سيكولوجيا المثقف

0 718

يعز على المثقف أن يرشح نفسه حارسا على أنماط التفكير وطرق التصرف والسلوك وأشكال تدبير الحياة، تراه لا يكف عن الحديث والتوجيه ولا يفوته أي سجال. يحشر جماح خياله في كل شاردة وواردة، ويعتبر نفسه الوحيد الذي يقبل من الناس ما يقبل، ويرفض منهم ما يرفض، فعلى يده مفاتيح المستقبل البنفسجي، وبدون توسُّل رحمته تتحول الحياة إلى سواد.
ويجعل المثقف نفسه في مجال الثقافة والفكر سيد المنتجين للأفكار وصاحب الصوت الأوحد بين عامة الناس وخاصتهم؛ يكفي أن تعود إلى كتاب من كتب المثقف لتجد أن المصادر الأساسية التي يعتمدها في دراسته هي الكتب التي ألفها في ما مضى، وكأن مجال الفكر قد ضاق حتى أصبح لا يستوعب سواه. بل إن الكثير من مبدعينا الجدد يتحولون في مناسبات عدة إلى نقاد لنصوصهم وكأن العالم الأدبي يُختصر في ذات المبدع الذي تحول بقدرة قادر إلى ناقد.
وفي مقابل هذه النرجسية المرضية الشغوفة بالذات، يسعى المثقف إلى تحطيم المثقفين الآخرين لكي لا يبقى في وجه البسيطة إلا هو، هكذا يبادلهم بوابل من الشتائم لا يقف منها مشدوها سوى الإنسانِ العادي الذي يستغرب هذه الحقيقة المخزية للمثقف، وقد عرفنا صراعات جمة بين المثقفين والكتاب والمبدعين، كانوا فيها لا يتأخرون عن كيل الويل لكل من شاعت عنه إشاعة، صادقة كانت أو كاذبة، المهم أنهم يكونون أول القادمين إلى ساحة الوغى التي يتحول فيها المثقفون إلى قتلى فكر وجرحى ثقافة، أي فكر وأي ثقافة.
كان المثقف يدعي أنه حارس المجتمع والقائم على استمراره، فإذا به يتحول إلى جلاد يلقي بسوطه غاضبا وكيفما اتفق. كان يعتبر نفسه رسول الهداية الاجتماعية، فتحول إلى مصاص دماء يمتص من جسد الأمة ما تبقى فيها من الحياة. كان عميد المنافحين عن الإنسان مذكرا بحقوقه قبل واجباته، وهاهو يتحول إلى هادر وقاهر عندما تشابكت به الأيدي مع جاه السلطة وما تتيحه مجالسها من الهيبة والتجبر.
يزعم المثقف أنه ند للسلطة محارب لها، والحال أنه لا يكرس سوى سلطتِه. وقد أصاب علي حرب عندما قال في كتابه “أوهام النخبة أو نقد المثقف” “إن المثقف يقدم نفسه، عادة، بوصفه صاحب رسالة، وليس صاحب غاية خاصة أو منفعة مباشرة. فهو يعلن بأنه لا يبتغي سلطة، وإنما يدافع عن القيم والمقدسات. وهنا وجه الخداع والمخاتلة. فمهنة المثقف هي مهنة قوامها أن تخفي حقيقتها، أي كونها تشكل مهنة ومصلحة، أو تعمل على تشكيل سلطة خاصة”(ص.39). والخلاصة أن المثقف “لا يحسن سوى الخراب والدمار بثوابته المطلقة وأقانيمه المقدسة”(ص.42).
إن المثقف يدعي أنه صفر اليدين من أية منفعة مادية، لكنه في الحقيقة يتملى جسد السلطة ويتمناه. لهذا تراه يجري هنا وهناك ليبين للناس أجمعين أنه أحق بهذا المنصب أو ذاك، ويستعرض عضلاته في النضال، وحضوره للمظاهرات، وكتاباته المنتشرة في كل مكان، ويظل حبل النفاق على الجرار.
