معالم التأخر التاريخي في خطاب وممارسة الدبلوماسية المغربية أمس واليوم
هناك عدة قضايا تعود للواجهة في كل سنة في شكل مناسبات، لماذا لا تحضا بانخراط أو حماس مختلف الباحثين للخوض فيها رغم أنها تندرج في نطاق تخصص بعضهم ومجال اختيارهم المعرفي ،بكل بساطة لأن الطموح والرهان في أن يتجاوز طرحها مجرد بعث للروح من أجل الذكرى أو التذكير أو تكون نقطة ساخنة لهواة المزايدات التي تتغذى على ما هو إيديولوجي وبرغماتي صرف، وبالتالي الوقوف عند طبيعة النتاج المترتب عنها وخلفياتها الابستمولوجية أي القفز على التداعيات الظاهرية والنفسية للحدث والكشف عن أبعاده المنطقية ومعانيه الباطنية.
وكإشارة للتوضيح فهذا قد ينطبق مثلا على ما تتبعناه هذه السنة ككل بداية سنة على إيقاع ذكرى تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال ، وكما العادة وجدنا أنفسنا أمام مجموعة من المواقف المختلفة تبعا لاختلاف توجهات فرقها ، إذ جاء فريق ليقول بأن الاستقلال كان سياسيا فقط بينما عمل البعض على تحوير ذلك بقولهم أنه استقلال مترابط بالنظر إلى الالتزامات المبرمة بين الدولة الحامية والمحمية بعد انسحاب الأولى من مجال الثانية في شقها التقليدي في حين يحاول فريق أخر تسخير كل ما لديه لإضفاء المشروعية على أنه استقلال بغض النظر على شكله بدليل توفر المعايير التي تسمح بالحكم على مدى استقلالية دولة من عدمه ؟
وبالتالي فالحجة قائمة بتضافر شرطي الآلة الدبلوماسية “وزارة الخارجية ” والآلة العسكرية “الجيش النظامي”، وبين هذا وذاك نتموقع بمسؤولية يمليها موقعنا كمهتمين بتاريخ المغرب المعاصر والراهن محاولين الالتزام بأعلى قدر من الموضوعية وهي ضوابط ونواميس المنطق التاريخي. لكن هذا التموقع بما يفرض من ضرورة الالتزام بالحياد لا يمنع من تصريف موقفنا بصرف النظر عن ما قد يتضمنه من تماهي مع هذا أو ذاك .
ومن البديهي أن يقود التوافق على أرضية الحد الأقصى من التحليل الموضوعي إلى الاتفاق المبدئي بكون توفر الشرطين السالف ذكرهما يعتبر بمثابة محدد أساسي في استقلال كيان دولاتي ما ،لكن على أن يبقى كفرضية في انتظار أتبات صحتها واقعيا بعد تتبع مستجدات ومصب جريان كلاهما أو احدهما.
وبعودتنا إلى العنوان أعلاه في علاقة مع ما انتهينا إليه فهو يعكس هم يتقاسمه معظم المغاربة، ليبقى فقط الاختلاف في طرق وآليات التعبير عن هذا الهم، الذي يكتسي أهمية بالغة تستمد شرعيتها من حساسية موضوعه لارتباطه بإحدى أهم مقومات الدولة وأهم أدوات التواصل والتوغل الاقتصادي والسياسي بغية الدفاع عن مصالح البلاد وحدودها الوطنية والقومية والهوياتية. كما تبقى جميع هذه التعابير بمختلف أشكالها ومكانة أصحابها سواء الفردية أو الجماعية مجرد فرضيات تحت سلطة سؤال واحد يساءل مدى ارتقائها لمستوى الإجابة عنه حول إلى أي حد استطاع العقل المغربي إنتاج رد فعل أو فعل يوازي وينسجم و طموحاته.
لنتساءل، ألم تفلح نخبة معينة بيروقراطية حاكمة أو تقنوقراطية متجدرة في بنيات الدولة في اختصار واحتكار سلطة القول؟، مما ساهم في اختزال وتقزيم المواقف وتعطيل أو بالأحرى وضع سقف معين لكل الاجتهادات إن لم نقل إفراغ هذه التعابير من محتواها وجعلها دون جدوى ولا تغدو أن تكون إلا مجرد تغريد خارج السرب.
