شارون إسرائيل و”شارونات ” العرب
دافيد بن غوريون، غولدا مائير، موشي ديان، مناحم بيغن، إسحاق شامير،إسحاق رابين، شيمون بيريز ثم أرييل شارون.هم،أساطين المافيا العتيدة،والجيل العقائدي الأول للحركة الصهيونية،الذين استماتوا بكل الوسائل من أجل إقامة وطن لشعب اليهود :حربا وسلما،قوة وحيلة،جبرا و اختيارا…،وهم فقراء من كل شيء،غير مرجعيتهم العتيدة،وإرادتهم الفولاذية،وذكائهم الاستراتجي البعيد المدى،في قلب محيط عربي،غني بكل شيء،لكنه لايملك مرجعية وإرادة أو استراتجيه.
بالإعلان عن وفاة شارون رسميا،المسجى سريريا منذ إصابته بسكتة دماغية سنة 2006،لم يبق من ذلك الجيل الرهيب الذي هزم العرب شر هزيمة خلال كل الحروب الرسمية وغير الرسمية،المشهورة والسرية،التقليدية والمخابراتية،غير الرئيس الحالي للدولة، شيمون بيريز.
شارون المجرم،الدموي، الوحش، القاتل، الخنزير…،أسرد ما بدا لك، مستلهما كل معجم العفونة المصاغ بمختلف اللغات.لكن، حين تستحضر للحظة تجرد العقل،وتنتقل إلى الموقع الآخر،حيث معرفة العدو بكيفية واقعية وموضوعية،يمثل أنجع الوسائل للالتفاف عليه،فحتما ستدرك أن شارون يمثل رمزا تاريخيا للدولة العبرية،كرس حياته منذ سن الرابعة عشر لما انضم إلى صفوف عصابات الهاغانا، في سبيل إقامة هياكل مشروع هذه الدولة السرطانية، دؤوبا على العمل ليلا ونهارا،صيفا وشتاء، لم تزحه عن هدفه سوى الوعكة الصحية، التي شكلت آخر وعد له، مع مباشرة ملفات تل أبيب العسكرية والاقتصادية.
صحيح،أن أسطورة شارون تعود في نصيب كبير من نحتها،إلى وفاة النظام الرسمي العربي،فلو كان الأخير ينعم بقليل من الحياة،لتمكن منذ زمن طويل،من جر شارون كثور مثخن بجروحه، مخضب بالدماء، نحو أقرب محكمة عربية،وأقام له مشنقة وسط ساحة عمومية،عقابا له عما فعله بالفلسطينيين ومن خلالهم تحنيط المصير العربي.
غير، أن أصحاب مؤتمرات أسواق عكاظ،الذين رددوا باستمرار أمام كاميرات تلفزيونات شعوبهم،ذات العبارات الممجوجة،فأغدقوا على شارون وفعله أشنع الصفات،هم أنفسهم من توددوا إليه خفية، يطلبون سكينته ورضاه عليهم،ويدعونه إلى زيارتهم في منتجعاتهم الخاصة،احتفالا ورقصا.لكن،شارون بتكوينه “البلدزوري” “الصادق”، المنحدر من أب بولوني وأم روسية وما يجسده ذلك من جينات الصلابة،على النقيض مثلا من برغماتية بيريز أو بيغن، لكن في حدود احترامهما للثوابت الكبرى للأطروحات الصهيونية،كان يرفض سلوكا كهذا،مؤمنا كعسكري خبر الحروب بشكل فعلي،أن قسمه بخصوص الدولة العبرية وتعاقده مع الناخبين الاسرائليين،يحول بينه وبين الدخول في لعبة حربائية وزئبقية،مرددا مقولته الشهيرة :((لايمكن لأحد أن يلقي علي محاضرة بشأن الحاجة للسلام،أنا الشخص الذي خاض كل المعارك،لذلك فأنا الشخص الذي بإمكانه أن يمنع اندلاع الحرب)) ،لذلك ما ثبت أن التقى مسؤولا عربيا،أو حتى مجرد التلميح إلى إشارة من هذا القبيل.
بالتالي،فشارون على منوال الأبطال القوميين،يجمع بشجاعة نادرة بين النظر والعمل،ما يؤمن به عين ما يجسده على أرض الواقع. في المقابل،كم حاكم عربي؟سربت عنه الأرشيفات السرية،أنه غدر بالفلسطينيين خاصة وبأبناء جلدته عموما،مسرعا بالأسرار نيئة وطازجة،إلى قادة الموساد.