هكذا هم المثقفون؛ يدهسون كل الموجودات لتبقى أفكارهم واقفة لا تتململ كالسنديان. من منهم لم يكن وقحا بما فيه الكفاية؛ فـ”جون جاك روسو” مثلا كان جلفا مع أصدقائه المثقفين، كان يعتقد أن “هيوم” و”فولتير” و”ديدرو” يحيكون مؤامرة للإطاحة به، وكما كانت كتاباته حافلة بفضح الذات في جوانبها الجنسية على الخصوص، فلم يكن ذلك سوى وسيلة ليؤكد للناس مدى صدقه، ومن ثمة يكون كل ما يقوله عن المثقفين الآخرين صادقا.
لقد أساء “روسو” إلى الذين قدموا له يد المساعدة بعد وفاة أمه في طفولته، خصوصا زوجة أبيه التي ظلت تطلب منه في خريف عمرها أن يساعدها ماديا ورفض بذريعة من الذرائع، حتى قيل إنها ماتت بسبب سوء التغذية.
ومع ذلك فالمثقفون الذين لم يعاصروه يبجلونه بشكل كبير، ربما لأنهم لم يعرفوه شخصيا. فـ”كلود ليفي ستروس” يخاطبه في كتابه “أحزان استوائية” قائلا: “كل صفحة من صفحات هذا الكتاب كان من الممكن أن تهدى إليه لولا أنها جميعا لا تليق بذكراه العظيمة”. أما “كانط” فقد قال إن “لديه (يقصد روسو) حساسية روح كمالها لا يضارع”. كما قال “شيللر” إن روحه “أشبه بالمسيح لا تليق بصحبتها إلا ملائكة السماء”.
أما معاصروه فقد كان لهم حديث آخر؛ فـ”ديفيد هيوم” يعتبره “وحشا يرى نفسه أهم كائن في الوجود”. وأضاف “ديدرو” قوله: “[روسو] مخادع، شيطان مغرور، عديم الوفاء، غليظ القلب، منافق، كله حقد”. أما “فولتير” فيقول إن روسو “وحش يجسد الحقارة والغرور”.
وأبين نموذج يهشم صورة المثقف المقدسة في أذهان العامة تلك التي أصبحنا نعرفها عن أكبر مبدع أمريكي وهو “إرنست همنغواي” الذي انتشر اسمه بسرعة البرق في المغارب والمشارق، فقد أساء إلى أقرب الناس إليه، وورد عنه أنه كان يكره أمه كرها شديدا، وكان لا يتوانى عن وصفها بالعاهرة أمام معارفه، كما حصلت أخته الكبرى على اللقب نفسه.
ويحكى عنه أنه لم يحتفظ بصداقة أحد، وفي فترة معينة من حياته كان قد أنهى كل علاقات الصداقة التي ربطها مع أصدقائه الكتاب، عدا كاتبين كان كل واحد منهما قد أسدى له معروفا من نوع ما، وهما “إزرا باوند” و”جيمس جويس”.
أما “كارل ماركس”، ذلك الرجل العظيم الذي شغل العالم بنظريته في الاقتصاد وأربك معادلات السياسية في أواسط القرن التاسع عشر فقد كان سيد الابتزاز المادي لأصدقائه وأفراد أسرته وقاطع أمه ورفض حضور جنازة أبيه، وتضررت زوجته من زواجها به حتى عدها البعض المرأة الأسوأ حظا في تاريخ الاشتراكية.
المثقفون إذن ليسوا أنبياء كما نعتقدهم، ومهما انسجمنا مع أفكارهم ومواقفهم لا يجب أن نثق بكل ما يخرج من أفواههم، ولنتذكر أن التعامل معهم محفوف دائما بالمخاطر الكبرى. إنه في آخر الأمر ليس سوى كائن إنساني معجب بذاته، أخطاؤه أكثر من إصاباته، ومساوئه أكبر من حسناته، فكفى الناسَ من تقديس الأوثان.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.