بالأمس كان المخزن يقوم في تدبير شؤونه الخارجية ومعاملاته الدبلوماسية بمنطق تقليدي منطلقا من موقف قوة وهو ما يجد تعبيره في ممارسات السلاطين إزاء بعثات الدول الأوربية التي كانت مؤطرة بثنائية دار الإسلام ودار الحرب وبمبررات شرعية مدعمة بأقوال فقهاء وعلماء البلاط .
ففي مراسيم استقبال السفراء يحرص المخزن على التقليل من قيمة سفير أي بلد أوربي وهي رسالة رمزية تحمل نصف الجواب قبل الاستماع إلى سؤال وحاجة السفير لدى الإيالة الشريفة بحيث كان يخرج وهو يمتطي حصانه ومحاط بهالة من القدسية …أو في أن يتم إخراج السفير من باب ضيق في حالة ما لم يرضي كلامه السلطان وفي هذا أيضا رسالة إلى عدم رضا السلطان عن دولة السفير .
وإذا كان هذا حال التعاطي مع السفراء الوافدين فإنه لا يختلف كثيرا عن السفراء الذين بعثوا في مهمات معينة اللهم في السياقات، فبغض النظر عن طبيعة الأشخاص ومستوى تكوينهم من حيث تمكنهم من أدبيات المهام الموكولة، فالمخزن عمل على إفراغ عملهم من محتواه المؤسساتي ليجعله محصورا في اطار السخرة المخزنية وكعمل مؤقت بطابع خاص وهدف واحد كما هو الشأن بالنسبة لرحلات القرن 17 م بدء برحلة أبي القاسم الحجوي والزياتي وابن عثمان المكناسي بعكس أوربا، بحيث كانت تتمتع بما يطابق مؤسسة دبلوماسية واضحة مبنية على قواعد تضمن لها الاستمرارية لا في هياكلها كما في برامجها وأجندتها وخرجاتها.
كان هذا يحدث في وقت كان المغرب يجهل فيه أوربا في حين كانت أوربا تعمل ما بوسعها من أجل فهم المغرب وفك تلاصيم هذا المجهول المتجاهل ، وتسلحت بما أتيت من قدرات وجرأة رغم هالة الحذر والتوجس التي كان المخزن يحرص على إظهارها ظاهريا حتى رغم وعيه بضعفه باطنيا من جهة، والتي تنهل كذلك مما بقي ساري المفعول من اعتبارات الهبة التي اكتسبها المغرب مند انتصار المنصور الذهبي على دون سبستيان في معركة واد المخازن .
وإذا كان المغرب يحاور ويناور من منطلق قوة طيلة الفترة الحديثة منتشيا بما كان يبدو له عجزا أوربيا في مجابهة الدولة، وبعيد عن الأمر الواقع الذي يحمل في طياته بداية نهاية الاكتشاف النظري وبداية الزحف العملي. فإن هذه القوة سرعان ما تفككت فأصبح المغرب ينهج ويسلط طريق المغازلة كمؤشر على إدراك الهوة بينه وبين الأخر في صيرورة التجاوز علي إيقاع هزائم القرن التاسع عشر المتتالية في إسلي وتطوان وما أسفر عنها من نكسات دبلوماسية. هذه الهزائم الموازية أبانت عن صدمة مزدوجة صدمة المغاربة بمؤهلات أوربا وصدمة أوربا – بطعم خيبة أمل سنين – بواقع يناقض ما بنته وشيدته من تقديرات عن المخزن وكأنها أخلفت موعدا وأضاعت عليها مدة زمنية ثمينة، وفي ظرف قياسي ارتباطا وطموحات أوربا في شمال إفريقيا الذي يترجمها المتروبول والشركات المتعددة الجنسية .
