محمد السلامي: التغريب داخل الوطن

0 613

نعلم ما يتركه العنوان من دلالات رمزية لدى القارئ، إذ يشكل العتبة الأولى التي من خلالها نلج عوالم التأويل و الإيحاء المتخذة من “التغريب” منطلقا أوليا في نية السيرورة التدليلية بالمفهوم السيميائي للكلمة، وهذا معناه أن العنوان لا يكون بمحض الصدفة ولا يمكنه أن يكون كذلك، و إنما أودعناه قيما للدلالة و التأويل بما له من علاقات رمزية بما سيأتي، ذلك أنه المفتاح الذي به و من خلاله ندخل عوالم الحكي، ففيه يوجد الظاهر و المضمر في علاقة الفرد بالمجتمع بتاريخه و أعرافه و تقاليده وسياسته …
هكذا قد نفهم، انطلاقا من العنوان، أنه مركب في المبنى و المعنى من ثلاث كلمات سنحاول تلمس الخيوط الرابطة بينها، غايتنا في ذلك البوح بما تتيحه ذاكرة مغرًب في وطنه، وبما يسمح به مصطلح “التغريب” بشكل خاص من إمكانات تدليلية، لكن و المرة هاته سنكون مضطرين إلى إعمال نوع من الانزياح الذي يفرضه واقع الحال و تسمح به اللغة، حيث إن ” التًغريب” ظل محط نقاش على مر السنين باعتباره دالا على النفي و الإبعاد من الوطن الأم إلى مكان آخر غيره لغاية التأديب أو العقاب أو ما إلى ذلك. فمعاجم اللغة وغيرها من الآراء التي اتخذت منها مرجعا تكاد تجزم بذالك في تعريف مصطلح التًغريب فابن منظور يقول “التًغريب النفي عن البلد … يقال: أغربته إذا نحيته و أبعدته… و غرًب و غرًب عليه: تركه بعدا…”(ابن منظور، لسان العرب،638\639\1).
والتَغريب في اللغة مصدر قياسي للفعل الثلاثي المزيد (غرًب) فالتًغريب إذن ظل محط نقاش بهذا المعنى أي النفي و الإبعاد القسري عن الوطن بما يتبع ذلك من تشعبات دلالية مواكبة لفعل التغريب لاسيما داخل البلد المرحل إليه من إكراهات ثقافية وسياسية واجتماعية… مما قد يفضي إلى الانفلات من الواقع الأصل للشخص المغرًب إلى محاكاة الواقع الذي فرض عليه قسرا، فيضطر آنئذ هذا الشخص إلى الثورة على معظم المفاهيم الأصلية ليرتمي في أحضان البلد الجديد بإيديولوجياته و أفكاره وأقوامه وعاداته وتقاليده، إنه التًغريب الذي يلغي الذات الإنسانية و يسلبها أصلها وجوهرها، ويجعلها مغربة ومستغربة داخل الغربة، كما يجعلها مؤمنة كرها بما تعايشه فقط لأن وطنه أجبره على ذلك و أبعده عن الأهل و الأرض، كيف لا و هو المستلب ثقافيا و اجتماعيا و عقائديا في أغلب الأحوال؟
ولمَا كان “التًغريب” يعكس في مجمل النقاشات الإكراه و التنحية و الإقصاء من الوطن الأم، فقد يتطور الأمر إلى إقصاء الفكر الإنساني و ترحيله إلى ثقافة أخرى هو دخيل عنها ليجد نفسه مضطرا إلى إلغاء فكره و ثقافته ووطنه ومجتمعه في مكان آخر لم يكن يوما يأبه حتى بوجوده كذات حرة كريمة، فلا هو يمجد أصوله و ثقافته ويحكي عنها، و لا هو سائر مع تنامي الأحداث التي في مكانه الجديد، لأنه يظل منبهر أمامها حاضر في الزمن إلى أن يقبل بالواقع الجديد الذي أرغم عليه من حيث لا يدري، عندئذ يمكنه أن يعيش الحاضر حتى في مشاهدة الأحداث السريعة وليس بالضرورة المشاركة فيها إلا حين ينزاح تفكيره عن المعارف السابقة، و يؤمن بالواقع الجديد رغم جبروت الإكراه.
