“الهشاشة في ظل الرأسمالية “المعولمة
لاصبح مفهوم الهشاشة مفهوما متداولا بكثرة في مختلف المقاربات ابتداء من أواسط السبعينيات بارتباط بالتحولات التي تعرفها الرأسمالية عالميا و محليا، المصاحبة بعطالة الشباب، بتراجع “العقد غير المحدود المدة CDI ” لصالح “العقد المحدود المدة CDD “، بعدم استقرار العمل، بتفقير أوسع الجماهير الشعبية و بلترة أوسع فئات البرجوازية الصغيرة، و بانتشار “وسائل” بديلة عن العمل المأجور العادي: البطالة المقنعة ( الفراشة، خادمات البيوت، ماسحو الأحذية، الحمالة….)، ظاهرة المتاجرة في الجنس، في المخدرات، السرقة، الرشوة…الخ
تعبر الهشاشة في مفهومها العام عن وضعية غير قارة، عن مكتسبات قابلة للتراجع في أية لحظة، عن مستقبل غامض الأفق، عن انعدام الاطمئنان، عن صعوبة المواطنين و الموطنات على توفير شروط تضمن لهم الحياة الكريمة من شغل و سكن لائق، و تعليم، و تطبيب…الخ
للهشاشة وجهان مترابطان، يستحيل فصل واحد عن الآخر: الوجه الاقتصادي، و الوجه الاجتماعي، و تبقى الاختيارات السياسية الطبقية هي المحدد في منحاها، ايجابيا كان أو سلبيا.
سنقتصر في هذه المقالة عن “هشاشة العمل” و انعكاساتها الاجتماعية.
هشاشة الشغل
أولا – الهشاشة هيكلية في نمط الإنتاج الرأسمالي
يمكن الحديث في هذا الإطار عن هشاشة “سوق الشغل”، عن “ليونة الشغل”، و خصوصا عن “هشاشة العمل”.
منذ نشأتها، عملت الرأسمالية (خصوصا في أوربا) على تشكيل “جيش الاحتياط الرأسمالي”، أي على توفير شروط استمرارية البطالة، و ذلك من أجل ضمان قوة العمل عند الحاجة، و بأجر منخفض لرفع نسبة فائض القيمة في قيمة المنتوج، بمعنى أخر تكثيف استغلال قوة العمل.
غداة انتصار الثورة البلشفية في روسيا، و تعاظم النضالات العمالية عبر العالم، و تقوية الحركة النقابية المرتبطة بالأحزاب الشيوعية، و مناهضة الشعوب للاستعمار و الامبريالية، تمكنت الطبقة العاملة من تحقيق مكاسب هامة، خصوصا و أن البرجوازية “فضلت تحسين” ظروف الاستغلال على التعنت الذي يمكن أن يؤدي إلى ثورة تقضي على الاستغلال، و في هذا الإطار يمكن فهم تقنين شروط العمل: عدد ساعات العمل، العطلة الأسبوعية و العطل السنوية، الحد الأدنى للأجور، التعويضات العائلية، التأمين على حوادث الشغل، ضمان العيش الكريم بعد التقاعد…الخ زيادة على مكاسب جد مهمة ك حرية التنظيم، حرية الإضراب، السلم المتحرك للأجور، سيادة “العقد غير المحدود المدة” في علاقة التشغيل…الخ، مكاسب تحققت في ظروف كانت فيها موازن القوة (نسبيا) لصالح الكادحين.
بعد الازدهار الذي عرفته خلال الخمسينيات و الستينيات، دخلت الرأسمالية عهد الأزمات منذ السبعينيات، هذه الأزمة التي تتفاقم سنة عن سنة، و تتخذ أشكالا مختلفة.
فإذا كانت الهشاشة التي تعاني مناه غالبية الجماهير الشعبية مرتبطة بطبيعة الرأسمالية، فإنها تفاقمت بشكل خطير في العقود الأخيرة و ستزيد تفاقما في المستقبل.لماذا؟
فزيادة على التناقض الرئيسي/ألتناحري المحرك للرأسمالية: التناقض بين العمل المأجور و الرأسمال، باعتباره تناقضا بين قوى الإنتاج و علاقات الإنتاج، تناقضا بين الطبقة العاملة و البرجوازية الرأسمالية، هذا التناقض الذي حاولت الرأسمالية في مرحلتها الامبريالية التخفيف من حدته و ذلك على حساب مختلف الشعوب عبر العالم، فقد برزت في واقع “عولمة” اليوم معطيات جوهرية جديدة نتيجة للتحولات الاقتصادية و الاجتماعية التي تعرفها الرأسمالية. يمكن في هذا الإطار الإشارة إلى النقاط الآتية:
– إن الثورة التكنولوجية (في ميدان التواصل، و االمعلوميات…الخ) قد زادت من أهمية الجزء الثابت (الغير المنتج لفائض القيمة) في تركيبة الرأسمال، و ذلك على حساب جزئه المتحرك (المنتج لفائض القيمة)، مما يدفع في اتجاه انخفاض معدل الربح.
