إغراءات رئيس مجلس النواب، للحد من معضلة الغياب!

0 484

بات من شبه المؤكد، أن الجميع يتفق اليوم، على أننا أخلفنا الموعد مع سفينة الإصلاح والتغيير، وأن انبلاج فجر ربيع الديمقراطية العربي، على انتخابات برلمانية مبكرة وصياغة دستور متطور للبلاد، لم ترافقه إشراقة شمس دافئة، مادامت حكومة السيد بنكيران خيبت ظن البسطاء، في النهوض بالحياة السياسية وتحقيق تطلعاتهم، وإخراجهم من شرنقة البؤس، ووحشة الأنفاق المظلمة. جاءت لتعميق جراحهم والزج بهم في غياهب الغلاء الفاحش، وإنهاك قدرتهم الشرائية، ولتدفعهم قسرا إلى المزيد من سد الحزام خدمة لأجور وتعويضات ذوي البطون المنتفخة. وجاءت أيضا لإثارة الفتنة والرفع من حدة الاحتقان: الاقتتال في الجامعات بين الفصائل الطلابية، التطاحن بين المعارضة والأغلبية في البرلمان…
وفضلا عما صرنا نعيشه من حالة اكتئاب مزمن، جراء توالي النكسات وانتشار الفساد والانحرافات في ظل حكومة يفتقد رئيسها أبسط مقومات الربان الرزين، الذي يتعامل مع الجميع على قدم المساواة، ويوصلهم إلى ساحل الأمان بسلام واطمئنان، مازالت أمواج المفاجآت الضارة متلاطمة، منذ فقدانه للبوصلة في بداية الإبحار. إذ أطل علينا السيد: رشيد الطالبي العلمي، المنتخب حديثا رئيسا لمجلس النواب خلفا للسيد: كريم غلاب، في إطار تصفية تركة “المسجل خطر” ضمن لائحة التماسيح السيد: حميد شباط، أمين عام حزب الميزان. وبدل إعطاء المجلس شحنة قوية، والسهر على تطبيق بنود مدونة السلوك والأخلاقيات البرلمانية، كما أرادها جلالة الملك أن تكون في خطاب افتتاح السنة التشريعية: أكتوبر2012 ، أبى إلا أن يدشن ولايته بوصفة “سحرية”، كلفت ميزانية الدولة 17 مليار سنتيم، لشراء حضور ممثلي الأمة للجلسات العامة واجتماعات اللجن. ذلك أنه تم الاتفاق على تيسير تنقلات السيدات والسادة النواب، القاطنين خارج مدينة الرباط دون حتى الإدلاء بشهادة الإقامة، عبر إبرام عقود ثلاث اتفاقيات مع كل من: الخطوط الملكية الجوية المغربية، المكتب الوطني للسكك الحديدية والمكتب الوطني للطرق السيارة بالمغرب، علاوة على استفادتهم من بطائق لاستهلاك الغازوال، والإقامة بفنادق ممتازة، لمدة لا تقل عن ثلاثة أيام في الأسبوع، ما يعد زيادة ضمنية لكل برلماني “ة” ب: 4000 درهم.
تساؤلات مرهقة ومحرقة، اشتعلت في رؤوسنا فور علمنا بمكر “حمامة” رئيس مجلس النواب: أما كان حريا بالسيد بنكيران، بعد تخلصه ممن ظل يعتبره عنصر تشويش ومصدر قلق، مؤازرة “الوافد الجديد”، في ضبط النظام بشطارته بدل المزيد من استنزاف ميزانية الدولة؟ ألا يعتبر الغياب في مؤسسة دستورية ذات حساسية، وما يترتب عنه من آثار سلبية، إخلالا عاما بالمسؤولية، سيما عند التصويت على قوانين مصيرية؟ ألا يكفي ممثلي الأمة إغراءا ما تبتلعه من أموال الشعب، حساباتهم البنكية، في شكل تعويضات محترمة، وما سيحصلون عليه من معاش مريح؟ أين نحن من ترشيد النفقات؟ هل الترشيد الناجح، هو “تكريم” الطبقة الكادحة بالزيادة في الحد الأقصى من المذلة، بما قيمته مائة درهم شهريا؟ أهذا هو الرد الأنسب عن مطالب الشعب، برفض الزيادة في تعويضات البرلمانيين وإلغائها ؟ كنا نأمل من السيد الطالبي العلمي، الذي لم يفتأ يتحدث عن البدائل، أن يظهر حنكته بمساعدة رئيس الحكومة في إخراج الحياة التشريعية من قوقعة الجمود والارتباك. ألم تكن فترة وجوده في “المعارضة” خلال النسخة الأولى للحكومة، تمرينا كفيلا بوضع تصور شامل حول تقنيات التدبير الجيد والحكامة “الرشيدة”؟ أليست إغراءاته رشوة مكسوة برداء التحفيز؟
كثيرة هي الممارسات غير المسؤولة: حروب كلامية، تغيبات طوعية… تفقد البرلمان مصداقيته، وتسيء إلى صورته داخليا وخارجيا، من غير أن تقوى على الحد منها أساليب الاحتجاج والاستنكار، في الصحافة ولدى الرأي العام، ولا التعويضات المادية والحصانة البرلمانية، ولا حتى التهديدات بتطبيق النصوص الواردة في القانون الداخلي. استشرى الداء ولم يجد “لمعلم” رشيد من دواء، غير الإغراء…