وإذا كان الأمر كذلك في الترحيل و التًغريب من وطن أصلي إلى مكان آخر فكيف ينزاح المصطلح (التغريب) تداوليا؟ أو بعبارة أخرى ماذا عن التغريب داخل الوطن؟
سؤال نراه يستحق نقاشا جادا حتى لا نفقر من إنتاجية المصطلح، وحتى نعيد النظر في التعاريف و النقاشات التي تناولت الموضوع بالدرس و التحليل، مدافعين على كون اللغة حمالة أوجه، ذلك أن الإنسان قد يصبح مغرًبا داخل وطنه الأم، وهنا قد لا يكون الإجراء التغريبي مكتوبا أو ملفوظا مباشرة للمغرًب و إنما هو إجراء سلوكي أخطر من الإجراء الأول، و لابد من الإشارة إلى أن التًغريب قد ينزاح من المفاهيم و التصورات التي يراد بها الإكراه على التعايش مع مجتمع جديد في مقابل الوطن الأصل، بل قد يحدث ذالك عند الإحساس بالتغريب داخل الوطن الأم الذي يكفله دستور واحد و تؤطره قوانين تقوم على المساواة والعدالة الاجتماعية وضمان العيش الكريم، وهذا انزياح سلوكي خطير لا محالة، و لعل الشواهد و الأدلة على ذلك كثيرة و متنوعة سنحاول من خلال بعضها تلمس الخيوط الرابطة المؤسسة الأخطر تغريب قد يعيشه المواطن المغربي بالخصوص ،فإذا كان الدستور المغربي ينص صراحة على روح المواطنة بالمساواة والعدالة الاجتماعية فإنه لا يجوز إقرار ذلك في أمور و التغافل عنه في أمور أخرى كثيرة و متنوعة.
عزيزي القارئ، هب أنك من ساكنة المناطق النائية بالمغرب و بالرغم مما يتبع تلك المناطق من إكراهات جمة تحت إطار الفقر و التهميش، أليس لك الحق في أن تذهب إلى الكلية صباحا وتعود لتناول وجبة الغذاء مع عائلتك؟ مع ما يتبع هذه المسألة من مراقبة أهلك لمتطلباتك و مساعيك و ضمان لأمور كثيرة ماديا و نفسيا و صحيا، ففي غياب هذه المعطيات تجد نفسك مضطرا إلى السفر بعيدا حيث الكلية بإكراهاتها، آنئذ تصبح مغرًبا حتى في وطنك بعيدا عن أهلك و بيئتك مستلبا إلى طقوس أخرى تجد نفسك مرغما على تقبلها، و ثائرا على رصيدك الثقافي فقط لأنه لا يواكب المرحلة الجديدة التي تتطلب المسايرة و إبراز الذات لغاية العلم.
عزيزي القارئ: أليس من حقك أن تنعم بالعلاج في مستشفى مجهز كما المستشفيات إذا ما ألم بك أو بأحد سكان منطقتك مرض أو ما يستدعي العلاج و الوقوف عنده، لا تقلق فالدولة فكرت – وفق مبدأ العدالة الاجتماعية – ووفرت لكم مركزا صحيا بطاقم غير موجود و أدوات تشتكي الواقع بانعدامها،فكم من حامل توفيت لأنها اتخذت المركز وجهة لها، وكم من مريض في حالة حرجة لقي حتفه و هو في الطريق إلى أحد المستشفيات التي أرسله طبيب المركز إليه لأن حالته تتجاوز ما هو بداخل المركز المحلي وكم، وكم ..
عزيزي القارئ ستجد نفسك مغرًبا داخل المستشفيات الكبرى و البعيدة على منطقتك منذ أول وهلة تطل فيها على من يستقبل المرضى و كأنه يعاني أزمة نفسية حادة من خلال طرق تعامله مع الحالات التي يستقبلها المستشفى ناهيك عن الابتزازات المادية التي لا مبرر لها إلا كلمة الصندوق ..
