هل يكفي مصر،تأثيثها بدستور؟
بعد انقلاب الجيش المصري، شهر يونيو الماضي، كتبت مباشرة مقالة في الإطار،تحت عنوان :الدولة المدنية أم الدنيا.أوضحت من خلالها،أن إعلام سلطة مبارك،الذي كان يرمم ما يمكن ترميمه،جراء الانهيارات المتتالية،بتخدير حواس شعب يائس على جميع المستويات، تتشظى كينونته سدى مع كل نزوة للديكتاتور،عبر مداعبة إحباط المصريين،بمنجز ملحمي من الشعارات الفارغة،شكلا وتشكلا،في مقدمتها: مصر أو غيرها،كأم للدنيا أو أب للعالم،بالتالي فشعارات عمياء من هذا القبيل،لايمكنها أن تبلور واقعيا،غير أنواع الشوفينية التوتاليتارية.
هكذا،فالانتفاضة التي أشعلها شباب من مواليد الثمانينات والتسعينات،واستطاعت إزاحة مبارك، استثمرها شيوخ الإخوان،الذين أرادوا بالعقيدة والسياط ،إقامة المنظومة الكليانية الشمولية،التي تتوخى مصالح سياسية ضيقة، باسم سلطة الدين مما أسرع برحيلهم،ثم انتقل المصريون إلى الأسوأ الثاني،أي الجبرية المطلقة في مظهرها العسكري،غير المنزاحة عن الأولى قيد أنملة،إلا بنوعية المرجعية التي تتجلى هنا في الامتثال إلى القانون العسكري،القائم على الأمر والتنفيذ بغير أدنى هامش للتأويل،بينما الحلقة المفقودة باستمرار،ليس فقط لسياق مابعد مبارك،بل كل مسارات الربيع العربي،تتمثل بكل بساطة في دولة مدنية ديمقراطية،تحكمها المؤسسات الوضعية الحديثة،وليس أمزجة وأهواء الحاكم.
إذن،لا أظن بأن الحل السحري لمصر الحالية،يكمن في إخراج دستور،أقره شعب تاه وسط خضم نخبة لاتعرف من التاريخ إلا صراع كراسي،بالرقم الفلكي المتفرد بجنسيته العربية (99% ) ،حتى لوكان بأعظم دستور في الكون،تضمن بنوده للمواطن رفاهية حياة، ليس فقط فوق الأرض، لكن أيضا في كوكب مارس.
عندما،نتصفح حاليا مدونات التشريعات القانونية العربية،وفي طليعتها النصوص الدستورية،سنصادف كل ما يحلو لنا،وكأني أستحضرالأجواء التي تخيم على عمل الشخصيات،المعينة من طرف الأنظمة ،بهدف كتابة تلك الدساتير،وقد وضعت على طاولة اشتغالها،أجندة لاحتياجات البشر الطبيعية والثقافية،من ولادته حتى وفاته،فتستجيب بتضخيم نص لغوي لا أقل ولا أكثر،إلى مختلف ما تشرئب نحوه الأعناق وترنو له الأنفس وتطرب له الأسماع،بينما حقيقة الواقع السياسي من خلال يوميات احتكاك المواطن بمرافق دولته،فلا علاقة له قطعا مع ما تتغنى به بنود هذه الدساتير العربية،التي تظل مجرد وثائق متحفية صماء، بكماء، تماثل في سذاجة دعاويها، سذاجة أناشيدنا ونحن صغار: “عندي بابا وعندي ماما، معايا حتى في النوم، أرسم بابا، أرسم ماما”.
هكذا،اطلب ما بدا لك ! ستتلمسه لا محالة حلميا بفذلكة لغوية لا غير،في الدستور. إنه، الناطق الرسمي، الذي انتبه إليه ذكاء البطش العربي،كي يشهد من جهة العالم الخارجي،على أنه لايمارس ما يحلم به ليلا،بل تسنده شريعة القانون.ثم،من جهة ثانية،كي يجد فيه المواطن تعويضا سيكولوجيا،يخفف عنه وطأة القمع الممنهج،والبؤس والحرمان،حيث الحق والاستجابة والرغبة والمتعة وحسن المآل والكرامة والغريزة والضمير والتوازن النفسي والعقلي والإشباع المادي والعقلي والإرضاء الحسي والمعنوي:حينما،تسقط أركان بيت متآكل على أصحابه،فيرديهم أشلاء،لأن هناك اختلالات اجتماعية صارخة،بين من يسكن حقا ومن يتوهم ذلك،يسرع المسؤول العربي لإخبارنا بجرة بساطة، أن الدستور يضمن حق السكن !!،ويشدد على الحقيقة الساطعة،وكأنه أتى باختراع علمي جديد.لما،يطالب المواطن بحقه في نصيب من الدخل القومي،سيجيبونه بأن الدستور،أكد على حق التشغيل والتطبيب والتنقل والسفر و..و..و،لكن كما يقول المثل الشعبي المصري :”موت ياحمار”،أو”في المشمش” .فماذا يقع عمليا بغير حجاب، بل مكر اللغة؟
بناء عليه، يندرج أفق الدستور المصري الحالي،ضمن نفس القبيلة. ثم،لنبدأ أساسا ونطرح السؤال الجوهري قبل لحظة الدستور،وأي حديث عن تدبير الشأن العام؟ماذا يفعل الجيش هناك؟ما موقعه من الإعراب؟أي علاقة مفترضة أو ممكنة بين العسكر والقيم الدستورية؟ قبل أي نوع من التفاصيل،ينبغي عليه تجهيز ناقلاته والعودة سريعا،صوب ثكناته كي يتفرغ إلى تطوير قدراته الحربية والتسلحية،لمجابهة التحديات الأمنية المحدقة بالبلد،حتى لايستطيب رغد موائد القصر الجمهوري.