استحال غياب النواب إلى عادة مرضية مؤرقة، تستدعي علاجا ناجعا، إرادة قوية والتزاما أخلاقيا، وأضحى من غير المقبول استمرار الحكومة في الكيل بمكيالين، حينما تضرب بيد من حديد، على المضربين عن العمل بالاقتطاع من رواتبهم الهزيلة، وتغض الطرف عن السادة نواب الأمة، الذين يغنمون من ميزانية الدولة، حصة الأسد عند متم كل شهر، علما أن هناك مواد قانونية، يتم بموجبها الاقتطاع من تعويضات كل نائب تغيب بدون عذر مقبول، حسب عدد أيام التغيب، وأن ينشر كل ما اتخذ من إجراءات في النشرة الداخلية والجريدة الرسمية، فما المانع من تفعيل هذه القوانين، سيما في حق أولئك الذين لا تطأ أقدامهم عتبة مجلس النواب، عدا في افتتاح السنة التشريعية بحضور جلالة الملك، أو خلال القضايا الوطنية الكبرى الطارئة؟ ومن هذا المنطلق، ألا تعتبر غياباتهم الممتدة دون مبرر منطقي بمثابة انقطاع عن ممارسة المهام، وهو أكثر الدرجات ضررا من الإضراب المحدود؟ وكما لم يعد خافيا على أحد، فإن النائب البرلماني يمثل الأمة وليس فقط دائرته الانتخابية، يقوم بدورين أساسيين وفق ما يخول له الدستور: يساهم في التشريع من أجل المصلحة العامة للمواطنين، بدراسة مشاريع القوانين والاقتراحات المعروضة على البرلمان، وإبداء الرأي والتصويت، واقتراح قوانين أخرى، ويضطلع أيضا بالدور الرقابي لأداء الحكومة كجهاز تنفيذي، عبر وزاراتها ومؤسساتها ومحاسبة المقصرين من المسؤولين في إطار القوانين الجارية… بالله عليكم، كيف لمن تناط بهم مسؤوليات من هذا الحجم، اغتيال ضمائرهم والتنكر للواجب، مباشرة بعد حصولهم على مقاعد نيابية؟
من المعيب جدا أن يستمر البرلمان، الذي طوى من العمر ما يزيد عن نصف قرن، على هذا الحال من الفوضى والتسيب، وأن تظل الغرفة الأولى مشدودة بقيود الاستهجان واللامبالاة، رغم توفرها على مدونة للسلوك، تتضمن مبادئ أخلاقية هامة، لتأطير مهام النواب وممارساتهم، من حيث ترجيح كفة المصلحة العليا للوطن والمواطنين على المصالح الفئوية أو الذاتية، الابتعاد عن الشبهات والالتزامات المالية التي من شأنها التأثير السلبي على أداء الواجب، المشاركة الكاملة والفعالة، التحلي بالاستقامة والنزاهة، صيانة الأمانة والحفاظ على ثقة الآخرين، احترام الوضع القانوني للمعارضة البرلمانية وحقوقها الدستورية، بدل وصفها بالمثيرة للغثيان “كتعيف”، من طرف السيد بنكيران. وتحسين صورة البرلمان، بجعله فضاء للحوار الهادف والمثمر، ومدرسة ذات جاذبية ومصداقية، للنخب السياسية…
حان الوقت للإعلان عن ثورة هادئة، بصياغة خطاب موضوعي ورصين، خال من التشنجات والتجاذبات، ضد الأوضاع المتردية، تغيير العقليات المتلاشية، ووضع حد لمظاهر العبث والاستخفاف بالمسؤوليات، وأن نسارع إلى طي صفحات الماضي القاتم للبرلمان، والشروع في بناء صرح مغرب جديد، مغرب المؤسسات والاستثناءات، وإعطاء مجلس النواب إلى جانب مجلس المستشارين، ما يستحقانه من عناية دقيقة وأهمية بالغة، اعتبارا لما يشكلانه من جناحين قويين وأساسيين، يساعدان على رفع البلاد عاليا في سماء المجد، وتأمين الانتقال الديمقراطي والإصلاح السياسي والدستوري. من هنا، يتعين على الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية، الوعي بكونها تتحمل القسط الأوفر من المسؤولية فيما يجري من اختلالات، نبذ خلافاتها غير المجدية التي لا تعمل سوى على استنزاف طاقاتها وإضعاف قدراتها، وإعادة النظر في أساليبها معتمدة في ذلك على التكوين والتأطير الجادين، وفي أنظمتها الداخلية وديمقراطياتها، وألا يظل منح “التزكيات” إبان الاستحقاقات الانتخابية خاضعا للمحسوبية ومحط شبهات وانتقادات، حتى تكون قادرة على بعث الروح في الحياة السياسية، وإحداث دينامية رفيعة وحديثة، عبر تطعيم المجتمع والمؤسسات بأطر ذات جودة راقية على المستويين الفكري والأخلاقي، وأن تنتقل المؤسسة التشريعة من دائرة التهديد والوعيد الشفويين، إلى ما يلزم من إجراءات تأديبية بكل الصرامة والحزم الممكنين، بدل تبذير أموال الشعب بدون جدوى… فماذا أعدت فرق المعارضة، لتقوية وتوحيد صفوفها، وخوض معركة تشريعية حقيقية، تحفظ الحقوق والكرامة الإنسانية، ومواجهة مسلسل التراجعات عن المكتسبات وإعادة الاعتبار للحقل السياسي والعمل النيابي؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.