من يشتري البكالوريا
كلما اقتربت امتحانات البكالوريا ، الا و دخلت أسر المترشحين في الاستعداد بكل ما أوتيت من قوة إذ تعلن عن حالة استنفار قبل عدة أسابيع من الموعد من خلال تسخير كافة الإمكانيات المادية والمعنوية والمتمثلة أساسا في تكثيف الدروس الإضافية الخصوصية التي أضحت تشكل عبئا ماديا ثقيلا إضافيا على جيوب الأسر، لكنها تبقى شرا لابد منه أحيانا لإرضاء بعض المدرسين واتقاء شرهم حتى يضمنوا نقطا عالية في المراقبة المستمرة ومعاملة متميزة داخل القسم وربما حتى تسريب الفروض إليهم وتدريبهم عليها خلال حصص الدروس الخصوصية.
تعمل هذه الأسر على توفير كافة الشروط والظروف النفسية المواتية حتى يتمكن الأبناء من عبور جسر البكالوريا بنجاح وبسلام إلى الجانب الآخر من مشوارهم من أجل أن يشقوا طريقهم نحو دراسات عليا بتخصصات متعددة بالمعاهد حيت التسابق المحموم على النقط بين المدراس الخصوصية والعمومية قصد الظفر بمقعد داخل هذه المعاهد قصد ولوج عالم الشغل.
أما المترشحون(ات) للبكالوريا فمنهم من يعتمد كليا على نفسه وسهر الليالي وجاهد ويكرس كل وقته للدرس والتهييء لهذه المحطة بكل ما تتطلبه من جد ومثابرة واجتهاد، ومنهم من يفضل العمل بمجموعات للاستعداد سواء في البيوت أو خارجها ، في حين تلجأ فئات أخرى الى خيار الغش بحيث جند كافة الوسائل من كتابة “الحروز” على أوراق صغيرة يسهل تخبئتها في جيوب صغيرة وأماكن حساسة أواللجوء إلى بعض محلات الاستنساخ التي تشجع التلاميذ على الغش من خلال توفير دروس جد مصغرة لجميع المواد بمباركة وتشجيع من بعض الآباء ، وأحيانا باستعمال التكنولوجيا الحديثة من خلال الهواتف النقالة…
فهل فعلا شهادة البكالوريا بالمغرب تستحق كل هذا التجيش من الاسر؟ هل لازالت شهادة البكالوريا بتلك القيمة؟ نظن أن الجواب على هذا السؤال واضح فقد انتقلت شهادة البكالوريات من كونها قيمة ثابتة محددة بشكل مسبق من قبل أهل السوق(الدولة و بشكل أخص الوزارة الوصية) و كما لا يخفى ، أهل السوق يدافعون بما أوتوا من فنون الصنعة عن قيمة منتوجاتهم، إلى منتوج أو سلعة (شهادة) لها ثمن قد يزيد أو يقل بحسب قانون العرض و الطلب والنقطة. لنوضح أكثر مضمون هذا القول، و لنضرب لذلك مثلا بسيطا يعكس واقع الحال، إن إطلالة بسيطة على كشوف نقط المراقبة المستمرة الخاصة بالتلاميذ المرشحين لاجتياز امتحانات البكالوريا بالتعليم الخاص ، تكشف بجلاء عن عمق الهوة بين القيمة الحقيقية لمستوى التلميذ و النقطة التي تحصل عليها أو بالأحرى التي منحت له. فالمفروض أن القيمة الحقيقية لمستوى التلميذ منوطة بالأستاذ على اعتبار انه هو من يلازم هذا التلميذ على مدار السنة و هو من يقوى على معرفة مستواه الفعلي و لو نسبيا. نعم ذلك ما كان، و لكنه للأسف لم يعد، إذ أصبحت هذه القيمة تعير بثمن، قد يزيد وقٌد ينقص بقدر شطارة التلميذ أو من يقومون مقامه(اولياء الامور)، فمرحى بالتفاوض الذي يبدأ أولا بأنواع و أشكال من الأخذ و الرد و الجدال بين الأستاذ و التلميذ و قد تتدخل أطراف أخرى(مدير المؤسسة الخاصة)، في صورة تذكرنا بالجدال الذي يدور بين البائع و المشتري، فهي إما توسلات و نحيب و أصناف من الدعاء، و إما تعلل بنقط الامتحان الجهوي، الذي هو قصة أخرى، و إما استنجاد بواسطة لها تأثير من نوع معين على الأستاذ