ومما يزيد من حسرة التغريب داخل المغرب أن تكون حاصلا على شهادات عليا رغم ظرف الحصول عليها، حيث تمارس عليك كل أنواع الابتزاز والإكراه حتى حظيت بها، فكنت تحس دائما أنك مغرًب من طرف جل الأساتذة و كأنك آت من كوكب لا ينتمي إلى الأرض، و كذلك مع مكونات الكلية، فجلهم يشعرونك بالتغريب مع ما يتبع الكلمة من الأسى و الحسرة على واقع لم تكن لتتمناه، وبعد أن حصلت على شهادتك وبدأ التفكير في العمل الذي انتظرته و أهلك انتظارا ترك علاماته على أجساد والديك، بل هناك من لم ينعم برؤية ذلك التطور الزمني برفقة أهله، وكل زيارة كان يزورهم يلحظ أن العمر أخذ منهم ما أخذ دون أن يفرحوا بنتاج التربية في وطن تغرًب فيه أهله، وهناك من توفي أحد والديه أو أفراد عائلته متحسرا بعدم الرضى على الواقع المذكور، وا أسفاه لقد مات فلان و ابنه أو ابنته أدت واجباتها تجاه وطنها بمحنة و عناء ليجد نفسه(ها) مغرًبا (مغرًبة) في وطنه و لم ينعم بوظيفة ظل يرسم عليها أحلاما، واجهها أناس بأن طريقها المباراة التي تأتي بكل المفاجآت و مقترحوا المباراة يهللون بها بدعوى تكافؤ الفرص و المساواة وا عجبا !!
قد يعاني المتباري إهانة ليس بعدها إهانة في المباراة وذلك عندما يتنكر المكلفون بسياسة الدولة لكل المباريات التي أهلته للحصول على شهادة عليا بدعوى التحقق من الكفاءة و كأن المنظومة التعليمية تعطي الشواهد لمن هب و دب، و إن كان كذلك فالنظام التعلمي بأكمله و الوزراء لأنهم تخرجوا وفقه يجب أن يمتحنوا في إطار الكفاءة العلمية من طرف أناس خارج الوطن يحترمون معنى الامتحان و المباراة ولا ينتقصون من كفاءة الفقير ليرفعوا من كفاءة الغني، و عندما نتحدث عن المباراة بالمغرب نجدها غير متوازنة بحسب التخصصات وناذرة في الواقع إلا في المهرجانات السياسية على ألسنة الأقنعة السياسية فهي المرتكز و أصل التقرب إلى قلوب من لم يفهموا واقع المباراة، لا يمكننا التنكر لمقياس اللقب و النسب في مقابل أبناء الطبقة الكادحة التي تحس الرفض ضمن قائمة الناجحين إلا استثناءً فهذه الفئة من المجتمع رغم كفاءاتها في المباراة قد لا تتفاجأ بالرسوب المرتقب فحتى المصحح الذي يقوم بتقييم المستويات قد توارث لديه حس التصحيح باللقب، وليس المضمون، وقد يكون ذا مستوى أقل من مستوى أوراق الأجوبة إلى غير ذلك مما نعرفه في كوارث المباريات في المغرب التي لا تنتهي، إلى غير ذلك من أساليب التغريب المباراتي، فلا يجد المتباري المغرًب وسيلة إلا الاحتجاج بطرق سلمية تحترم كل القوانين التي لا تحترمه، على كل السياسات الفاشلة التي جعلت منه مغرًبا في وطنه عندئذ يواجه بأبشع و أفظع المقاربات القمعية التي تنهجها الدولة كسلوك تغريبي دون مراعاة لكرامة المواطن المثقف ولا لحقوق الإنسان التي يكفلها دستور البلاد، حيث تحضر المساواة بين الجنسين في القمع و السب و الشتم من طرف أناس لم يتقنوا في حياتهم إلا هذا السلوك.