من يستعيد مشاهد شارون،وهو يقود جيشه على الجبهة المصرية خلال حرب1973،يشعر حقيقة أن هذا الجنرال قائد عسكري بكل ما تطويه الكلمة من معنى،استحق الريادة عن جدارة،ليس كالجنرالات العرب،الذين تتدلى فوق صدورهم روزنامة ثقيلة من النياشين،دون أن يعرفوا وطيس معركة واحدة،ربما أثناء مشاهدتهم للأفلام الأمريكية عن الفيتنام،وفي أفضل الأحوال،مطاردة الشعوب المقهورة في زوايا الشوارع.
خاض شارون،كل الحروب ضدنا نحن العرب،وهزمنا على جميع المستويات،لنقارن حاليا،كم هي متخلفة المنظومة العربية،قياسا للدولة العبرية !لم يكن يخاطب ،الاسرائليين في كل مناسبة،بيد أنه يصنع الحدث حين المناسبة وغيرها،ثم بالكيفية التي يريد.بينما نموذج ثان كالقذافي،الذي أراد أن يصير ملك الملوك،يتوسد كنزا من المال،يستيقظ الليبيون وينامون على خطبه البيزنطية،بخصوص جبهة التحدي والصمود،التي ستواصل مخطط عبد الناصر بإلقاء إسرائيل إلى ما وراء البحر. إنه مثال للزعيم العربي،الذي لايشق له غبار،فكان يرتدي بين خطبة وخطبة،بذلة عسكرية غير سابقتها مضيفا إليها وساما جديدا.بعد أربعين سنة،اكتشفنا ومعنا باقي العالم،أن غرف باب العزيزية،لم تكن ممتلئة بوثائق لهزم إسرائيل بل وقبلها بناء ليبيا عصرية،لكن فقط أدراج تزخر بأقراص الهلوسة والفياغرا المهيجة جنسيا،بمعنى أن صاحبنا كان جنرالا جنسيا.
عندما يموت الحاكم العربي، أويزاح، كما حصل مع بدايات الربيع العربي،يخلف بلا خلاف وراءه بلدا منتهيا، تلتهمه الأزمات من كل جانب،يبتلعه الفساد والتخلف والتشرذم المذهبي والطائفي،ثم شتى أنواع الوصوليات والأصوليات،مادام قد قضى مدة حكمه في تدبر مختلف مؤسسات التنكيل بشعبه،وجرف ثروات البلد مسرعا بها نحو البنوك الأوروبية والأمريكية.
شارون،قضى نحبه،وليس في ذمته ملفا واحدا من ملفات الاختلاس.يده نظيفة،اللهم من لعنة دم الفلسطينيين ،لم يسرق أو ينهب أو يلقي بمعارضي الرأي من أبناء وطنه،في غياهب معتقلات رهيبة لانجد لها مثيلا إلا فوق الأرض العربية،حيث الجميع يعيش تحت الحراسة النظرية.
ظل إعلامنا العربي،يلصق بشارون صورة السفاح الهمجي المنفذ العملي للجرائم التالية:مجزرة بلدة قبية(1953)،قتل وتعذيب الأسرى المصريين(1967)،اجتياح بيروت(1982)،مجزرة صبرا وشاتيلا(1982)،مذبحة جنين(2002)،عملية السور الواقي.لكن،بالمنظور ذاته،كم قتل حافظ الأسد من السوريين؟كم،سيبدو شارون تلميذا متدربا، حيال دموية بشار وزبانيته ؟كم، قتل جنرالات الجزائر من الجزائريين،باسم الدفاع عن “الحداثة”،خلال العشرية الدموية؟كم،قتل “المتدينون الجزائريون”من غير “المتدينين” باسم دولة الله والرسول؟كم،قتل الفلسطينيون العملاء من الفلسطينيين الشرفاء،خدمة لأجندة مخابرة عربية؟كم،سحق اللبنانيون بعضهم بعضا سدى باسم الوزيعة الطائفية،قبل اجتياح شارون لجنوبهم؟… .
أخيرا،رغم كل ماسبق، أردد من باب التسلية،مع المغني المصري شعبان بأني أكره شارون ومعه إسرائيل،دون أن أكون مضطرا كي أحب عمرو موسى ونماذجه في العالم العربي،لأني لا أحب غير الحقيقة، كما هي.