و لأن الآلة الدبلوماسية تعد من إحدى أهم ركائز الدولة الحديثة ومقوماتها إلى جانب الماكنة العسكرية ، وبغض النظر عن حيثيات الخروج من تجربة الحماية واعتبارات ذلك وما يوازيه أو يقابله نظريا في ما إذا كان استقلال أو استقلال مترابط آو شكلي في إطار تبعية، فالمغرب مند أن خرج منها -أي الحماية- أصبح مفروض عليه أن ينتج خطاب دبلوماسي عصري يبرهن فيه عن استفادته من الانفتاح على الغرب في إطار التقاطعات إن على مستوى المجال أو المصالح الإستراتيجية والاحتكاك المباشر به مند 1912 حتى 1956،
لكن لكون الأمور تمضي على ما هي عليه دون تحقيق تطور و حتى تراكم قد يفضي إليه فإننا سنذكر بشيء بين ما ذهبنا إليه بشأن العنوان، وهو انهيار مؤسسات الدولة وكلمة الانهيار هنا في أن تفقد المؤسسات قيمتها الرمزية وتجرد من الأدوار المناطة بها عمليا، إما بفعل شخصنة المؤسسات وتمركزها في هرم يحتكر سلطة القول والقرار معا حتى دون أهلية أو تراكم تجريبي أو معرفي مسبوق يؤسس لهذه الأهلية. فبماذا يمكن تفسير مثلا ربط تحركات الدبلوماسية بغياب أو حضور شخص ما بغض النظر عن تقله أو مركزه. أليس هناك مؤسسة أو بيروقراطية بمفهومها الواسع تسهر على تدبير قضايا الدولة في هذا الشأن و أليست هناك مؤسسات يمكن اللجوء إليها لمد المساعدة أو التدخل المباشر، وإلا فما فائدتها مقارنة مع ما تستنزف من ميزانية الدولة، ولنعد ونفترض جدلا أن غياب أشخاص بعينهم قد يؤثر على طبيعة القرار في مستويات وأبعاد خفية فما ما محل التكنولوجيا وثورتها المتجددة من كل هذا؟.
حدث هذا في حالة الأزمة الدبلوماسية بين فرنسا والمغرب بسبب تصريحات السفير الفرنسي وكذلك متابعة مسؤول رفيع في الاستخبارات المغربية من طرف القضاء الفرنسي بتهمة انتهاكات حقوق الإنسان وممارسة التعذيب والتعنيف وهو الحدث الذي سارع آخرون إلى ربطه بما تعرضت له الحملات التبشيرية لبعض المنضمات المسيحية بالمغرب من مضايقات.
في الحقيقة هذا الوضع يطرح سؤال هل نسق مثل ما تسود فيه هذه الممارسات ينطبق عليه مثل دولة في سياق يقضي بالتعجيل لا التأخير؟. والدولة من حيث هي وعاء يحتوي نظام معين يقود إلى الحديث عن ركائز ومرفولوجية النظام ليس في التمثيلية أو المادية ولكن أيضا في جوهره وإيحاءاته الرمزية ومدلولات تحركاته في القدرة مثلا على التكيف وأقلمة الخطاب مع المتغيرات المتوقعة في المحيط وتناقضاته.
وهنا نقف وقفة أسف عندما نتمثل الدبلوماسية المغربية في ديناميتها ونرصد عمق مؤشرات التأخر التاريخي السالف ذكره، ومنها تموقع المغرب على مستوى الخريطة الدبلوماسية في موقف الدفاع عن النفس بمعنى انتظار الهجوم والقيام برد فعل مما يجعل افقه الدبلوماسي حبيس الوضعية الماضية ورهين الاستجابة للتحديات الحاضرة من موقع ضعف . مما يضطره للعودة إلى الحلفاء التقليديين كفرنسا و أمريكا عند كل معضلة، إما عن طريق التباكي المتمثل مثلا في محاجاة ومحاكاة أمريكا من كون المغرب أول من اعترف باستقلالها وبالتالي فهذا سيبقى دين يحول حائل أمام أي شيء قد يزعج آو يعكر مزاج الدولة المغربية، أو خطاب الكيل بمكيالين بالنسبة لفرنسا أول في الرصيد التاريخي المشترك وثان في الإغراء بتخصيب أرضية للاستثمارات الأجنبية بأقل تكلفة وإعطاء الفرنسيين أولوية ضمن هذه المقاربة .