(الاقرباء ، زملاء العمل…)و كل هذا دون الحديث طبعا عن الطرق و السبل التي يتحصل بها التلميذ على نقطته الأصلية (فروض المراقبة المستمرة) قبل بداية مسلسل التفاوض السابق الذكر. أما بعد كل هذا، و بعد أن يخرج التلميذ غانما من الجهاد الأصغر، فإنه يبدأ في عد العدة للجهاد الأكبر (الامتحان الوطني) و هنا يعمد إلى تطليق الأخلاق و القيم طلاقا لا رجعة فيه، و يتوسل بمقولة ميكيافيلي الشهيرة: الغاية تبرر الوسيلة، التي تجعل من الغش، في تحول عجيب، حقا يدافع عنه بقدر ما استطاع، فيبدأ الأساتذة المكلفون بحراسة التلاميذ في الامتحانات، في إمتاع أعينهم و صقل خبراتهم بما كانوا قبلا يعرفون بعضه و يجهلون معظمه، أو يجهلونه كلية، صنوف وأشكال من الغش في الامتحانات، لم تزدها التقنية إلا إبداعا و تفننا، و لم تزد أصحابها إلا تألقا في سماء الخداع و التحايل إلى درجة يبدو معها جيمس بوند في حاجة إلى مزيد من التعلم، نشير فقط إلى أننا لا نعمم، بل نرصد الوضع الذي استحوذ على المشهد، دون أن ننكر أن هناك تلاميذ يجدون و يجتهدون و يصنعون نجاحهم، ولكن هم قلة ونحن نتحدث عن القاعدة.
إنه ببساطة الوضع الذي آلت إليه امتحانات البكالوريا بالمغرب، فنحن و إن كنا لا ننكر الأسباب و العوامل التي أوصلتنا الى هذه الحالة ، إلا أننا نكون كمن يخفي الغابة بشجرة، إن نحن اكتفينا بها وحدها في تبرير التدني الذي آلت إليه شهادة الباكالوريا في بلادنا، و بقية الشواهد الأخرى، مادامت هذه من تلك. لا ينبغي رغم ذلك، أن يفوتنا أن هذا التدني ما هو إلا مؤشر على أزمة بنيوية تطال قيم المجتمع ككل، إن المكتوين بنار التعليم ببلادنا ليدركون فحوى قولي و يعلمون أنني لا أبالغ فيما ذكرت بل لربما يرونني قد قصرت في التوصيف. و لكن ليس هذا ما أردت الوصول إليه، فهذا بات مألوفا في مغربنا الحبيب، كما أنني على وعي تام بأن تلامذتنا ليسوا وحدهم من يتحملون وزر ما آلت إليه وضعية الامتحانات الاشهادية هذه، فالأمر كما أسلفت يرتبط بأزمة قيم مجتمعية، لا نستطيع أن نلقي فيها باللائمة على طرف بعينه أو على طرف دون آخر، بل للكل فيما يقع نصيب قد يقل و قد يكثر.لذلك نعتقد أن الخطورة الأعظم تتجلى في الانتقال بهذا النوع من القيم (التي استحوذ فيها الثمن على القيمة الحقيقية للشيء) من الفرد إلى المجتمع، إذ من المعلوم أن قيما كهذه تبدأ شخصية بناء على حاجة الشخص و ميولاته و رغباته و منفعته، لتتحول شيئا فشيئا، و هنا الطامة الكبرى، فتعمم و تصبح ذات طابع اجتماعي، لتنتقل من المجال السيكولوجي إلى المجال الاجتماعي، فتصبح كما قال سارتر تعكس بنية المجتمع ككل.
و هذا ما صرنا نلحظه في كل ثنايا مجتمعنا، فلا شيء ثبت على حاله و حافظ على قيمته، بل استشرى البيع و الشراء في المناصب كما في الشواهد، في الأصوات كما في الذمم، و كيف لا و المجتمع يؤمن بأن الشيء الذي لا يباع و يشترى حرام. أخشى ما أخشاه أن نبقى سجناء ماضينا، نتغنى به في كل لحظة و حين و لسان حالنا يردد: ما كان بالإمكان أبدع مما كان، و هذا ما تكشف عنه شهادة البكالوريا في بلدنا حيث لم تعد تقبل في العديد من الجامعات الغربية بعدما كانت ذات قيمة تسمو بها عن أي ثمن!!!.