وزير الدفاع الحالي،الذي ارتقى استخباراتيا إلى مرتبة جنرال، تحت أنظار مبارك طبعا،وتحريات أجهزة المراقبة،يفتقد لأي شرعية من أي ناحية أراد: تاريخية، ثورية، حربية، دستورية،مدنية، إلخ.دون استحضار،عتاقة موضة العسكر،التي ولى زمانها مع سنوات الخمسينات والستينات.أما،منطق العصر الحالي،فلا يؤمن على جميع المستويات، إلا بالمؤسسة الديمقراطية قلبا وقالبا.
إن سلمنا مع المبشرين من أنصاره،بعدم جدية هكذا سفسطة، مادامت مصر في حاجة ماسة إلى رئيس قوي،والجنرال وحده جدير بالمقام.إذا كان الواقع بهاته الحتمية،فما هي المبادرات العملية بل ومجرد الإشارات التي أفصح عنها السيسي في مصر،حتى تصبح دلالة خطوة الدستور مفهومة إجرائيا،منسجمة مع التجربة، ثم نتبين حقا طبيعة التوجه.لنستحضر، على سبيل التمثيل،ماعرف بمحاكم الثورة، كما كانت تبلور في دول العالم الثالث، حين ظفرالجيش بالسلطة:هل، صدر حكم شجاع في حق مبارك؟ هل،حوكمت الأجهزة الأمنية؟هل،صدرت قرارات لاسترداد أموال المصريين،المختلسة داخليا و خارجيا؟هل،تم الشروع في مباشرة أوراش كبرى تعيد للمصريين شيئا من كرامتهم،بدل المشاريع الخطابية التي لاتسمن ولا تغني؟هل،فكك نسيج المافيات التي ازدهرت أيما ازدهار،حقبة مبارك؟ماهي، ملامح التوجه الخارجي للسياسة المصرية؟إلخ.
القائد الذي يمتلك زمام القيام بانقلاب،هو الذي بوسعه أيضا،الإسراع غداة اليوم الموالي،كي ينجز أشياء ذات مردودية سريعة،حتى يتلمس الشعب أفق التوجه،هل الجيش مع الشعب أم مع نفسه فقط؟أم مع إملاءات قوى إقليمية،كما اتضح جليا من خلال العلاقة بين السيسي والنظام السعودي،هذا الأخير الذي لم نعد نفقه بخصوصه مرتكزا واحدا،هل هو “متدين” كما دأبت أجهزته الرسمية على إخبار الجميع،حيث خرجت من جبته كل الحركات الدينية التي كلست الفكر العربي، أم “علماني”،أم ماذا؟ .
في غياب تحققات من هذا النوع،ستكون كلمة دستور بمحاذاة عسكر،كأنك تحاول مماهاة الماء بالنار،لأنهما بكل بساطة،ضدان لا يجتمعان.الدستور،تطور حقوقي جد متقدم،يقتضي حقلا سياسيا بمواصفات مضبوطة لانقاش فيها،قبل أن يكون لجان وصفحات وغلاف وديباجة وفصول،يعني دولة تعرف انتخابات دورية موضوعية ونزيهة،وأحزاب شعبية مهيكلة ومعبرة،وقضاء محترم ونزيه،ثم مواطن مكتمل الوجود ينتمي إلى قلب المعادلة.
لاأحد منا،ونحن نحتفي بالذكرى الثالثة للإطاحة برأس نظام مبارك،قد يرضى لخاطره مجرد،حدس عابر،لسيناريو انتقال كابوس العراق وسوريا إلى مصر،أو بربرية مجابهة التسعينات بين إسلاميي الجزائر والنظام،عندما كان الابن يقتل أباه دون أن يعلم لماذا؟غير أنه للأسف الشديد،كل التطورات التي تأتينا من مصر،تحتشد نحو الوجهة المرفوضة.
فهل، يكفي اختلاق دستور،والاحتفاء به؟.