– هزالة نسبة الرأسمال “المنتج” مقارنة مع نسبة الرأسمال المضارباتي(تقريبا 1 ل 9)
– انخفاض مهول لنسبة مساهمة القطاعات المنتجة لفائض القيمة ( أساسا الصناعة و الفلاحة) في الناتج الداخلي الخام مقارنة مع نسب القطاعات التي تستحوذ (عبر الربح) على حصة الأسد من ذلك الفائض، مما يقوي موقع الفئات الاجتماعية الطفيلية المرتبطة بقطاع “التوزيع” وبالقطاعات البنكية، العقارية، و المضاربتية….الخ
ثانيا- مواجهة الأزمات عبر المزيد من الهشاشة
لمواجهة أزماتها عامة، و مواجهة ميل معدل الربح نحو الانخفاض خاصة، التجأت الرأسمالية إلى حلول، منها ما هو “خارج” عن إرادتها، و منها ما هو ناتج عن اختيارات تمررها عن طريق سياسات الدولة، و القوانين التي تصدرها البرلمانات، و تكرسها على أرض الواقع مختلف أجهزة الدولة (وزارة التشغيل، قوات القمع، القضاء….)، و تطبل لها مختلف وسائل الإعلام ، و يبررها منظروها البرجوازيون.
1 – تقليص “دورة الاستغلال” ( le cycle d’exploitation)
إذا كانت مثلا في الماضي “دورة استغلال” منتوج معين تتحقق في 3 أشهور، فإنها تتطلب اليوم شهر أو أقل. كيف؟
– تقليص الوسائط عبر انتشار ” المساحات الكبرى” ، “التسليم المباشر” …الخ
– تحديث وسائل النقل من شاحنات متخصصة، قطارات سريعة، بواخر و طائرات سريعة.
– و المهم في كل هذا تبقى هي الثورة التكنولوجية في ميادان التواصل، و الإعلام، و ثورة المعلوميات: من التعريف بالمنتوج ، إلى الأداء، مرورا ب”طلب البضاعة”، كلها مراحل تنجز عبر الانترنيت في رمشة عين.
2 – تخفيص الكلفة ( coût de production )
أ – تطوير الآلات و اقتصاد المساحات المستعملة (“مكاتب” مفتوحة….الخ)
ب – توفير المواد الأولية بثمن منخفض، و هذا ما يفسر جزئيا الحروب التي يعرفها العالم حالية: غزو ب”النار و الحديد” منابع البترول، مناجم المعادن…الخ و تقوية مجموعات تتحكم في عملية الإنتاج بكاملها ( (Del’amont à l’ava : من استخراج المواد الأولية إلى التسويق مرورا بعملية التحويل.
ت – ضرب المكاسب العمالية بهدف تخفيض “الأعباء الاجتماعية” (هههه) و ذلك عبر ما يصطلح عليه ب”ليونة العمل”:
لقد دخل مفهوم “ليونة العمل” (la flexibilité du travail) عالم الاقتصاد و السياسة و القانون منذ حوالي 30 سنة، مصاحبا سيادة منطق “العولمة” و الممارسة المتوحشة للرأسمالية، التي تسمح للرأسماليين التعامل مع قوة العمل كبضاعة عادية مثلها في ذلك مثل البطاطس، و البصل…الخ، حيث تبقى، كميا و كيفا، رهينة السوق “الحر” المبني على “قانون” الطلب و العرض، بمعنى حسب رغبة/مصلحة le bon-vouloir/l’intérêt du patron) ) الباطرونا، مما يضرب استقرار العمل بالنسبة للكادحين، و مراهنة مداخلهم بتقلبات “سوق/بورصة الشغل”، و نشر عدم الاطمئنان بين عائلات العمال، و توسيع دائرة الفقر و التهميش….الخ
تتم ترجمة “ليونة العمل” في الواقع عبر:
– اللجوء إلى “العقد المحدود المدة” ، مع تقليص متزايد للكادحين المشغلين في إطار “العقد غير المحدود المدة”.
– اللجوء إلى مقولات الوساطة، لضرب العلاقات القانونية المباشرة بين الكادح و الباطرون، و ينتج عن هذا حرمان العمال من الحقوق التي يضمنها قانون الشغل، و الدستور…الخ كحق التنظيم، و الإضراب…الخ
– حرية تخفيض ساعات العمل ، مما يؤدي إلى انخفاض الدخل
– حرية تسريح العمال بمبررات واهية، في مقدمتها “صعوبة تسويق”المنتوج، ” الخطأ الجسيم”…الخ
– تشغيل (عند الحاجة) العمال خارج الساعات القانونية دون تطبيق القانون الخاص بالساعات الإضافية
(les majorations qui varient de 25% à 100% )
– التراجع عمليا على الحد الأدنى القانوني للأجور
– تسهيل مناورة “الإغلاق لأسباب اقتصادية”، و إعادة فتح المقاولة تحت اسم جديد دون تمتيع العمال بحقوقهم المشروعة، منها الأسبقية في التشغيل، استمرارية التشغيل، منحة الأقدمية…الخ
ثالثا – معطيات مهولة حول “هشاشة الشغل” بالمغرب: و شهد شاهد من أهلها.
