خطورة “الفيسبوك” على العلاقات الانسانية
دخل الإنسان العالم من أبواب التكنولوجية فأطلعته على ما يخفيه من أسرار دفينة ، و جعلت العالم قرية صغيرة بإمكانك زيارتها في دقائق معدودة ، وقرَّب كلَّما كان في الماضي بعيدا ، وجعلت الأصدقاء متواصلين ، و العائلات مجتمعين ، و المغرَّبين حاضرين … كل هذا وأكثر حققته التقنية بشتى وسائلها المتعددة التخصصات ، فهذا “الفيسبوك” مثلا الذي اكتسح العالم وربط شرقه بغرب و شماله بجنوبه ، أصبح هَمَّ الصغير قبل الكبير و الشاب قبل الشيخ و البنات قبل النساء …
لقد تمكن هذا الموقع الاجتماعي التواصلي من إحداث ثورة تواصلية لم يشهد الإنسان مثلها من قبل ، اجتمعت فيه كل مميزات التواصل بما فيها الكتابي و السمعي البصري . وبغض النظر عن التواصل أضحى هذا الموقع مكانا للتعبير عن الآراء و النقاشات العلمية و السياسية و الاجتماعية و الإعلانات التجارية ، كل هذا وغيره يحتضنه “الفيسبوك” بإيجابياته وسلبياته . فأين تكمن خطورة “الفيسبوك” على العلاقات الإنسانية بما فيها الأسرية بصفة خاصة و الاجتماعية بصفة عامة ؟
رغم ما أسدى “الفيسبوك” من خدمات جليلة لا ننكر فضلها ، أضحى اليوم يُشَكِّل خطورة كبيرة على العلاقات الإنسانية المتينة ، قد يفضي بها إلى التفتت و الانحلال والقطيعة ، وذلك من خلال سوء الاستعمال أو الاستخدام المفرط . فبعد أن كانت العلاقة الإنسانية بِتعددها و تنوعها ، يسودها الاحترام و التقدير والمعاملة الأخلاقية ، حسب طبيعة العلاقة التي تربط الأطراف و المكانة التي يحتلها الواحد في وجدان الآخر ، جاء الفيسبوك ليقلل من حد هذا الاحترام و التقدير و يزيد من ” جرأة ” من كان على وشك السقوط في مهب الانحلال الأخلاقي ، و يزيد جرأة من كان في واقع الأمر جريئا لتأخذه ريح الفيسبوك التطاول على قلوب الآخرين و العبث بحياتهم و قد يصير به الأمر إلى التجرؤ على عائلته و من داخل أسرته و هو لا يشعر ، ” فكم تكون الطعنة مؤلمة عندما تأتيك من يدك “. فاحترامك لنفسك واجب قبل احترام الآخرين ، حتى لا تقع في مقولة ” كما تدين تدان ” .
فكم تكون الأمور خطيرة عندما يسجل المرء نفسه باسم ليس له و يتوارى خلفه بغرض يخفيه ، و يلتقي باسم آخر غير حقيقي كان هو الآخر يتقنع من ورائه من أجل غرض يعلمه هو ، و يستمران في المراسلة و التواصل و يبنيان علاقتهما على أساس الوهم و قاعدة الكذب و البهتان … و عندما تأتي الطامة الكبرى و يكشف أحدهما الآخر و تكون الصدمة قوية ، و خاصة عندما يعرف أنه من أحد أقرباءه ، فلك أن تتصور هذا الفلم المرعب !!!!
خطورة التواصل و اللاتواصل :
هذا هو حال الفايسبوكيون اليوم ، و ما قد يزيد من خطورة الفيسبوك على العلاقات الإنسانية ، ويشتكي منه الكثير من الناس ، هو ذلك “التواصل و اللاتواصل” في نفس الآن و أقصد بهذا تلك الحالة التي يكون عليها المتصلون وهم على علاقة مسبقة و صداقة قبلية يعرف بعضهما البعض لكن يأتي الفايسبوك ليكرسها حقا و يثبت صحتها أو يثبت عكس ذلك . حالة التواصل السلبي التي عليها الفايسبوكيون اليوم هي أنهم على الخط متصلين يرى البعض أصدقاءه و لا يحدثهم و لا يكلمهم حتى ” السلام ” يعدل عنه و كأنه لم يراه أو غير متواجد ، وقد تطول مدة هذا الانقطاع وقد تقصر ، ولِكُلِّ سببه الخاص لكن المشكلة تكمن في الاعتبارات التي يأخذها البعض و الاعتقادات التي يفسر بها البعض الآخر عدم الحديث أو الكلام ، ( كأنه متعمد عدم الحديث ) أو ( أنه لا يرضى الحديث أولا ) أو ( من يكون حتى أحدثه أولا ) … وهلم جرا من الاعتقادات قد تكون صحيحة و قد تخطئ ، هذا ما يؤدي بهم إلى توليد أفكار سلبية على بعضهما البعض ، وينتهي بهم الوضع إلى القطيعة. على العموم فهذه الحالة التي تبدو كأنها عادية تسببت في إحداث شرخ كبير في المجتمع وبين الافراد و الصداقات و العلاقات العاطفية المبنية على أساس غير متين و انتهت بهم إلى الطلاق .