عزيزي القارئ: إن ما تم بسطه بين يديك قد يسعف في إعطاء نظرة تقريبية عن المواطن المغرًب في وطنه، كما لا أدعي أنها أمثلة مثالية خالية من الاستثناءات، إلا أنه في نهاية المطاف قد توصل إلى ما لا يحمد عقباه لاسيما عند الإحساس بتفقيد الثقة وليس فقدانها في مؤسسات الدولة التي لا تحترم أصول العمل و استمرارية المرفق متنصلة من حقوق أبناء الشعب بدوافع سياسوية ضيقة و النموذج تجسده معطيات كثيرة يتقدمها محضر 20 يوليوز الذي وقعته الحكومة السابقة لفائدة الأطر العليا التي تم تعطيلها إلى يومنا هذا وما تبع هذا التعطيل من معطيات مأساوية تستحق إنتاجا سينيمائيا ضخما، قصد تجسيد معاناة أبناء و بنات وعائلات هذا الوطن العزيز وتقديمهم لمشاهد يحسن التفاعل مع كل المشاهد الحزينة التي ترسمها شخصيات محضر 20 يوليوز، المغرًبون في بلدهم، باعتباره أحد الحقوق المكتسبة بقوة القانون الذي لا يحترم في المغرب من طرف من حملهم الشعب أمانة التدبير و التسيير، هكذا يتضح بالملموس “التغريب” داخل وطن حمل أبناؤه رسالته و أدوها كما ينبغي دونما انتظار لما ستأتي به سخرية القدر.
إن كل نماذج التغريب السابقة قد تفوق عقلية و نفسية المواطن المغربي، وهذا ما لا نريده، بالإضافة إلى أمور أخرى من صلب المعيش اليومي من قبيل غلاء المعيشة و ارتفاع الأسعار و سياسة التفقير، مما يزيد المسألة تعقيدا ويشكل أزمة نفسية حادة، عندئذ يجد المواطن نفسه بتراكمات صنعتها السياسة المرتجلة فيه تفوق قدرته الاستيعابية، وهذا وشك الحصول، إذ إن التًغريب هيمن على فكر و نفسية المواطن بفقدانه الثقة في كل مؤسسات السياسة المغربية التي من المفروض أن تستفيد من كفاءات المغرب و تهيء جيلا صاعدا لبناء غد أفضل، لكن مع كامل الأسف فالسياسة في المغرب جعلت من المواطن صورة نموذجية لإنسان آلي يفتقد لشروط الاقتراح و التفعيل، خاضعا لقوى البرمجة التي تحركه و تسيره حسب أغراض السياسة الفاشلة الأحزاب المغرب الحبيب.
عزيزي القارئ: نعمم إنه الوطن الذي يفترض أن يعيش فيه الكل بكرامة و عدالة اجتماعية دونما هرمية واستبداد، إنه الوطن الذي يحيا بحياة كل المواطنين، و حياتنا تستوجب صرخة في وجه الظلم و التًغريب و في وجه الذين ينعمون برفاهية التدبير في سياسة البلد.
اسمح لي عزيزي القارئ أن أقول لك أني أحد المغرًبين و أنزع عنك صفة الافتراض الذي بدأت به مقالي حتى أكون أول الصارخين في وجه من حرموني حقوقي داخل وطني، وحتى أكون أول من صرح بتغريبه داخل وطنه، فكل المعاناة التي ذكرتها قليلة في حق شباب و شابات رفضوا كل البدائل السالبة للإحساس بالمواطنة داخل بلد ترعرعوا فيه، ليجدوا أنفسهم لا هم يعيشون إلى جانب أهاليهم و لا هم مغرًبون خارج وطنهم، و أنا واحد منهم أعاني ما يعانون أعاني اليتم و التغريب في نفسيتي، رغم أني لم و لا ولن أتخلى عن وطنيتي التي بها أحيا و عليها أموت لأنها كبرت معي و لأنها ملكي، و لن أسمح لأي كما كان لونه السياسي أن يغرٍبني ما دمت أحيا، فلأن الحياة قصيرة من حيث الزمن إلا أنها لا تنتهي بانتهاء الآجال فقد يكتب التاريخ يوما معاناة مغرًب في وطنه، كما لا ينسى صرخته و صرخة رفاقه و رفيقاته أمام سياسة التًغريب المقصودة في حق المواطن الذي صنع السياسة كما رفضها عندما خرجت عن أخلاق السياسة وانتهكت حقوق الناس وغرًبتهم في وطنهم و هذا ما يحصل في بلدي المغرب…

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.