نشرت يومية L’Economiste في عددها 4235 ليوم الثلاثاء 18 مارس 2014 ملفا هاما حول “هشاشة الشغل” بالمغرب، ملفا يحتوي على عدة معطيات مرقمة حول هول هذه الهشاشة. و المعروف أن هذه اليومية الاقتصادية تعد من أهم وسائل الإعلام و الدعاية (جرائد، راديو…) لمجمع “أونا” (ONA) “الملكي”الذي يعد أكبر مجموعة اقتصادية في المغرب. و مما جاء في الجريدة:
– هناك 700 شركة تنشط في “وساطة التشغيل”، توجد 48 منها فقط في حالة قانونية، بمعنى أن 652 الباقية تستغل قوة العمل خارج القانون. وحتى تلك التي تتمتع بوجود قانوني فإنها تعمل خارج “الشفافية” المطلوبة، بمعنى أن المعطيات التي تقدمها تبقى دون مصداقية.
– يناهز “رقم المعاملة” لهذا القطاع 4 مليارات من الدرهم
– 67% من الشغالين ( 73% منهم عمال) في شركات الوساطة، يتقاضون أقل من الحد الأدنى للأجور القانوني، هذا الأخير الذي يبقى هزيلا في الأصل.
– بشكل عام، 64,4% من المأجورين يشتغلون خارج أي عقد شغل (sans contrat de travail)
– 80% من الناشطين فعليا لا يتوفرون على أية تغطية صحية
– 2/3 (أكثر من 66% ( من الناشطين لا يتوفرون على أوراق
….الخ
رابعا – أسباب ضعف المقاومة العمالية
إن سيادة “متطلبات ” العولمة، و منطق “حرية السوق” الليبرالية، المبنية على “المنافسة” المتوحشة، التي تفرض على المقاولات الرأسمالية اللجوء إلى جميع الوسائل لتخفيض “كلفة الإنتاج”، ليس حتميا، و لا مبررا للخضوع و الاستقالة من جبهة المقاومة.
إن الهشاشة، بمفهومها الشامل، التي تعاني منها الجماهير الشعبية عامة، و الطبقة العاملة خاصة، تتطلب من الضحايا رفع التحدي، ليس فقط بالدفاع على المكاسب التي حققتها الأجيال السابقة من الكادحين، و لكن كذلك من أجل نزع مكاسب جديدة، و ربط النضال الاقتصادي/النقابي بالنضال العام من أجل مجتمع جديد. يمكن تركيز أسباب ضعف المقاومة العمالية في نقطتين اثنتين:
– عدم ربط النضال “الإصلاحي” المرحلي من أجل تلطيف شروط الاستغلال بالنضال الثوري الاستراتيجي من أجل القضاء على الاستغلال. لا حركة نقابية قوية بدون أطر نقابية سياسية ثورية.
– ضعف التنظيمات السياسية الثورية، و غياب الأحزاب الشيوعية. نعني بالحزب الشيوعي (ليس في تسميته)، بالحزب الذي تنصهر فيه الطلائع العمالية بالنظرية الثورية، أي بالفكر الشيوعي، فكر الطبقة العاملة.
الخلاصة
إذا كانت الهشاشة، في مفهومها العام، تعني صعوبة الجماهير في تحقيق شروط العيش الكريم من شغل قار، و سكن لائق، و تمدرس مجاني ، و تطبيب مجاني، و حرية التنظيم، و التعبير الحر، و حرية التظاهر….الخ، مرتبطة بالتحولات الموضوعية التي تعرفها الرأسمالية “المعولمة”، فهي مرتبطة كذلك بضعف مقاومة الضحايا، فهي مرتبطة بضعف القوى السياسية الثورية. إن الهشاشة و ما يصاحبها من تفقير عام، قد أوقعت تحولات هامة في التشكيلات الاجتماعية “الوطنية”، حيث تقوت (كميا) طبقات الشبه-البروليتاريا التي أصبحت تلعب (كيفا) دورا مهما، إن لم نقلطلائعيا (في الوقت الراهن) في المقاومة الشعبية اليومية. فسكان الأحياء الشعبية المدينية (من ضمنها أحزمة الفقر)، و مناطق البادية المهمشة، و مختلف فئات المعطلين…الخ و خلافا للنظريات الكلاسيكية، قد أصبحوا جزءا هاما، جزءا لا غنى عنه، من محرك الصراع الطبقي. و هذا ما يطرح مهام جديدة على الشيوعيين، مهام نظرية (في إطار التحليل الطبقي، و دور مختلف الطبقات في سيرورة التغيير، و العلاقات بين السياسي و النقابي و الحقوقي و الجمعوي…)، ومهام في الممارسة ( البرنامج العام،إستراتيجية التغيير، الدعاية، التكتيكات، الشعارات…) ، و مهام تنظيمية(أشكال التنظيم، التنظيمات الوسطية، العلاقة بين الحزب و المنظمات الجماهيرية…).
علي فقير