و لك أنت تتصور كم يكون الأمر خطيرا عندما تجتمع الأسرة وما أدراك ما الأسرة بكامل أفرادها على الفيسبوك، الأب في العمل متصلا ، و الأم في المنزل أو في العمل كذلك ، و الابن في المدرسة أو في المقهى ، و البنت في فضاء آخر … و الكل على الفيسبوك متصلا و يرى الآخر على الخط لكن لا يعيره اهتماما ربما لأنه يتصل بما هو أكثر أهمية بالنسبة له ، لكنه في واقع الأمر ليس كذلك . و عندما تسأل الأم ابنها لماذا لم تحدثني على الفيسبوك يجيبها لقد رأيتك قبل قليل في المنزل ، و تأخذ هي الأخرى نفس الحجَّة عندما يسألها زوجها ، و يستعملها هو الآخر ضد ابنته … إذن الكل يُحَاجُّ بحجة واهية نسوا أن الأمر أكبر من ذلك و أن قيمة الأسرة مجتمعة و مكثفة أعلى و أكبر من أي اعتبار آخر يدخل ليشتت العائلة و يَحُلُّ روابطها الأصلية المتينة ، و هذه من عواقب سوء استعمال الفيسبوك على أكبر العلاقات الإنسانية متانة وهي الأسرة أو العائلة .
خطورة الخطاب الموحد :
فالصديق مع صديق تتأرجح علاقتهما بين الاحترام حينا و المزح أو ما يسمونه (التقشاب ) حينا آخر، هذا إن كان ذلك المزاح في إطار متعارف عليه عند الكل أي (اجتماعي) ، ولم يخرج أيضا ذلك الكلام بين الطرفين إلى أن يصبح عاما أي مشتركا بين الفايسبوكين ، فقد يكون ذلك الحوار خاصا بتلك الفئة المتحاورة والتي تتفهم تلك الخطابات، لكن خطورة الأمر تكمن عندما تكون هناك فئات أخرى تطل من حيث لا تعلم، وهي لا تعرفك بتلك الصورة و لا بذلك الحوار ، و من جهتك أنت أيضا تتحاشى هذا مرارا و تكرارا لكن بين الفينة و الأخرى الفيسبوك يوقعك في ذلك ، و بالتالي تتكوِّن لدى الفئة التي تحترمها و تحترمك ( كالأب و الأم و الأساتذة و الإخوة …) صورة سلبية تتغير فيها علاقتهم بك فيما بعد ، على العلم بأنك توازن بين ذلك في الحياة اليومية الخارجية و تعرف كيف تتصرف وتتعامل مع كل فئة من الناس و كيف ما كان مستوى وعيها و مكانتها الاجتماعية والاقتصادية . و كثيرا ما وقع هذا بين التلميذ و أستاذه و بين العامل و رب العمل و الأب و ابنته و الأم و ابنتها و “الصديق المتوارى” وراء أقنعة ، و أسماء معروفة و غير غير معروفة بأغراض لا أخلاقية .
خطورة الكتابة ( الرسائل النصية ) :
خلال حوار الفايسبوكبون في ما بينهم عبر الكتابة أو الرسائل النصية ، تشكل هذه الأخيرة كلاما غير مسموعا مما يجعلها ناقصة من حيث الوظيفة و المهمة و المقصد الذي من خلاله يريد الأطراف إبلاغه ، و هذا النقص و العجز الذي يصيب الكتابة ، يؤدي بالكلام إلى معنى آخر و يذهب به إلى غير مقصده ، و بالتالي يفهم المخاطب كلاما غير منطوق به، ومعنى غير مقصود به ، مما يجعل الحوار يتخذ أبعادا أخرى و نتائج لا يحمد عقاباها ؛ و السبب في ذلك يرجع بالأساس إلى الاختلاف الموجود بين “الكلام المنطوق” و”النص المكتوب ” هذا الاختلاف يظهر بالتحديد في الوظيفة التي يؤديها كل واحد منهما ؛ فالكلام المنطوق هو كلام مسموع بلهجة و لغة و لكنة مفهومة واضحة تظهر من خلالها المقصد و الرسالة المراد إبلاغها من ذلك الكلام … أما النص المكتوب ؛ فهو ذلك الكلام المترجم إلى الكتابة بالحروف تتعدد لغته و تغيب فيه اللكنة المسموعة التي تحدد يشكل كبير المطلوب ، و المقصد و الرسالة المراد إيصالها من خلاله .
و بما أن الاختلاف واضح بين المقارنين سلفا و أن المستعمل كثيرا في الفيسبوك هو النص المكتوب فإنه كثيرا ما يؤدي وظائف غير مرغوب فيها من المتحاوِر ، و مفهوما غير صحيحا عند المتحاوَر ، و تلعب اللكنة دورا كبيرا في التواصل ، في حين أنها تغيب هنا ، مما يجعله فاقدا لعنصر أساسي في الحوار ، وهذا هو سبب خطورة الكتابة على العلاقات الإنسانية الأسرية و المهنية و الاجتماعية … وما قد يدل على هو ما انتهت به بعض العلاقات العاطفية بمجرد طرح سؤال سيء فهمه من أحد الطرفين فتراكمت عليه عدة اختلافات و اضطرابات انتهت في آخر المطاف بالشتات و القطيعة …
إذن فالفيسبوك يبدوا في بداية الأمر شيء عادي و نحن الذين تعودنا عليه ، لذلك لا تبدو خطورته واضحة في البداية ، لأنه كان في البدء تواصل وقادنا إلى اللاتواصل ، لكننا لم نستسغ هذا الأخير لأنه يقدم لنا خدمات أخرى أنستنا في هذا الأمر، لأن كل شيء يسير بالتدريج كان من الطبيعي اعتبار النهاية عادية ، و هو الأمر الذي حدث لنا مع الفيسبوك فلم نستسغ خطورته المستقبلية لأنه يخدم مصالحنا الحالية …