وبما أن هذا هو الحاصل بفعل التحصيل فإن ما ينبغي أن يكون هو التحكم في مكنزمات عملية التفاعل وذلك إما عبر المناورة واللعب بأوراق تضمن تحقيق التوازن في ميزان القوى الدبلوماسي في جدليتها بالمحركات الاقتصادية الأساسية، فإذا كان الارتباط بالسوق الدولية وتطلعات المغرب للانضمام للكتلة الأوربية، كهاجس جعله يراكم ويكرس طاقاته في هذا الاتجاه يفرض كثير من التحفظ في صيغة التعاطي مع هذا المكون، فإن تسجيل مرحلة العودة إلى العمق الإفريقي قد تكون ورقة الضغط الأكثر تأثيرا لتحقيق انتصار ملموس في مجال أسميه بالاعتبار الدولاتي، هذا ما لم تغدو أن تكون إلا تنفيذ لجزء من التخطيط السياسي لمؤسسة فرنسا فريك المؤطر الرسمي لعلاقة فرنسا بإفريقيا -وخاصة البلدان التي كانت تقبع في مجال نفوذها – قبل خروجها التقليدي منها ،
ويمكن أن نلمس هذه المؤسسة في ممارستها وآليات عملها في دور تشكيلتها كخلية تقيم في قصر الاليزي وتحتل موقع خاص بحكم نشاطها ومهامها السرية، التي تحاك في دواليب هذا القصر وقصور الأنظمة الإفريقية المتواطئة وهو التواطؤ الذي يجد تبريراتها في مفاهيم فرضتها العولمة كالشراكة والانفتاح ولإبعاد شبهة الخلط، فلهذه الخلية ما يميزها عن وزارة الخارجية فهي محدودة الاهتمام بحيث تنحصر وترتكز مهمتها على إفريقيا وقضاياها والسعي إلى أجرأة الإرادة الفرنسية فيها حتى أن هناك من يحمل هذه المؤسسات مسؤولية ما يقع في كواليس العديد من دول إفريقيا جنوب الصحراء من عزل وتعيين مزاجي للزعماء .
عموما، قد يقتضي الفعل الدبلوماسي اتخاذ قرارات وصنعها انسجاما وضوابط التخطيط السياسي العلمي الرامي إلى تجميع المعلومات التي يمكن أن تؤثر في عملية صنع واتخاذ هذا القرار ليكون مناسب للظرفية والسياق وتناقضات البيئة بقراءات تراعي للمتغيرات الدولية والإقليمية وهذا جوهر الممارسة الدبلوماسية. لكن أن تصل الأمور إلى حد وضع سقف معين لهذا القراءات فهذا نوع من الوصاية التي قد تصل في مستوياتها الظاهرة إلى حد الإملاء وضمنيا ضرب في استقلالية جهاز حساس في الدولة.
وعندما تحدثنا عن العمق الإفريقي باعتباره مفتاح الانتصار الدبلوماسي شريطة أن يصنع القرار في وسطه الطبيعي، فلنسوق هذا المثال حول ما يخشاه الغرب أو ما قد لا تكفي أسلحة الغرب الحربية أو الدبلوماسية لصده هو الهجرات أو التوافد الإفريقي نحوه وإذا اعتبرنا أن المغرب هو بمثابة قنطرة العبور، فإن الرهان يجب أن يوجه نحو كيفية استغلال هذه الورقة في المعركة الدبلوماسية والنتائج ستكون مرضية رغم محاولات أوربا إفراغ هذه الورقة من مضمونها فإنها سترضخ لسياسة أمر الواقع .
ومعروف أن أوربا أصبحت تنظر لكل ما هو داخلي عنها بعيون الإرهاب أو العنصرية أو التعامل بنوع من الحيطة والحذر بهذه الخلفيات وذلك في محاولة منها كما تدعيه لصيانة الهوية الأوربية بشكل خاص وبعث الروح في النموذج القومي للقرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين بشكل عام.
لذلك فالعودة إلى إفريقيا جاءت متأخرة نوعا ما من وجهة نظرنا وهو نتاج موضوعي لتأخر الدبلوماسية في عملها وخطابها وفي عجزها على بلورة وإعادة صياغة خطاب جديد بحثا عن نوع من التوازن بين قطبي التجاذب أوروإفريقي لذلك تبدو الرسالة واضحة وهي لن تخرج إما عن مسار قضية الصحراء في رحلة بحث عن المواقف الداعمة او تعزيز مكانة الهوليدنغ وشركائه خارج المغرب كنوع من الاستثمارات الأجنبية المغربية مع مراعاة المصالح المشتركة مع أوربا، وفي ذلك حفاظا على روح ووحدة المنطق الرأسمالي في معادلة مركز ومحيط، ومركز في المحيط بحيث أن المغرب ليس إلا محيط أوربيا فرنسيا بالدرجة الأولى، لكنه أصبح بتفويض يلعب دور المركز في باقي أطراف المحيط إفريقيا. لذلك لا غرابة في أن تسارع بعض الدول كانجلترا هي الأخرى إلى مباركة هذا التوجه الذي يجدد الولاء ويطمئن الغرب مستقبل إرادته في هذه العوالم.