سبع لغات،هي :اللاتينية،الإسبانية،الإيطالية،الفرنسية،الألمانية،الإنجليزية والأوكرانية،مما يمنحه إمكانيات تواصلية هائلة للإقناع والتعبئة والاستقطاب.
منذ الوهلة الأول،ابتغى تكسير الإطار النمطي المحيط دوما برمزية طقوس البابا،فعلى غير المعتاد امتطى يوم تنصيبه عربة مكشوفة،ثم طلب من الجموع المحتشدة لرؤيته بأن تصلي له،بدل قيامه هو بمباركتها كما التقليد المتوارث،خلال لحظة ترجل كي يحتضن أحد المعاقين.في موقع آخر،ظهر وهو يغسل قدم صبية سجينة،فكان الوحيد كما تذيع المزحة،الذي جعل الناس في روما يتداولون كلاما، غير فضائح برلسكوني.
يريد البابا فرانسيس،الانتقال بالمؤسسة الكنسية، من التركيز على العقيدة إلى تقديم الخدمة والمعونة،هي رسالتها المبدئية كي تكون للجميع،فلا أحد، مهما تنوعت مرجعيته الدينية،سينازع في نبل تحقيق المشاريع الخدماتية للمرضى والضعفاء والمتسولين والمسجونين والمجانين،في إطار برنامج يصبو نحو تجسيد العدالة الإلهية على الأرض.هكذا،وانسجاما مع رؤيته هاته،التي تتوخى تجاوز العقائدية الجامدة،وبالرغم من موقفه الرافض رفضا صارما للشذوذ وزواج المثليين،فقد صرح ذات مرة،مجيبا على سؤال بهذا الخصوص: ”من أنا لأحكم عليهم؟”،مما أثار حوله سيلا من انتقادات فريق المحافظين الكاثوليك.
نزوعه الحداثي،الذي يصطدم لامحالة بتقليد كنسي تليد ،تريد منه الجهة المناصرة،أن يحدث تغيرات تهم زواج الكهنة وسياسة نسائية واضحة ثم تخفيف القيود المتعلقة بالإجهاض وشرعنة الموت الرحيم.هي إشكالات ملحة،تقض مضجع،أ كثر من مليار كاثوليكي مؤمن،تفرض على الحبر الأعظم الذي درس الكيمياء والعلوم الإنسانية والفلسفة ثم دكتوراه في اللاهوت،القارئ النهم لنصوص بورخيس ودوستويفسكي،وصاحب العديد من الدراسات أهمها: تأملات للرهبان(1982) ،تأملات حول الحياة الرسولية(1986) ، تأملات الرجاء(1992).أقول،تقتضي منه جوابا يعيد باستمرار الإشكال القديم-الجديد،المتعلق بالعلاقة بين الدين والعلم،ثم درجات تداخل الديني والدنيوي.
تواضعه، وداعته،نمط عيشه المتجرد من أي تباه، فليس لديه سيارة بحيث يتنقل بواسطة وسائل النقل العام،رفضه لمظاهر الترف ولعولمة اللامبالاة المتمددة على إمبريالية المال،اختلاطه بالمهمشين،زيارته إلى جزيرة لامبيدوزا تعبيرا عن تضامنه مع اللاجئين الأفارقة،إعلانه يوما كونيا للصلاة من أجل تحقيق السلام في سوريا،دعوته الدائمة إلى تجسيد قيم العدالة،إلخ.
خصال،من بين ثانية، دفعت البعض نحو التشكيك في هويته الظاهرة،وتأكيدهم في المقابل،أنه ماركسي العقيدة يتخفى وراء جبة دينية،مجسدا بهذا أحد رموزتيارلاهوت التحرير،المعرف بانتشاره الواسع في أمريكا اللاتينية،الموطن الأصلي للبابا فرانسيس.
أكان ذلك أم لم يكن ! المهم أن الرجل يحاول إيجاد موقع بديل لكنيسة مترهلة،وسط عالم سريع جدا يتغير في الساعة الواحدة، أكثر من مرة.
.